مع تقدمنا في السن، وإصابتنا ببعض الأمراض، يمكن أن تتدهور حواسنا. ولكن في حين أن الضعف الذي يصيب السمع أو البصر يظهر بسرعة، فإن تدهور حاسة الشم قد يستغرق أشهراً، أو حتى سنوات، قبل أن يصبح واضحاً.
وتكمن خطورة هذا الأمر في ارتباط قوة حاسة الشم لدينا ارتباطاً وثيقاً بالمزاج والإدراك والرفاهية العامة، وفقاً لما أكدته دراسات عدة أُجريت في السنوات الأخيرة، وهو أمر لا يدركه كثير من الأشخاص، حسبما نقلته صحيفة «التلغراف» البريطانية.
عدم تقدير قيمة حاسة الشم
في عام 2022، سأل باحثون مجموعة من 407 طلاب أميركيين سؤالاً: إذا اضطررتم للتخلي عن إحدى حواسكم، فأي حاسة ستختارون العيش من دونها؟
وقد كان الأمر المثير للدهشة والاهتمام بالنسبة للباحثين، هو أن أكثر من 8 من كل 10 طلاب أشاروا إلى أنهم يميلون إلى التخلي عن حاسة الشم. لم يُقدِّروا هذه الوظيفة كثيراً، لدرجة أن ربع المشاركين أخبروا الباحثين أنهم سيفقدونها إذا ما خُيِّروا بين ذلك وبين الاحتفاظ بهواتفهم الذكية.
وعبَّر البروفسور باري سميث، المدير المؤسس لمركز دراسة الحواس بجامعة لندن، عن دهشته الشديدة من هذا الأمر، وقال: «أظهرت دراسة نُشرت في المجلة الدولية لعلوم الأعصاب، أن الأشخاص الذين فقدوا حاسة الشم يُصابون بالاكتئاب أكثر من الذين فقدوا بصرهم. فقدان حاسة الشم قد يكون له تأثير مدمر على حياتنا، وقد يؤثر سلباً على صحتنا، وهذا الأمر لا يدركه كثيرون».
وهناك أدلة متزايدة تُظهر أن كلّاً من مزاجنا وإدراكنا وصحتنا العامة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى قدرتنا على استشعار بيئتنا من خلال مستقبلاتنا الشمِّية.
ويقول سميث: «مع أننا قد لا نركز عليها بوعي، فإن حاسة الشم لدينا هي أكثر ما يثير فينا الذكريات. حتى بعد عقود، يمكن لرائحة معينة أن تُعيد إلى ذهنك ذكريات بعينها. وهذا الأمر لا يحدث بالقوة نفسها مع الحواس الأخرى».
كيف تساعد حاسة الشم على حفظ الذكريات؟
تحتوي أنوفنا على مئات من مستقبلات الروائح، كل منها مُهيأ للتفاعل مع جزيئات مُحددة. عندما تدخل هذه الجزيئات أنفك وترتبط بمستقبلاتها، تُطلق الخلايا العصبية الحسية إشارات كهربائية تنتقل بسرعة إلى أجزاء مُختلفة من دماغك، مثل القشرة الشمِّية التي تُميز الروائح، واللوزة الدماغية التي تُشارك في توليد الانفعالات، والحُصين الذي يُخزن ويُنظم الذكريات.
وإذا اعتقد الحُصين أن الرائحة مُهمة أو مُرتبطة بلحظة عاطفية مُحددة، فيُمكنه «حفظ» المعلومات وتخزينها إلى أجل غير مُسمى.
فقدان حاسة الشم قد يشير إلى إصابتك بمرض خطير
في السنوات القليلة الماضية، ظهرت أدلة متزايدة تشير إلى أن فقدان حاسة الشم هو أحد أعراض مرض خطير أو إصابة.
ويقول البروفسور سميث: «قد تفقد حاسة الشم بعد إصابة في الرأس، عندما تنقطع الأعصاب المؤدية إلى الدماغ».
ويضيف: «يمكن أن يُسبب التهاب الجيوب الأنفية، أو فيروس ما، فقدان حاسة الشم أيضاً. وقد أظهرت البحوث أن فقدان حاسة الشم التدريجي يمكن أن يكون بمنزلة إنذار مُسبق لاحتمالية الإصابة بمشكلات، مثل الخرف أو مرض باركنسون».
حاسة الشم والقدرات العقلية
في دراسة أُجريت عام 2014 في لايبزيغ بألمانيا، خضع 7 آلاف مشارك لاختبارات حول حساسيتهم للروائح المختلفة، وقدرتهم على التمييز بينها، وقدراتهم العقلية.
