«الرواية السعودية» تستعرض عنفوانها في الحيّ الثقافي بقطر

انطلاق فعاليات مهرجان «كتارا» للرواية العربية 2025

اختار مهرجان «كتارا» للرواية العربية في قطر «الرواية السعودية» «ضيف شرف» والأديب والدبلوماسي الراحل الدكتور غازي القصيبي «شخصية العام» للدورة الحالية من المهرجان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
اختار مهرجان «كتارا» للرواية العربية في قطر «الرواية السعودية» «ضيف شرف» والأديب والدبلوماسي الراحل الدكتور غازي القصيبي «شخصية العام» للدورة الحالية من المهرجان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
TT

«الرواية السعودية» تستعرض عنفوانها في الحيّ الثقافي بقطر

اختار مهرجان «كتارا» للرواية العربية في قطر «الرواية السعودية» «ضيف شرف» والأديب والدبلوماسي الراحل الدكتور غازي القصيبي «شخصية العام» للدورة الحالية من المهرجان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
اختار مهرجان «كتارا» للرواية العربية في قطر «الرواية السعودية» «ضيف شرف» والأديب والدبلوماسي الراحل الدكتور غازي القصيبي «شخصية العام» للدورة الحالية من المهرجان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ضمن فعاليات الدورة الـ11 لمهرجان «كتارا» للرواية العربية، الذي يُقام حالياً في العاصمة القطرية الدوحة، بدأت أولى فعاليات الاحتفاء بالرواية السعودية، بمناسبة اختيارها «ضيف شرف» الدورة الحالية للجائزة، بإقامة ندوة حوارية عن الرواية السعودية.

وبمناسبة اختباره «شخصية العام»، افتتح في مهرجان «كتارا» للرواية العربية معرض يروي سيرة ومسيرة الأديب والدبلوماسي الراحل غازي القصيبي، ويتضمن المعرض، إلى جانب سيرة الأديب الذاتية، مقتبسات من مؤلفاته التي تربو على 70 كتاباً في مجالات الأدب والشعر والفكر والتنمية.

وافتتح في «كتارا» معرض «رحلة في الرواية السعودية من التأسيس إلى العالمية»، الذي يستعرض المحطات البارزة في تاريخ الرواية السعودية منذ بداية رحلتها في منتصف القرن العشرين، وفي السنوات التالية للبدايات انتقلت من مرحلة التوثيق الاجتماعي إلى مرحلة النضج الفني. ووثّق المعرض للرواية النسائية السعودية، التي تعود بداياتها الأولى إلى سميرة خاشقجي. كما تناول المعرض تجربة الرواية السعودية مع الدراما، كما وثّق المعرض الجوائز التي حقّقتها الرواية السعودية في المحافل العربية والدولية، ما عزّز من حضورها وأكّد قيمتها الفنية، وتطرق لمستقبل الرواية السعودية.

جائزة «كتارا»

وبعد افتتاحه لفعاليات مهرجان كتارا للرواية العربية، قال الدكتور خالد بن إبراهيم السليطي، المدير العام للمؤسسة العامة للحي الثقافي «كتارا»، إن جائزة «كتارا» للرواية العربية حققت العديد من الإنجازات خلال 11 عاماً، حيث رسّخت مكانتها كأهم منصة عربية تحتفي بفن الرواية، وتعزز حضوره على المستويين الإقليمي والدولي.

وأشار إلى أن الجائزة شهدت إقبالاً متزايداً من الكتاب والمبدعين، وأسهمت في إيصال الصوت السردي العربي إلى العالمية من خلال اعتماد اليونسكو للأسبوع العالمي للرواية خلال الفترة من 13 إلى 19 أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام، بناء على اقتراح من المؤسسة العامة للحي الثقافي «كتارا»، دعمته المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم (الألكسو)، ووزراء الثقافة العرب.

وأكّد أن هذه الدورة من مهرجان كتارا للرواية العربية تعدّ استثنائية بكل المقاييس، مع دخول الجائزة عقدها الثاني، لأن لجنة الجائزة اعتمدت مبادرات ومشاريع جديدة سيتم الإعلان عنها ضمن فعاليات المهرجان في دورته الحالية.

ومن جانبه، أكّد السيد خالد عبد الرحيم السيد، مدير إدارة الفعاليات والشؤون الثقافية بكتارا، أن هذه الدورة من جائزة «كتارا» للرواية العربية تميزت بعدد المشاركات في منافساتها التي بلغت 1900 مشاركة، إلى جانب تنوع فعالياتها ومشاريعها وأنشطتها، بالإضافة إلى تميز معرض كتارا للكتاب، الذي يشارك فيه 103 من الناشرين وأصحاب المكتبات.

