ماذا تعرف عن الأكاديميين؟

السياح يزورون تلة الأكروبوليس حيث يوجد معبدا البارثينون (يسار) البالغ من العمر 2500 عام وإريخثيون القديم (يمين) في أثينا أكتوبر الماضي (أ.ب)
السياح يزورون تلة الأكروبوليس حيث يوجد معبدا البارثينون (يسار) البالغ من العمر 2500 عام وإريخثيون القديم (يمين) في أثينا أكتوبر الماضي (أ.ب)
TT

ماذا تعرف عن الأكاديميين؟

السياح يزورون تلة الأكروبوليس حيث يوجد معبدا البارثينون (يسار) البالغ من العمر 2500 عام وإريخثيون القديم (يمين) في أثينا أكتوبر الماضي (أ.ب)
السياح يزورون تلة الأكروبوليس حيث يوجد معبدا البارثينون (يسار) البالغ من العمر 2500 عام وإريخثيون القديم (يمين) في أثينا أكتوبر الماضي (أ.ب)

تحدثت في مقالة سابقة عن خطأ يتكرر في تدوين تاريخ الفلسفة، حين يتصور كثيرون أن الفكر الشكوكي كان محصوراً في الخطباء السفسطائيين الذين رد عليهم أفلاطون في بعض محاوراته التي سماها بأسمائهم. رد عليهم باسم سقراط الذي لم يكتب شيئاً، بينما يزعم السفسطائيون أن سقراط واحد منهم، وأن أفلاطون قد شوّه صورته وقوّله ما لم يقل، جاء هذا على لسان أرسطبوس السفسطائي الذي أسس مذهب اللذة الذي نسب لأبيقور في خطأ آخر سنصححه فيما بعد. يتصور كثير من المشغولين بالفلسفة أن أفلاطون قد قضى على السفسطائيين، ومال إلى هذا القول كل رجال الدين في المسيحية والإسلام، وبقوا يكررون حجج أفلاطون الرادعة للشكوكيين، كل بلغته. فعندما تدقق قليلاً ستجد أن حجج ابن حزم الأندلسي التي ساقها للرد عليهم في كتاب «الفِصل» هي ذاتها حجج أفلاطون وأرسطو، بعد أن عرّبها وأسلمها عليّ بن أحمد. طائفة أخرى مالت لهذا الرأي هم العلماء الطبيعيون الذين يرغبون في المضي ببحوثهم العلمية دون تعكير من إزعاج الشكوكي. هذه من القضايا التي لم تشتهر، أن ثمة خصومة قديمة بين العلماء وطائفة من الشكوكيين تشككوا في صحة العلم، وقدحوا في الرياضيات واسترابوا في صحة الطب كعلم.

هذه الميول التي تكاتفت أخفتت صوت الشكوكي بعض الشيء، لكنه بقي موجوداً، ومن هنا أجد في تسليط الضوء على جهودهم المعرفية مصلحة كبرى، فلولا تلك الجهود لما تطور العلم والفلسفة وفهم الدين والحياة الاجتماعية والأخلاق. الشك ضرورة لحركة الفكر وشرط للتطور، ولولا الشكوكيون لما ارتقى شيء فكري. الشك قوة حيوية لعبت دوراً كبيراً في هذا المجال.

يقولون إن أفلاطون قد قضى على السفسطائيين (الاسم القديم للشكوكيين) لكن التفتيش في بطون الكتب القديمة يدل على نقيض ما تدعيه الكتب الحديثة. أسس أفلاطون أكاديمية لطلاب الفلسفة بالقرب من أثينا في سنة 387 قبل الميلاد، وبعد موت المعلّم مرت الأكاديمية بثلاث مراحل؛ فالأولى هي الممثل الحقيقي لفلسفة أفلاطون وتلاميذه وشركائه الذين حافظوا على إرث الأستاذ كما هو على صورته منذ تأسيسها. في هذه المرحلة امتزجت الأفلاطونية بالفيثاغورية وبالنظرية الصوفية للأعداد، وكان لها دور كبير في تطوير علمي الرياضيات والفلك. ثم آلت الأكاديمية إلى مرحلة وسيطة شكوكية حين ترأس أرقاسيلاوس الأكاديمية في القرن الثالث قبل الميلاد، وكان أول شكوكي يرأسها. هذا يبدو من سخرية القدر، فالسفسطائيون الذين حاربهم أفلاطون بكل شراسة، استولوا على أكاديميته وصارت تعرف باسم «الأكاديمية الشكوكية»، خلافاً لمن يتصور أن أفلاطون قد قضى عليهم في زمانه.

