هل يخضع رواد الفضاء إلى تعديلات جينية بهدف استعمار المريخ؟

الآلات والروبوتات تمهدان لأفضل طرق استكشاف بيئة الكوكب الأحمر

رسم تخيلي لمستعمرة على كوكب المريخ
رسم تخيلي لمستعمرة على كوكب المريخ
TT

هل يخضع رواد الفضاء إلى تعديلات جينية بهدف استعمار المريخ؟

رسم تخيلي لمستعمرة على كوكب المريخ
رسم تخيلي لمستعمرة على كوكب المريخ

يبدو هذا السؤال افتراضياً، إذ ليس بمقدورنا أن نعرف ماهية الخصائص المثلى للحياة على المريخ، لذا فإن الجواب عليه: لا.

فهم ناقص لبيئة المريخ

قد نتصور أننا نفهم البيئات المريخية المختلفة، لكن الحقيقة أن معرفتنا غير مكتملة. كما أن جنسنا البشري، حتى دون تغيير، يكتشف بسرعة سبلاً لإنجاز أشياء لم يسبق التنبؤ بها، مثل طريقة المشي على القمر.

وحتى لو حاولنا ذلك، أي إجراء التغيير الجيني للرواد، فإن الأمر سيستغرق أجيالاً لتثبيت هذه التغييرات الجينية داخل مجموعة منهم (بهدف إنشاء نمط وراثي متخصص).

وإذا افترضنا أن المشروع بدأ بمتطوعين، فسوف يتعين عليه فرض المشاركة على الأجيال التالية التي تملك الجينات المطلوبة، مع رفض الأطفال الذين لا يمتلكونها. وداخل معظم المجتمعات، فإن هذا غير مقبول على الإطلاق.

وعبر فترة تنفيذ مثل هذا المشروع الممتد لسنوات، وقبل انطلاق الرحلات بين الكواكب، ستطرأ تغييرات هائلة على مجتمعنا وتقنياتنا وسياساتنا والأوضاع المالية العالمية. وسيظل هذا المشروع تحت تهديد مستمر.

جينات «معوقة» ومفيدة للبقاء

وفي الواقع، فإن أي مجموعة سكانية رائدة تصل إلى المريخ، ربما تتخلص تدريجياً من الجينات التي تعوق بقاءها هناك.

في الوقت ذاته، فإن أي مجموعة رائدة من السكان تصل إلى المريخ، وترسخ وجودها هنا، ربما تطور بنفسها على نحو طبيعي الجينات المفيدة لبقائها على المريخ، بينما تتخلص من الجينات الأخرى التي تعيق بقوة هذا البقاء. وحتى في هذه الحالة، قد يستغرق الأمر أجيالاً كثيرة. إضافة إلى ذلك، سيتطلب الأمر مجتمعاً يتقبل موت أولئك الذين لا يناسبهم العيش على المريخ. جدير بالذكر هنا أن البشرية الحديثة (على الأرض) تعمد إلى دعم الأشخاص الضعفاء، بدلاً من التخلي عنهم.

وعليه، فإن إرسال آلات رائدة إلى المريخ قبل أن يحاول البشر إنجاز ذلك، سيكون سبيلاً أسرع وأكثر إنتاجية. ويمكن «تطوير» مثل هذه الآلات والروبوتات عدة مرات خلال حياة الإنسان الواحد. وعبر تطوير هذه الآلات هنا أو على المريخ، يمكن للبشر أن يتعلموا الكثير فيما يتعلق بما قد نحتاجه للبقاء على قيد الحياة على المريخ بصفتنا بشراً عاديين.

الهندسة الجينية للإنسان

طرح كيم ستانلي روبنسون هذا التساؤل في ثلاثية رواياته عن المريخ. وأطلق على المستعمرين الأوائل للمريخ اسم المائة الأولى First Hundred، وسرعان ما انقسموا إلى فصيلين: «الخضر»، كانوا يؤيدون التعديل الوراثي، بينما عارض «الحمر» هذا الأمر. وبمرور الوقت، أصبح هذا الأمر مصدراً للتوتر.