وأوضح أن مجمل المشاركات في جائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الحادية عشرة، بلغ أكثر من 17 ألف مشاركة، وبلغ عدد الفائزين بجوائزها 183 فائزاً، وبلغت إصداراتها 253 إصداراً باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، حيث استطاعت «كتارا» أن تكون محطة جديدة في تاريخ الرواية العربية، وأن تكرس للرواية «حق التكريم».

المشاركون في ندوة «الرواية السعودية... النشأة والتطور» كل من الدكتور معجب العدواني ومحمد المزيني والدكتورة جميلة العبيدي وأدارها محمد العامري (الشرق الأوسط)

الرواية السعودية

وكانت أولى فعاليات الاحتفاء بالرواية السعودية بمناسبة اختيارها «ضيف شرف»، إقامة ندوة بعنوان: «الرواية السعودية... النشأة والتطور» تحدث فيها كل من: الدكتور معجب العدواني الأكاديمي والناقد الأدبي، والروائي والإعلامي محمد المزيني، والدكتورة جميلة العبيدي الأكاديمية والناقدة، وأدارها الناقد محمد العامري.

واستعرض المتحدثون مسيرة الرواية السعودية، مع التطرق لأبرز الروايات البارزة في كل محطة من محطاتها، التي توجت مشوارها الذي يقترب من 100 عام بحصد جوائز إقليمية وعالمية.

فقد تناول الدكتور معجب العدواني المسارات المهيمنة على الكتابة الروائية السعودية، ابتداء من بواكيرها، وتأثير الشعر على الراوية، وملامح الرواية التاريخية، وتفاعل السيرة الذاتية وتناميها.

مسارات الرواية السعودية

وأشار العدواني إلى وجود 3 مسارات هيمنت على الكتابة الروائية السعودية. هي: المسار الشعري، والتاريخي، والسيرة الذاتية.

مضيفاً أن المسار الشعري تنامى ووصل إلى مرحلة متطورة وحديثة، حيث بدأت به الرواية السعودية عام 1930 من خلال رواية «التوأمان» لعبد القدوس الأنصاري، وكانت الأعمال في البدايات لشعراء أحبوا ممارسة الكتابة الروائية، وهو أول مساس بين الشعر والرواية، وقد امتد وتواصل حتى التسعينات، حتى إن النقاد الذين مارسوا نقدهم الحداثي ركّزوا على الكتابات الروائية ذات الصيغة الشعرية... ومع التسعينات، بدأ بعض الكتّاب يمارسون التجريب في السرد، مثل عبده خال ويوسف المحيميد، ورجاء عالم، التي اتصفت بعض أعمالها بلغة شعرية، ثم وجدنا شعراء تحوّلوا للكتابة الروائية، أبرزهم غازي القصيبي، حيث عرف روائياً كما عرف شاعراً، ومنهم عواض العصيمي كما في روايته «أو... على مرمى الصحراء... في الخلف»، وكذلك الروائي محمد علوان كما في روايته «سقف الكفاية» وأحمد أبو دهمان.

فيما يحضر المسار التاريخي في العديد من الأعمال الأدبية، كما أن السيرة الذاتية حافظت على حضور واسع في تجارب العديد من الروائيين السعوديين، وقال إن هناك روايات سعودية بدأت تكتب بصيغة التخييل التاريخي، كأن يختار الكاتب حدثاً محدداً ثم يضيف إليه جانباً إبداعياً كبيراً، مثل رواية «جدة 915 هـ» لسعيد السريحي، أو كتابة رواية تاريخية بلا تخييل، مثل «ضباعة العامرية» لعبد العزيز محمد الفيصل، حيث يكون السارد في الرواية التاريخية مقيداً بحضور التاريخ.

وبشأن مسار «السيرة الذاتية»، رأى العدواني أن نماذج هذا المسار بدت واضحة في رواية «طريق الحرير» لرجاء عالم، وكذلك «شقة الحرية» لغازي القصيبي.