وصلت إلينا حجج الشكوكيين الأكاديميين هذه في خلال كتابات شيشرون وديوجين اللايرتي والقديس أوغسطين، والمادة التي تفلسف عليها هي فلسفات ما قبل سقراط، ونسبية بروتاغوراس، ودعوى جورجياس باستحالة المعرفة وتناقلها، وأعمال أفلاطون وأرسطو. أما خصومهم الفكريون فقد كانوا الرواقيين والأبيقوريين والمناطقة الميغاريين، فهم من بقي على الساحة في تلك الحقبة التي تعرف باسم الفترة الهيلينستية، وهي الفترة التي تؤرخ بدايتها بموت الإسكندر أو موت أرسطو، وتنتهي بسنة 200 في اليونان، وسنة 300 في الشرق الأوسط.

هناك بعض الاختلافات المهمة بين الأكاديميين خلال فترة الشكوكية الأكاديمية التي استمرت إلى القرن الأول قبل الميلاد، ولكن هناك أيضاً سمة توحدهم، ألا وهي تبنيهم لمبدأ التفنيد. تلك الكلمة التي حظيت بالاهتمام من قبل كثير من الفلاسفة. بإلهام من سقراط، سعوا إلى محاربة الموقف الواثق الدوغمائي، ونظراً لأن الرواقيين كانوا أكثر الوثوقيين تأثيراً في زمانهم، فقد كرس الأكاديميون الشكوكيون طاقتهم للتصدي لهم على وجه الخصوص. لقد بدأ الشك الأكاديمي استجابة لتطوير الرواقية لنظريتها في المعرفة، نظرية تغيرت هي نفسها استجابة لنقد الشكوكيين الأكاديميين.

ولكي يدحضوا خصومهم، استخدم الأكاديميون الجدل القديم القائم على إظهار العوار في أفكار الخصم والتناقض، وبدلاً من تبني موقف ما، يكتفون بأن يكشفوا للمحاور أن اعتقاداته غير متسقة بشكل متبادل، وبالتالي فهو غير قادر على تبرير ادعائه للمعرفة. على سبيل المثال، لو أنني ادعيت أن السعادة هي اللذة الحسيّة، فسيتقدم إليّ أحد الشكوكيين من هذه المدرسة ليرشدني بناءً على المقدمات المنطقية التي أعتمدُها أن السعادة قد توجد بلا لذة حسيّة، ويترتب على ذلك أنني لم أكن أعرف حقاً ما زعمت أنني أعرفه. الافتراض العملي هو أنني لو كنت أعرف ما هي السعادة لكنت قادراً على تقديم سبب لصحة اعتقادي. وإذا تناقضت مع نفسي أو عجزت عن تقديم الأسباب المعقولة، فهذا معناه أنني لا أعرف ما هي السعادة، وحتى لو تبين أن إيماني صحيح، فأنا لا أعرف سبب صحته.

لا يملك أرقاسيلاوس شهرة كشهرة أفلاطون وأرسطو، لكن المتخصصين يعرفونه ويعرفون أنه عاش ما بين (316 – 241) قبل الميلاد على وجه التقريب لا اليقين، وأنه ترأس الأكاديمية منذ عام 268 ق. م. حتى سنة وفاته، وتُعرف أكاديميته بالأكاديمية الوسطى. وصفه المؤرخون بأنه كان يستغل أي فرصة للنقاش لإبراز مواهبه الجدلية ولكي يبز الخصوم، في كل قضية يقع النزاع حولها. منهجه في ذلك أن يأخذ بالقولين المتناقضين، لا ليبرز كذب الدعوى، وإنما لاستفزاز المزيد من التقصي والدراسة والبحث.

فترة الرئاسة هذه محورية؛ لأنه حوّل الأكاديمية فيها عن نهج أفلاطون مؤسسها بحيث أصبحت أكاديمية شكوكية، لأول مرة. وكان لديه ولدى زملائه في الأكاديمية موقف مخاصم لكل فيلسوف إثباتي يدعي معرفة بعض الحقيقة عن الطبيعة الحقيقية للأشياء. لا بد للشكوكي من خصم، وكان الخصم الأول في زمنه المدرسة الرواقية الإغريقية ورئيسها زينون، وقد تجلى الخلاف بصورة أوضح في طريقة التعليم. صاغ أرقاسيلاوس سلسلة من الحجج الموجهة خصيصاً ضد دعاوى الرواقيين المعرفية، وزعم أن مثل هذا الفيلسوف يدعي اليقين، لكنه ليس على يقين من دعواه، فكل المعلومات والمعارف التي نكتسبها عن طريق حواسنا يحتمل أن تكون غير موثوقة؛ لأنه لا يمكن أن نكون على ثقة تامة بالعقل، ولأننا لا نملك معياراً مضموناً لتمييز أحكامنا الصحيحة عن الخاطئة. وقد رفع أرقاسيلاوس شعار «لست على يقين من شيء، ولا حتى واقعة أني لست على يقين من شيء». واعتمد موقفاً يقوم على تعليق الحكم. العالم هو تمثلاتي، ولا شيء من إدراكاتنا الحسية أو تصوراتنا يضمن مشروعيتها الموضوعية.