وبالنظر إلى أن المركزية العرقية موجودة بالفعل على الأرض، بناءً على اختلافات أصغر - بما في ذلك العرق والدين والثقافة - فإن هندسة الاختلافات الجينية المهمة قد تطرح مصدراً آخر للتمييز الذي ربما يشعل صراعاً على المريخ، وكذلك بين المريخيين والناس على الأرض.

بجانب ذلك، فإن كل سمة مرغوبة تتطلب تعديل كثير من الجينات. وقد تتفاعل الجينات المعدلة بطرق غير متوقعة، ما يؤدي إلى مشكلات صحية غير متوقعة أو آثار جانبية غير مقصودة. وربما يشكل ذلك الخطوة الأولى نحو تكوين أنواع جديدة، رغم أن هذا قد يتطلب فترة عزلة طويلة لسكان المريخ.

ويشكل الإشعاع الكوني المؤين أحد المخاطر الأشد خطورة، التي تهدد البشر الذين يسافرون إلى الفضاء أو يعيشون على سطح المريخ، وذلك لافتقار المريخ إلى المجال المغناطيسي للأرض (الذي يحرف الإشعاع الكوني والشمسي)، والغلاف الجوي السميك للأرض الذي يمتصه.

مقاومة مخاطر الإشعاع الكوني

ويعتقد بعض علماء الوراثة، مثل جورج تشرش، أن الجينات يمكن تعديلها لجعل البشر أكثر مقاومة للتأين. وربما يتمثل خيار آخر في دمج الحمض النووي لأنواع أخرى مقاومة للإشعاع، مثل «بطيئات المشي المجهرية» microscopic tardigrades. (تعد هذه الكائنات الحية أيضاً أقوى وأغرب الحيوانات في العالم وأول نوع من الحيوان في العالم يستطيع العيش في الفضاء الخارجي - ويكيبيديا - المحرر).

وبطبيعة الحال، فإن أحد البدائل التقليدية أن يعيش المستعمرون الجدد للكوكب داخل مستوطنات تحت السطح.

وبدلاً من الدروع المكلفة والثقيلة، يمكن لرواد الفضاء الذين يسافرون عبر الفضاء بين النجوم، أن يتنفسوا مزيجاً من الغازات العلاجية، للحماية من التعرض للإشعاع. وهنا على الأرض يتنفس بعض الغواصين المحترفين مخاليط الغاز، لتجنب مرض الضغط أو تخدير النيتروجين. وربما يستخدم رواد الفضاء في المستقبل «التنفس السائل»، كما ورد في فيلم «الهاوية» (The Abyss).

أي مجموعة سكانية في المريخ ستتخلص من جيناتها المعوقة لضمان بقائها

جدير بالذكر أن قوة المجال الجاذبي على سطح المريخ تعادل 38 في المائة من قوة المجال الجاذبي على الأرض، ما قد يؤدي إلى ضمور العضلات وفقدان كثافة العظام (هشاشة العظام). كما أن التكيف مع القلب والأوعية الدموية سيكون مطلوباً كذلك.

وفي حين أن التعديل الجيني أحد الخيارات، فإن الحلول الفنية متاحة كذلك، مثل توليد الجاذبية الاصطناعية عبر دوران المركبات الفضائية، كما صورتها مركبة إندورانس الفضائية في فيلم «إنترستيلار». ويمكن وضع هذه الأسطوانات الدوارة، إما في مدار حول المريخ، وإما وضعها على مسارات على السطح في شكل مخاريط دوارة، مع مراعاة قوة الجاذبية التي يتمتع بها الكوكب.

روبوتات المريخ

قد يكون أفضل «إنسان» مناسب للمريخ هو «داليك» (Dalek)، الروبوت الشهير في مسلسل «دكتور هو» الإنجليزي. وإذا كان لنا أن نعيش بالكامل داخل نظام لدعم الحياة، فإننا نحتاج إلى التكيف مع ذلك. لذلك، يجري اختيار رواد الفضاء بأجسام أصغر ووزن أخف، كي يتناسبوا بشكل أفضل مع المركبات الفضائية. كما أن معدل الأيض (التمثيل الغذائي) لديهم أقل، وبالتالي فإن المؤن تستمر لفترة أطول.