السياق التاريخي للرواية السعودية

وقال الروائي محمد مزيني إن الرواية السعودية ليست بمنأى عن التأثر بالمحيطات العربية المتنوعة، فمنذ دخول مفهوم الرواية ببعده الفني الحديث، الذي قدحت شرارته رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، مع تحفظ يوسف القعيد على هذا الإطلاق، وهناك تطلع الكتاب السعوديين لخوض غمار هذه التجربة العربية الحديثة التي اجتاحت العالم العربي عبر روّاد الرواية العربية المصريين تحديداً، ولقرب الحجاز من مصر، وأسبقية أهله بالتعليم، فقد استهلت الرواية السعودية مسيرتها بصدور رواية «التوأمان» لعبد القدوس الأنصاري في عام 1930، وتعدّ هذه الرواية تاريخياً سابقة لأول رواية أصدرها نجيب محفوظ بعنوان «عبث الأقدار» عام 1939، وقد يكون للعيب الفني في رواية «التوأمان»، التي تؤرخ للرواية السعودية، دور في عدم انتشارها بشكل جيد.

ولاحظ مزيني أن هناك اتفاقاً بين النقاد والدارسين على أن رواية «ثمن التضحية» لحامد دمنهوري، الصادرة عام 1959، هي المؤسسة لمرحلة التأسيس الفني للرواية السعودية، ثم جاء إبراهيم الناصر الحميدان لينفخ في صورة الرواية السعودية روحاً جديدة تقوم على أسس الفن الروائي الحديث من خلال روايتيه «ثقب في رداء الليل» 1961، و«سفينة الموتى» 1969.

مشيراً إلى أنه في عام 1977 صدرت أول رواية لعبد الله جمعان بعنوان «القصاص»، ثم رواية غالب حمزة أبو الفرج «الشياطين الحمر»، وعدد من روايات عبد الرحمن منيف ذات البعد القومي، حيث تعكس روايات السبعينات عموماً علاقة الرجل بالمرأة، وتكوين الأسرة، وما يلحق بها من أزمات تقع المرأة عادة فريستها في محاولة للدفاع عنها، ويحلو لبعض النقاد وصم هذه المرحلة بالضعف الفني.

لكن المزيني يشير إلى تأخر ظهور الرواية النسائية إلى أوائل الستينات الميلادية، وذلك لعوامل كثيرة متشابكة، لعل من أهمها تأخر تعليم المرأة مقارنة بالرجل، والقيود الاجتماعية والدينية المفروضة على المرأة، ما أخّر الرواية النسائية زهاء 3 عقود، افتتحتها سميرة خاشقجي، ولحقت بها هدى الرشيد، وهند باغفار، اللائي صدرت أعمالهن الروائية في فترة الستينات والسبعينات الميلادية.

والملاحظ هنا أن كل هذه الروايات النسائية تدور أحداثها خارج السعودية، ما يشي بأن روائيات تلك الفترة هن نتاج خارجي تعليماً وثقافةً، إلى أن كتبت عائشة زاهر أحمد روايتها «بسمة من بحيرات الدموع» التي أصدرتها عام 1979، لتعيد النسب الروائي النسائي السعودي إلى مجتمعه الطبيعي.

وعن مرحلة النضج التي وصلت إليها الرواية السعودية، يشير مزيني إلى رواية «فيضة الرعد» التي ألفها عبد الحفيظ الشمري، واعتبرت فاتحة للمرحلة الحديثة الثانية في تاريخ الرواية السعودية، التي دشّنت فنياً برواية «رائحة الفحم» لعبد العزيز الصقعبي، ليدخل منافساً قوياً لأسماء سابقة له في هذا المضمار، مثل: غازي القصيبي، وعبده خال، وتركي الحمد، وعلي والدميني، وهي أسماء جاءت بروايات تقترب من الذات.

الأدب النسائي السعودي من الهامش إلى المركز

وأكّدت الأكاديمية السعودية الدكتورة جميلة العبيدي، أهمية «النظر إلى الأدب النسائي السعودي من زاوية الوعي السردي، لأن السرد كان دائماً الأداة التي استخدمها الإنسان ليحمي وجوده من التبعثر، والمرأة الكاتبة استخدمته لتستعيد موقعها في التاريخ عبر إعادة تعريف علاقتها باللغة والزمن والمجتمع».

وقالت إنه «في بدايات هذا الأدب، كانت اللغة تُستخدم كدرعٍ دفاعية، وكأن الكاتبة تكتب من وراء جدار، تخشى أن يرفضها الخطاب السائد أو يصادر صوتها (...) والكتابة تشبه النجاة أكثر مما تشبه المعرفة. لكن مع تحوّل الزمن الثقافي والاجتماعي في المملكة، ومع نضج التعليم وظهور جيلٍ جديدٍ من الكاتبات الواعيات، تغيّر موقع الذات من الهامش إلى المركز، ومن الدفاع إلى الفعل، ومن البوح إلى التأويل».