وكان أداء من يتمتعون بحاسة شم قوية أفضل في الاختبارات المعرفية. في المقابل، كلما ضعفت حاسة الشم تراجعت درجات المشاركين في الطلاقة اللفظية والحفظ ومدى الانتباه.
ووجدت دراسة أجريت عام 2021 في جامعة ولاية سان دييغو بكاليفورنيا، أن أداء الأشخاص في اختبارات حساسية الروائح بدا وكأنه يتنبأ بمن سيُصاب بضعف إدراكي خفيف، ومن سيُصاب بمرض ألزهايمر. وقد اعتُبرت هذه الاختبارات مؤشراً أفضل لتحديد مدى تطور الحالة من فحص الحالة العقلية الذي يستخدمه الأطباء العامون وأطباء الأعصاب.
حاسة الشم والاكتئاب
وجد العلماء أيضاً روابط بين ضعف حاسة الشم والاكتئاب. فقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة دريسدن للتكنولوجيا في ألمانيا عام 2022، وجود علاقة بين قدرة المرضى على الشم وأعراض الاكتئاب؛ فكلما تحسنت وظيفة حاسة الشم لديهم، تحسنت حالتهم المزاجية.
ويبدو أن فحوصات الدماغ تؤكد صحة هذا الأمر، إذ يصاحب ضعف حاسة الشم فقدان المادة الرمادية وتقلص الحُصين، وهي تغيرات مرتبطة بالتدهور المعرفي والاكتئاب.
هل يمكننا تدريب حاسة الشم لدينا على إبطاء الخرف أو الوقاية منه؟
هناك شبه إجماع بين العلماء على أن تعزيز حاسة الشم يمكن أن يزيد من استمتاع الشخص بالحياة، وربما يعزز مهاراته الإدراكية.
ويؤمن البروفسور سميث بهذا؛ مشيراً إلى عدد من الدراسات التي تُظهر أن تدريب حاسة الشم يمكن أن يُبقيك أكثر نشاطاً إدراكياً.
ويقول: «تابعت إحدى الدراسات أشخاصاً في السبعينات من عمرهم، بعضهم لعبوا لعبة سودوكو، وآخرون مارسوا تدريباً يومياً على الشم لمدة 3 أشهر. ووجد الباحثون أن الأشخاص الذين دربوا حاسة الشم لديهم كانوا أكثر قدرة على التذكر، مقارنة بالأشخاص الذين لعبوا السودوكو».
وهناك دراسة نُشرت عام 2016 في مجلة «Frontiers of Neuroscience» تشير إلى أن صانعي العطور لديهم مادة رمادية في الدماغ أكثر من الأشخاص في المهن الأخرى، وهذا يشير إلى أن تدريب حاسة الشم يعزز المخ والإدراك والذاكرة.
ماذا يعني تدريب حاسة الشم وكيف يحدث؟
في عام 2009، أجرى البروفسور توماس هاميل من جامعة دريسدن دراسة للتحقق مما إذا كان التعرض المتكرر للروائح لفترة قصيرة على مدار 3 أشهر سيؤثر على القدرة الشمِّية لمجموعة من المصابين بفقدان حاسة الشم. وأُعطيت مجموعة من المتطوعين 4 زيوت عطرية، هي الورد، والأوكالبتوس، والقرنفل، والليمون، وطُلب منهم شم كل منها يومياً، صباحاً ومساءً، لمدة 10 ثوانٍ في كل مرة على مدار 12 أسبوعاً، بينما لم تُعطَ المجموعة الأخرى أي عطور.
وفي نهاية الـ12 أسبوعاً، وجد الباحثون أن 30 في المائة من المرضى الذين استنشقوا الزيوت قد شهدوا تحسناً في وظيفة الشم، مقارنة بالمجموعة الأخرى.
ويقول البروفسور سميث: «تدريب الشم بالتأكيد لن يُسبب ضرراً؛ بل بالعكس قد يفيدك كثيراً. افعل هذا كل ليلة، وكل صباح، وستشعر بحيوية أكثر من أي وقت مضى».
وأشار إلى أن أفضل طريقة لتدريب حاسة الشم هي باستخدام أحد الزيوت الأربعة المستخدمة في التجربة، وهي: الورد، والأوكالبتوس، والقرنفل، والليمون؛ حيث ينبغي على الشخص وضع 3 قطرات من كل زيت عطري على قطعة من القطن وشمها.
كما قال إن رائحة القهوة أيضاً قد تحفز حاسة الشم.