وسيحتاج هؤلاء «الداليك» إلى هيكل خارجي آلي مُعاد تصميمه، لأن الغطاسات التقليدية الموجودة على أذرعهم لا تمنحهم مهارة جيدة، وإلا سيحتاجون إلى الاستعانة ببعض البشر العاديين لإنجاز مهام معقدة.

*مجلة «نيو ساينتست»، خدمات «تريبيون ميديا».


مقالات ذات صلة

مدينة أميركية تتجمّد... وحرارتها تهبط إلى ما دون المريخ!

يوميات الشرق المريخ أكثر دفئاً من الأرض ليوم واحد (ناسا)

مدينة أميركية تتجمّد... وحرارتها تهبط إلى ما دون المريخ!

شهدت مدينة منيابوليس، كبرى مدن ولاية مينيسوتا الأميركية، انخفاضاً لافتاً في درجات الحرارة الشهر الماضي، حتى باتت، لبرهة، أبرد من كوكب المريخ نفسه.

«الشرق الأوسط» (مينيسوتا (الولايات المتحدة))
علوم صورة للمسبار «بيرسيفيرنس» تعود إلى يوليو 2024 (ناسا - أ.ب)

علماء يلتقطون «صوت البرق» على سطح المريخ

ذكرت وكالة أسوشييتد برس أن العلماء تمكنوا من رصد ما يعتقدون أنه برق على كوكب المريخ، وذلك من خلال التنصّت على صوت رياح دوّارة سجّلها مسبار «بيرسيفيرنس».

«الشرق الأوسط» (كيب كانافيرال، فلوريدا)
تكنولوجيا صورة نشرتها «ناسا» تظهر مركبة «بيرسيفيرانس» التابعة لناسا في المريخ وهي تلتقط صورة في 23 يوليو 2024 (أ.ب)

مسبار أميركي يعثر على دلالة محتملة لوجود حياة قديمة على كوكب المريخ

عثر مسبار أميركي على عينة من صخور تشكلت قبل مليارات السنين من رواسب في قاع بحيرة تحوي دلالات محتملة على وجود ميكروبات على كوكب المريخ منذ زمن بعيد.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
تكنولوجيا صاروخ فالكون 9 التابع لشركة «سبيس إكس» ينطلق إلى محطة الفضاء الدولية من كيب كانافيرال في فلوريدا الأميركية... 1 أغسطس 2025 (رويترز)

«سبيس إكس» تُبرم اتفاقية تاريخية مع إيطاليا لاستكشاف المريخ

وقّعت شركة «سبيس إكس» المملوكة للملياردير إيلون ماسك، شراكة رائدة مع وكالة الفضاء الإيطالية لنقل أدوات علمية إلى المريخ.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق كوكب المريخ (الشرق الأوسط)

دراسة: الأشعة الكونية قد تدعم نشوء الحياة في المريخ وأقمار النظام الشمسي

دراسة حديثة تكشف عن إمكانية نشوء الحياة في أعماق كوكب المريخ وبعض الأقمار المغطاة بالجليد في النظام الشمسي بفعل الأشعة الكونية.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟
TT

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

يعتمد العلماء منذ سنوات طويلة على خرائط الجينات البشرية لفهم كيفية عمل الجسم وتفسير أسباب الأمراض، بل أيضاً لتطوير علاجات دقيقة لها.

بيانات وراثية أوروبية

لكنّ دراسة علمية حديثة كشفت أن هذه الخرائط رغم أهميتها لا تُمثل البشرية جمعاء بعدالة؛ لأنها بُنيت في الأساس على بيانات وراثية لأشخاص من أصول أوروبية، ما أدّى إلى تجاهل جزء كبير من التنوع الجيني العالمي.

وتُشير الدراسة التي نُشرت في مجلة «Nature Communications» في 3 ديسمبر (كانون الأول) 2025 إلى أن هذا الخلل العلمي ليس تفصيلاً بسيطاً، بل قد يؤثر مباشرة في فهمنا للأمراض، وكيف تختلف بين الشعوب، ولماذا تظهر بعض الحالات الصحية بشكل أكثر شيوعاً أو بشدة أكبر لدى مجموعات سكانية دون غيرها.