وقالت الدكتورة العبيدي إن المرأة السعودية بدأت «تنظر إلى النص، لا باعتباره سجلاً للحياة، بل باعتباره مختبراً للوعي. أصبحت القصة والرواية وسيلةً لتفكيك ما هو راسخ في الذهن الجمعي، وتحليل أنماط الخطاب التي تحدد صورة المرأة في المجتمع، وكيف تُنتج هذه الخطابات دلالاتها، وتشرعن ما يُقبل وما يُرفض. هنا تحوّل النص من مرآةٍ للواقع إلى أداةٍ لقراءة الواقع وتغييره».

وأضافت: «من أبرز ملامح هذا التحول أن المكان والزمان لم يعودا إطارين صامتين للأحداث، بل تحولا إلى كيانين فاعلين في تشكيل المعنى».

وقدّمت الدكتورة جميلة العبيدي نماذج لدراسة التحويل في روايات المرأة السعودية: «ففي رواية (طوق الحمام) لرجاء عالم، على سبيل المثال، تتحول مكة إلى كائنٍ حيٍّ يتحدث بذاكرته، تتجاور فيه القداسة واليومي، والماضي والمستقبل. فالمدينة هنا ليست مجرد مسرحٍ للوقائع، بل هي شخصية رئيسة في النص، تروي تحوّلاتها وتعبّر عن صراعها بين الثابت والمتحوّل».

كما لاحظت أنه «في رواية (جاهلية) لليلى الجهني، تتبدّى اللغة ذاتها كموضوعٍ للنقد، حيث تُفكّك الكاتبة الخطاب الذي يفرض تعريفاتٍ جاهزة للمرأة، وتُظهر كيف يمكن للمفردة الواحدة أن تكون سجناً أو أفقاً، تبعاً لمن يملك حقّ النطق بها».

أما في «رواية (بنات الرياض) فقد أعيد تعريف علاقة الكاتبة بالقارئ، حيث انكسر الحاجز التقليدي بين الراوي والمتلقي، ليصبح النص فضاءً حوارياً مفتوحاً، تتوزع فيه السلطة بين الكاتب والقارئ، ويُنتج المعنى عبر التفاعل لا التلقّي».

وفي ختام ورقتها، أكّدت الدكتورة العبيدي أن الأدب السعودي أصبح «وثيقة ثقافية تشهد على تحوّل الهوية الوطنية بأكملها؛ من الانغلاق إلى الانفتاح، ومن الصوت الواحد إلى التعدد، ومن التلقّي إلى المشاركة».


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون شعار الدورة الحالية من «مهرجان الكويت الدولي للمونودراما»

«مهرجان الكويت الدولي للمونودراما» ينطلق بمشاركة 10 دول

افتُتحت في الكويت، مساء الأحد، الدورة الثامنة من «مهرجان الكويت الدولي للمونودراما».

«الشرق الأوسط» (الكويت)
يوميات الشرق جلال تعرض لانتقادات حادة (حسابه على موقع فيسبوك)

انتقادات لياسر جلال لحديثه عن «حماية جزائريين» للقاهرة بعد «النكسة»

وجد الفنان المصري ياسر جلال نفسه في مرمى الانتقادات عقب نشره مقطع فيديو من فقرة تكريمه بمهرجان «وهران الدولي للفيلم العربي» بالجزائر.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من حفل افتتاح المتحف الكبير بجوار أهرامات الجيزة (إدارة المتحف)

مصر تستضيف كبار موسيقي العالم في «صدى الأهرامات»

كشف عازف البيانو المصري أحمد أبو زهرة رئيس مهرجان «صدى الأهرامات» الموسيقي عن الاستعدادات الأخيرة لإطلاق المهرجان.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق إحدى قاعات قصر عابدين (موقع رئاسة الجمهورية)

قصر عابدين التاريخي بمصر لاحتضان أشهر الاحتفالات الدولية

يشهد قصر عابدين التاريخي بوسط القاهرة استضافة حفل «ذا جراند بول» (The Grand Ball)، بحضور أمراء وأميرات من الأسر النبيلة والحاكمة حول العالم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ
TT