فيما بعد، أثار الأكاديميون جدلاً حول ما أسموه «استعراض كلا الجانبين» في كل قضية، أي جانبي التأييد والاعتراض، وإظهار قوة كل جانب، وبالتالي لا يوجد سبب مقنع لقبول أي موقف. واستخدم آخرون الطريقة نفسها لاكتشاف أي جانب من القضية يمكن الدفاع عنه بشكل معقول. لكن جميع الأكاديميين اتفقوا على أن الرواقيين فشلوا في الدفاع بشكل كافٍ عن نظريتهم المعرفية، أي أنهم لم يظهروا أن المعرفة ممكنة.

ثم جاءت الأكاديمية الثالثة، ويسمونها أيضاً الجديدة، في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، وهي شكوكية أيضاً، وإن كانت قد تجاوزت موقف الوسطى. رئيسها هو قرنيادس، وهو أهم الأكاديميين، بالإضافة إلى أرقاسيلاوس، وقد عاش ما بين (214 – 126) قبل الميلاد، ويُعرف مذهبه باسم «الاحتمالية»، وهي في النهاية شكية ونسبية. ورغم كونه ممثلاً رسمياً للأفلاطونية فإنه كان ينفر أشد النفور من الوثوقية، وقد دخل في خصومة فكرية حامية مع الرواقيين مرة أخرى، تدور في الغالب حول مفهوم الحقيقة، والرغبة في هدم نظرية المعرفة الرواقية. ونفى قرنيادس وجود معيار للحقيقة، مؤكداً أن أي إدراك حسي يمكن أن نضع له تمثلاً مزيّفاً لا يمكن التفريق بينه والتمثل الصحيح، فنحن نرى تمثلاتنا للأحلام والهلوسة، وكذا تمثلنا لعالمنا الحسي، وكلاهما لا يمكن أن يوصف بالعصمة. واعترضوا على قول الرواقية بأن اللجوء إلى العقل هو الحل، بأنه لا يسلّم لهم، فالرواقية تعترف بأن تصوراتنا العقلية قامت على التجربة، والتجربة تردنا إلى الحس، والحس مشكوك في معطياته. كيف يمكن أن نصل إلى أي شيء إذا كان كل برهان يقوم على فرضية تحتاج إلى برهان؟! هنا سقط الاحتجاج بالمعيار.

ولأن الدليل على أي فرضية سوف يستند إلى معطيات الحس أو منطق العقل، وكلا هذين المصدرين غير موثوق، فلا يوجد معيار مضمون أو نهائي للمعرفة الحقيقية. هناك شك دائم في أي فرضية، وبالتالي في وجود المعرفة الحقيقية. نتيجة لذلك، قال الأكاديميون الشكوكيون إنه لا يوجد شيء مؤكد. أفضل المعلومات التي يمكننا الحصول عليها هي معلومات محتملة فقط، وسيتم الحكم عليها وفقاً للاحتمالات. ومن ثم أسس قرنيادس لنوع من نظرية التحقق ولنوع من الاحتمالية التي تشبه إلى حد ما نظرية المعرفة العلمية عند البراغماتيين والوضعيين في عصرنا.

وهاجم قرنيادس التصورات الدينية عند الرواقيين، وزعم أن تصورهم لطبيعة الله متناقض، وأن قولهم بأن الكون عاقل، لا يملك حجة حقيقية. وتشكك في دعواهم بأن عقل الإنسان مستمد من عقل كوني يحكم العالم، وقال إنهم بحاجة أولاً إلى أن يثبتوا أن عقل الإنسان لم ينتج عن الطبيعة، رغم أنه لا يتبنى أياً من الرأيين.