ما هي خرائط الجينات؟

خرائط الجينات بمثابة دليل إرشادي يوضح مواقع الجينات في الحمض النووي «دي إن إيه» (DNA)، ويشرح كيف تُستخدم هذه الجينات داخل الخلايا لإنتاج البروتينات، وهي الجزيئات المسؤولة عن معظم وظائف الجسم. لكن الجين الواحد لا يعمل دائماً بالطريقة نفسها، إذ يمكنه إنتاج أكثر من نسخة من التعليمات الجينية تُعرف بجزيئات الحمض النووي الريبي «RNA»، من خلال عملية تُسمى «التضفير» (splicing). وقد تؤدي هذه النسخ المختلفة إلى بروتينات متباينة، ومن ثم إلى اختلافات في وظائف الخلايا والاستجابة للأمراض.

ما التضفير الجيني؟

عند قراءة الخلية للتعليمات الوراثية لا تستخدم النص الخام كما هو، فبعد نسخ الجين إلى الحمض النووي الريبي «RNA» تقوم الخلية بعملية تُسمى التضفير؛ حيث تُزال الأجزاء غير الضرورية، وتُربط الأجزاء المفيدة فقط لتكوين رسالة جينية جاهزة لصنع البروتين.

الأهم من ذلك أن الخلية قد تُغيّر طريقة الربط أحياناً في عملية تُعرف بـالتضفير البديل، ما يسمح للجين الواحد بإنتاج عدة بروتينات مختلفة، وهذه الآلية تفسر التنوع الكبير في وظائف الخلايا، كما تُساعد العلماء على فهم سبب اختلاف الأمراض واستجابتها للعلاج بين الأفراد والشعوب.

أين تكمن المشكلة؟

المشكلة الأساسية، حسب الدراسة، أن معظم خرائط الجينات الحالية اعتمدت على عينات وراثية من أشخاص ذوي أصول أوروبية. ورغم أن البشر يتشابهون جينياً بنسبة تقارب 99.9 في المائة فإن النسبة المتبقية تعكس تاريخاً طويلاً من التطور والاختلافات التي نشأت بسبب العزلة الجغرافية والبيئية.

ويضيف المؤلف المشارك الرئيسي الدكتور روديريك غويغو من مركز «تنظيم الجينوم» بمعهد «برشلونة للعلوم والتكنولوجيا» بإسبانيا، أنه وبسبب هذا التركيز الأوروبي لم تُسجَّل الكثير من النسخ الجينية الموجودة لدى سكان أفريقيا وآسيا والأميركتين، ونتيجة ذلك ظلّت أجزاء مهمة من النشاط الجيني البشري غير مرئية للعلماء.

ماذا اكتشف الباحثون؟

واستخدم فريق البحث تقنية متطورة تُعرف باسم «تسلسل الحمض النووي الريبي طويل القراءة»، وهي تقنية تسمح بقراءة جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» كاملة، وليس على شكل أجزاء صغيرة كما في الطرق الأقدم.

وقام الباحثون بتحليل خلايا دم من 43 شخصاً ينتمون إلى مجموعات سكانية متنوعة حول العالم. وكانت النتيجة مفاجئة؛ حيث جرى اكتشاف نحو 41 ألف نسخة من جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» لم تكن مدرجة في خرائط الجينات الرسمية. والأهم من ذلك أن نسبة كبيرة من هذه النسخ يمكن أن تنتج أشكالاً جديدة أو مختلفة من البروتينات لم يكن العلماء على علم بوجودها من قبل.

وتبيّن أن هذه النسخ الجديدة تظهر بشكل أكبر لدى الأشخاص من أصول غير أوروبية، في حين كانت معظم النسخ لدى الأوروبيين معروفة مسبقاً، ما يؤكد وجود تحيّز علمي غير مقصود في قواعد البيانات الجينية.

لماذا يهمنا هذا الاكتشاف؟

وتكمن أهمية هذه النتائج في ارتباط بعض النسخ الجينية المكتشفة حديثاً بجينات معروفة لها علاقة بأمراض مثل الربو والذئبة الحمراء والتهاب المفاصل الروماتويدي واضطرابات الكولسترول. وهذا لا يعني بالضرورة أن هذه النسخ تسبب الأمراض، لكنه يعني أن العلماء قد يكونون قد أغفلوا إشارات جينية مهمة تُساعد على فهم اختلاف المرض بين الشعوب.

فإذا كانت الخرائط الجينية لا تتضمن كل النسخ الموجودة فعلياً فإن الأبحاث الطبية التي تعتمد عليها قد تكون ناقصة، وقد لا تُفسر بدقة لماذا يستجيب بعض المرضى للعلاج في حين لا يستجيب آخرون.

نحو طب أكثر عدالة

تُشير الدراسة إلى أن الاعتماد على «جينوم مرجعي واحد» لجميع البشر لم يعد كافياً، فعندما استخدم الباحثون خرائط جينية شخصية لكل فرد ظهرت نسخ إضافية لم تكن مرئية من قبل، خصوصاً لدى ذوي الأصول الأفريقية.

ولهذا يدعو العلماء إلى العمل على إنشاء ما يُعرف بـ«البانترانسكريبتوم البشري» (pantranscriptome) وهو مشروع طموح يهدف إلى جمع كل نسخ الحمض النووي الريبي «RNA» المستخدمة في مختلف أنسجة الجسم وعبر مراحل العمر ولدى جميع الشعوب.

الخطوة التالية

ويعترف الباحثون بأن دراستهم ما زالت محدودة، إذ شملت نوعاً واحداً من الخلايا وعدداً صغيراً نسبياً من الأشخاص. ومع ذلك فإن حجم الاكتشافات يُشير إلى أن ما نعرفه اليوم قد لا يكون سوى «قمة جبل الجليد».

ويؤكد العلماء أن بناء خرائط جينية أكثر شمولاً لن يكون مجرد إنجاز علمي بل خطوة أساسية نحو طب جينومي أكثر دقة وعدالة يراعي التنوع الحقيقي للبشرية، ويضمن أن يستفيد الجميع من التقدم العلمي، لا فئة واحدة فقط.


بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
TT

بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض

لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ يشارك في قراءة الأشعة، واقتراح خطط العلاج، وكتابة ملاحظات السجل الطبي، وأحياناً في ترتيب أولويات المرضى أنفسهم.

تساؤلات أخلاقية

ومع هذا الدخول الصامت، وُلد سؤال أكبر من التقنية ذاتها: ما الذي يجب أن يعرفه المريض؟ ومَن يضمن عدالة القرار؟ ومَن يتحمّل الخطأ إن وقع؟

هذه ليست أسئلة فلسفية مجردة، بل أسئلة أخلاقية يومية، يواجهها الطب الحديث في عام 2025، في غرف الطوارئ، وعيادات الأورام، ومراكز الأشعة، وحتى في التطبيقات الصحية التي يحملها المرضى في جيوبهم.

حين يُصبح القرار مشتركاً... مَن المسؤول؟

في الطب التقليدي، كانت المسؤولية واضحة نسبياً: الطبيب يشخّص، ويقرّر، ويتحمّل تبعات قراره. أما في الطب المدعوم بالذكاء الاصطناعي، فقد أصبح القرار مشتركاً، ولكنه غير متكافئ:

- خوارزمية تقترح.

- طبيب يراجع أو يثق.

- مريض لا يرى إلا النتيجة.

فإذا أخطأت الخوارزمية في قراءة صورة، أو بالغت في تقدير خطر، أو تجاهلت متغيراً نادراً... من يُسأل؟ هل هو الطبيب الذي اعتمد عليها؟ أم المستشفى الذي اشترى النظام؟ أم الشركة التي درّبت الخوارزمية على بيانات غير مكتملة؟

هنا، لا يكفي أن نقول إن الذكاء الاصطناعي «أداة مساعدة»، فالأداة التي تُغيّر مسار قرار علاجي قد تُغيّر مصير إنسان.