حكايات قرنيادس مع الرواقيين تحتوي على تفاصيل طويلة ومعارك لا تنتهي، لكن في هذه الإشارة ما يكفي. وسنختم الحديث عن قرنيادس بالقول إنه لم يكتب شيئاً لكنه كان يُدرّس تلاميذه قضاياه الثلاث: اليقين، ووجود الآلهة، والخير الأعظم. ويعترف له الحكماء بالفضل في أنه عالج مشكلة التسرع في إصدار الأحكام، والحق أنه كان مفيداً حتى للرواقيين الذين ردموا فجوات مذهبهم بسبب نقده اللاذع. رحل قرنيادس الذي قيل لا أحد بين أرسطو وأفلوطين أعظم منه، بعد أن ترك «نظرية في التحقق» ونوعاً من «الاحتمالية» يشبه إلى حد ما نظرية المعرفة العلمية للبراغماتيين والوضعيين في زماننا الحاضر.

أما الأكاديمية الجديدة فقد جنحت بالكامل في نهاية تطوافها صوب الانتقاء من الأفلاطونية والرواقية والأرسطية وبقية المذاهب الفلسفية السابقة، وفي القرنين الرابع والخامس اندفعت الأكاديمية نحو الأفلاطونية الجديدة. ثم أغلقت بأمر الإمبراطور جستنيان عام 529، وأعيد تأسيسها من جديد في عصر النهضة (1459 – 1521) بحيث أصبحت أرسطية مدرسية.

تحول الأكاديمية عن الدوغمائية الأفلاطونية إلى الشكوكية المطلقة، ثم تحولها في المرحلة الثالثة إلى الانتقائية كان النتيجة الطبيعية لصراع الأضداد، فالحاجة العملية لا بد أن تدفع الشكوكي مهما كان إيمانه بنظرية الشكوك إلى أن يختار، وإلا فلن يستطيع أن يعيش. الشكوكية الانتقائية هي مرحلة اكتمال ونضج كل مدرسة شكوكية.

* باحث سعودي


مقالات ذات صلة

إيران تكشف عن «باليستي» ومسيّرة انتحارية مع تصاعد التوترات الإقليمية

شؤون إقليمية قائد الوحدة الصاروخية أمير علي حاجي زاده يتحدث إلى بزشكيان خلال مرور شاحنة تحمل صاروخ «عماد» الباليستي خلال عرض عسكري في طهران (أ.ف.ب)

إيران تكشف عن «باليستي» ومسيّرة انتحارية مع تصاعد التوترات الإقليمية

قال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، إن بلاده ستمضي قدماً في توسع «قوة الردع»، وذلك خلال عرض عسكري سنوي بطهران شمل طائرة انتحارية، وصاروخاً باليستياً جديدين.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
شؤون إقليمية صورة نشرها إعلام «الحرس الثوري» من جولة تنغسيري بجزيرة أبو موسى اليوم

«الحرس الثوري»: قواتنا في أفضل حالاتها العملياتية بمضيق هرمز

قال قائد «الوحدة البحرية» في «الحرس الثوري»، علي رضا تنغسيري، إن قواته بمضيق هرمز «في أفضل حالاتها العملياتية» في خضم تصاعد التوترات مع إسرائيل.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
شؤون إقليمية صورة نشرتها وسائل إعلام إيرانية لفرقاطة «سهند» الأحد الماضي قبل أن تغرق بالكامل قبالة ميناء بندر عباس

الفرقاطة الإيرانية «سهند» تغرق بالكامل رغم جهود إعادة توازنها

ذكرت وسائل إعلام إيرانية أن الفرقاطة «سهند» غرقت بالكامل في مياه ضحلة، اليوم الثلاثاء، قبالة مضيق هرمز، بميناء بندر عباس جنوب البلاد.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
الاقتصاد سفينة تحمل حاويات تمر عبر قناة السويس (الموقع الإلكتروني لقناة السويس المصرية)

الاضطرابات في الممرات البحرية تُلقي بظلالها على أمن الطاقة العالمي

بينما تتجه الأنظار إلى البحر الأحمر للوقوف على حركة التجارة بعد ازدياد الهجمات على السفن العابرة، حذَّر متخصصون من التحديات التي تحيط بالممرات المائية بالمنطقة.

صبري ناجح (القاهرة)
شؤون إقليمية قوارب سريعة تابعة لـ«الحرس الثوري» خلال مناورات في جزيرة أبو موسى أغسطس الماضي (تسنيم)

«الحرس الثوري» يعلن استعراضا لـ«الباسيج البحري في محور المقاومة»

أعلن قائد بحرية «الحرس الثوري» علي رضا تنغسيري عن استعراض لـ«الباسيج البحري» في «دول محور المقاومة» الجمعة المقبل، لافتاً إلى أن قواته ستشارك بـ3 آلاف سفينة.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.