قرار واحد... ووجوه مختلفة: سؤال العدالة الخوارزمية

عدالة الخوارزمية... هل هي محايدة حقّاً؟

يُروَّج للذكاء الاصطناعي بوصفه أكثر عدالة من البشر، لأنه لا يتعب ولا يتحيّز عاطفياً، لكن الحقيقة العلمية تقول شيئاً أكثر تعقيداً: الخوارزمية ترث تحيّزات البيانات التي دُرِّبت عليها. فإذا كانت البيانات تمثّل فئات عمرية أو عرقية أو جغرافية دون غيرها، فإن القرار الناتج قد يكون دقيقاً لفئة... وخاطئاً لأخرى.

وإذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تُدرَّب في بيئات صحية غربية متقدمة، فهل تكون قراراتها عادلة حين تُستخدم في سياقات صحية مختلفة في العالم العربي أو الدول النامية؟

العدالة هنا ليست شعاراً أخلاقياً، بل شرط علمي وسريري. خوارزمية غير عادلة قد تكون أخطر من طبيب متعب.

حق المريض في المعرفة... إلى أي حدّ؟

أحد أكثر الأسئلة حساسية اليوم هو: هل يحق للمريض أن يعرف أن قرار علاجه أسهم فيه ذكاء اصطناعي؟ أخلاقياً، يميل الجواب إلى «نعم»، فالمريض ليس مجرد متلقٍّ للعلاج، بل شريك في القرار، ومن حقه أن يعرف كيف صُنِع هذا القرار، وبأي أدوات، وعلى أي افتراضات.

لكن الواقع السريري أكثر تعقيداً. لا أحد يريد أن يُربك المريض بتفاصيل تقنية لا يفهمها، أو أن يُضعف ثقته بالعلاج، أو أن يحوّل العيادة إلى قاعة شرح خوارزميات. هنا يظهر التحدي الحقيقي: كيف نُفصح دون أن نُرهق؟ وكيف نُصارح دون أن نُقلق؟

الطريق الأخلاقي ليس في الصمت، ولا في الإغراق بالمصطلحات، بل في الإفصاح الذكي: أن يُقال للمريض، بلغة إنسانية بسيطة، إن النظام ساعد الطبيب في التحليل، لكن القرار النهائي بقي بيد الإنسان، وتحت مسؤوليته.

الطبيب بين الثقة والكسل المعرفي

مع ازدياد دقة الأنظمة الذكية، يواجه الأطباء خطراً صامتاً لا يُناقَش كثيراً: الكسل المعرفي. إذ حين يعتاد الطبيب على أن «الخوارزمية لا تخطئ»، قد يتراجع دوره من ناقد علمي إلى مُصدِّق تقني. وهنا لا يصبح الذكاء الاصطناعي مساعداً، بل سلطة خفية.

الطب، في جوهره، ليس قراءة أرقام فقط، بل فهم سياق: مريض قلق، تاريخ اجتماعي، عوامل نفسية، تفاصيل لا تظهر في البيانات. والخطر الحقيقي ليس أن تُخطئ الخوارزمية، بل أن يتوقف الطبيب عن مساءلتها.

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لا تُطالب الأطباء برفض التقنية، بل تطالبهم بشيء أبسط وأعمق: أن يبقى الضمير يقظاً، والعقل ناقداً، وألا يُسلِّم القرار الطبي النهائي إلا بعد فهمه، لا بعد نسخه.

حين يتقدّم القرار الآلي... مَن يقود الضمير؟

الشفافية... حين لا نفهم كيف وصل القرار

واحدة من أعقد المعضلات الأخلاقية اليوم هي ما يُعرف بـ«الصندوق الأسود»، فكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تصل إلى قرارات دقيقة إحصائياً، لكنها تعجز عن شرح كيف ولماذا وصلت إلى هذه النتيجة.

فكيف يُحاسَب قرار لا يمكن تفسيره؟ وكيف يُناقَش تشخيص لا نعرف مساره المنطقي؟ وهل يجوز أخلاقياً أن نُخضع مريضاً لعلاج، لأن «الخوارزمية قالت ذلك»، دون تفسير قابل للفهم البشري؟

الطب لا يعيش على الدقة وحدها، بل على الشرح والثقة. والمريض لا يطلب دائماً نسبة مئوية، بل يريد أن يفهم. ولهذا، فإن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الطب تدفع اليوم بقوة نحو ما يُسمّى «الذكاء القابل للتفسير»، لا لأنه أجمل علمياً، بل لأنه أكثر إنسانية.

المساءلة القانونية... فراغ يتّسع

إذا حدث الخطأ، يبدأ السؤال الأصعب: مَن يُحاسَب؟ القوانين الصحية في معظم دول العالم لم تُصمَّم لعصر تشارُك القرار بين الإنسان والآلة. فلا هي تُدين الخوارزمية، ولا تُعفي الطبيب، ولا تُحدِّد بوضوح مسؤولية الشركات المطوِّرة.

هذا الفراغ القانوني ليس تفصيلاً إدارياً، بل خطر أخلاقي حقيقي.

فمن دون مساءلة واضحة، قد يُغري الذكاء الاصطناعي بعض الأنظمة الصحية بتوسيع استخدامه بلا ضوابط، أو تحميل الطبيب وحده مسؤولية قرار لم يصنعه منفرداً، ولهذا، فإن النقاش الأخلاقي اليوم لم يعد ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة تشريعية: قوانين تُحدِّد المسؤولية، وتحمي المريض، وتُعيد رسم حدود الثقة بين الإنسان والتقنية.

الخلاصة: حين تسبق الخوارزمية... يجب أن يتقدّم الضمير

الذكاء الاصطناعي في الطب ليس شراً ولا خلاصاً. إنه مرآة لما نضعه فيه: بياناتنا، وقيمنا، وانحيازاتنا.

فإن قُدِّم بلا أخلاق، تحوّل إلى أداة باردة، وإن وُضع في يد طبيب بلا مساءلة، أصبح سلطة صامتة. وإن أُدير بحكمة، أعاد للطب جوهره الأصيل: أن يُنقذ الإنسان دون أن يُلغيه.

وكما قال ابن سينا قبل ألف عام: «العلم بلا ضمير خطر على النفس». وفي عصر الخوارزميات، لعل أخطر ما نخسره ليس الخطأ التقني... بل أن ننسى أن الطب، في النهاية، فعل رحمة قبل أن يكون قراراً ذكياً.


دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
TT

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة

لطالما كان توقيت وصول الإنسان الحديث إلى أستراليا وكيفية حدوث ذلك واحداً من الأسئلة المثيرة في تاريخ البشرية. وتشير دراسة جينية جديدة إلى أن البشر وصلوا إلى القارة القديمة المعروفة باسم «ساهول» قبل نحو 60 ألف عام، وقد سلكوا في ذلك مسارَيْن مختلفَيْن عبر البحر، في واحدة من أقدم الأدلة المعروفة على الملاحة البحرية المتعمدة.

وقد نُشرت نتائج الدراسة في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بمجلة «Science Advances»، إذ دعّمت ما يُعرف بفرضية «التسلسل الزمني الطويل» التي تفترض أن أولى موجات الاستيطان البشري في أستراليا حدثت قبل ما بين 60 و65 ألف سنة، وليس في فترة لاحقة، كما افترضت بعض النظريات السابقة.

قارة قديمة ونقاش طويل

كانت «ساهول» (Sahul) قارة واحدة تضم ما يُعرف اليوم بأستراليا وغينيا الجديدة وتسمانيا. ومع ارتفاع مستويات البحار بعد العصر الجليدي الأخير قبل نحو 9 آلاف عام انفصلت هذه اليابسة إلى القارات والجزر الحالية.

وعلى مدى عقود اختلف العلماء حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى هذه المنطقة، ففي حين افترضت بعض الدراسات وصولاً متأخراً نسبياً قبل نحو 47 إلى 51 ألف عام، قدمت الدراسة الجديدة أدلة قوية على استيطان أقدم بكثير.

ويقول عالم الآثار كريستوفر كلاركسون، من جامعة غريفيث في أستراليا الذي لم يشارك في الدراسة، إن هذه أول دراسة شاملة تربط بين علم الآثار والوراثة والمناخ والملاحة البحرية، وتقدم حجة قوية للغاية حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى أستراليا.

تتبع الأصول عبر خط الأم

وقد اعتمد الباحثون على نوع خاص من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA يُعرف بالحمض النووي للميتوكوندريا، الذي يُورث غالباً من الأم فقط. وتُعد هذه المادة الوراثية أداة مهمة لتتبع السلالات البشرية عبر آلاف الأجيال.

وحلل الفريق الجينومات الميتوكوندرية لنحو ألف شخص معظمهم من السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة إلى جانب نحو 1500 جينوم منشور سابقاً. ومن خلال تتبع الطفرات الوراثية الصغيرة تمكّن الباحثون من إعادة بناء سلالات بشرية قديمة تعود إلى نحو 60 ألف عام.

مساران للهجرة نحو «ساهول»

ومن أبرز نتائج الدراسة أن البشر الأوائل لم يصلوا إلى «ساهول» عبر طريق واحد فقط بل عبر مسارَين مختلفين في الفترة الزمنية نفسها تقريباً.

كما يرجّح الباحثون أن إحدى المجموعتَين سلكت مساراً شمالياً عبر ما يُعرف اليوم بالفلبين وشرق إندونيسيا، في حين جاءت مجموعة أخرى عبر مسار جنوبي انطلقت فيه من جنوب شرق آسيا القارية مع عبور مساحات من البحر المفتوح.

وتشير النتائج إلى أن معظم السلالات الحية اليوم بين السكان الأصليين لأستراليا وغينيا الجديدة تعود إلى أسلاف اتبعوا المسار الشمالي.

ويقول عالم الآثار، آدم بروم، من جامعة غريفيث الأسترالية الذي لم يشارك أيضاً في الدراسة، إن هذه النتائج تقدم دعماً قوياً لفكرة أن المسار الشمالي كان المفتاح في الاستيطان الأول لأستراليا، مشيراً إلى اكتشافات حديثة لفنون كهوف قديمة جداً في إندونيسيا تدعم هذا الطرح.

أصل أفريقي واحد

وعلى الرغم من اختلاف المسارات تشير الدراسة إلى أن المجموعتَين تنحدران من سلالة بشرية واحدة خرجت من أفريقيا قبل نحو 70 إلى 80 ألف عام. ويُعتقد أن هذا الانقسام حدث في جنوب أو جنوب شرق آسيا قبل 10 إلى 20 ألف عام من الوصول إلى «ساهول».

ويؤكد الباحث المشارك في كلية العلوم التطبيقية بجامعة هدرسفيلد في المملكة المتحدة، مارتن ريتشاردز، أن السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة يمتلكون أقدم سلالة بشرية متصلة خارج أفريقيا دون انقطاع.

دليل مبكر على الملاحة البحرية

ولا تقتصر أهمية الدراسة على الجانب الجيني فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على القدرات التقنية للإنسان القديم، فالوصول إلى «ساهول» تطلّب عبور مسافات طويلة من البحر المفتوح حتى في فترات انخفاض مستوى سطح البحر.

وتقول الباحثة المشاركة هيلين فار، من مركز علم الآثار البحرية بقسم الآثار في جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، إن هذه الرحلات لم تكن نتيجة انجراف عشوائي بل دليل على استخدام القوارب والقيام برحلات بحرية محددة ومقصودة قبل نحو 60 ألف عام.

إعادة رسم تاريخ الهجرة البشرية

وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن الإنسان الحديث كان أكثر قدرة على التخطيط والتنقل والاستكشاف عما كان يُعتقد سابقاً، وأن استيطان أستراليا لم يكن حدثاً واحداً بسيطاً بل عملية معقدة شاركت فيها مجموعات متعددة ومسارات مختلفة.

ومع استمرار تطور تقنيات تحليل الحمض النووي واكتشاف مواقع أثرية جديدة يتوقع العلماء أن تتضح صورة أكثر دقة عن بدايات انتشار الإنسان الحديث حول العالم، لتؤكد أن أستراليا كانت من أوائل محطات هذه الرحلة البشرية الكبرى.