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

أقف أمام «الآنسة جولي» بحلّتها العربية الجديدة، حائراً من أين أبدأ في الكتابة عن هذه التراجيديا التي تعكس قساوة الواقع المعيش؟ مِن مؤلفها، شكسبير السويد يوهان أوغست ستريندبرغ، الكاتب والدرامي المتعدد المواهب، في المسرح والرواية والشعر والفن التشكيلي وغيرها، والمثير للجدل أيضاً؟ أم أبدأ من النص؟ من هذه المسرحية المشحونة بالمشاعر والصور والمثقلة بالصراعات الاجتماعية والنفسية في مجتمع أفرز «فئات جديدة عاشت فترتها الانتقالية بسرعة هستيرية، أكثر من سابقاتها»، كما كتب ستريندبرغ في مقدمته للمسرحية؟

أم أبدأ من عرض رؤاي حول هذا الحرث الخصب الذي بذل فيه المترجم جهوداً استثنائية، ليكون أكثر قرباً من نَفَس المؤلف في النص المترجم. أو على الأقل تحقيق النسبة الكبرى من نقل ما يُعرف بروح النص بمصداقية عالية وأمانة؟

نحن هنا أمام كتاب لا يبذل جهداً ليغري القارئ؛ فإنك بمجرد أن تمرِّر بصرك على جملته الأولى، أو لكي لا نبالغ القول، على سطره الأول، في المتن حتى تتولد عندك حالة من الشغف لمتابعة القراءة. وعندما تطالعك جملة «ليس الغرض من هذه التوطئة تقديم الكتاب إطلاقاً»، فلا بد من أن تصبح شغوفاً أكثر لمعرفة المزيد. فإذن لماذا هذه «التوطئة للكتاب من قبل المترجم»؟ ولمعرفة الجواب عن ذلك فلا بد لك من مواصلة القراءة. والمسألة هنا لا تتعلق بحب الاستطلاع فحسب، بل يستهويك الأسلوب وسريان مجرى العبارات المنتقاة وتناسقها، فتعرف من خلالها أن المترجم إبراهيم عبد الملك، وهو شاعر أيضاً، لم يكتفِ بنقل الكتاب من لغة إلى أخرى، بل قام بدراسة متأنية للنص المسرحي «الآنسة جولي»، وللمقدمة التي كتبها المؤلف ستريندبرغ، ببحث رصين ومراجعة جادة لبعض الجمل الصعبة في فهم ماهيتها وقصدية قائلها، المؤلف، وقف فيها عبد الملك على مفصليات النص الذي يحتاج إلى كثير من التفسير والدلالات، لأنه قديم، تجاوز عمره الآن مائة وثلاثين عاماً، وفيه كثير من العبارات التي تجبر المترجم على تقصيها وإظهارها بالشكل الذي يليق بمكانة اللغة العربية، وإنصافاً للمؤلف واحتراماً لذوق القارئ. وللدلالة على ذلك، يأخذ المترجم جملة من مقدمة المؤلف، وهي عبارة يتحدث فيها المؤلف أوغست ستريندبرغ عن تحولات مجتمع القرن الثامن عشر، من خلال مسرحيته «الآنسة جولي»، فيصفها بأنها من بقايا صنف النبلاء المحاربين القديم الذي يتنحى الآن «من أجل نبلاء العصب الجدد أو نبلاء العقل الكبار».

لو تُرِك الأمر هكذا، مجرد ترجمة، لما فهمنا أن هذه العبارة بمثابة أرجوحة فلسفية تتدلى منها أرجل اللغة التي استخدم فيها ستريندبرغ اللعب بالكلمات؛ خصوصاً في تلك الجزئية من الجناس بين كلمتي عقل «-hjärn» وصلب «-järn» بالسويدية، كلتاهما تنطق «يرنْ»، التي قصد بها «تورية وسخرية لاذعة»، كما يقول المترجم، الذي لم يتردد في البوح عن بعض الصعوبات التي شخصت أمامه أثناء ترجمة النص، خصوصاً فيما يتعلق بفهم مطبات قصدية العبارة المذكورة، التي ذللها إبراهيم من خلال البحث والتنقيب بعناد في بيئة النص وجذوره، حد اللجوء للاستعانة بصديق موثوق بقدرته الأدبية، ومن بيئة المؤلف ومنشئه الثقافي، لتوضيح الفكرة وما قصده سترينبرغ بـ«نبلاء العصب الجدد، أو نبلاء العقل الكبار»، ليجيبه الشاعر والناقد ماغنوس ويليام بأن ستريندبرغ كان في هذه الجزئية ساخراً، هازئاً من خصومه المثقفين، بل وحتى من المدافعين عن النساء منهم خاصةً. «ففي كلمة (عصب -nerv) إحالة مباشرة إلى ما هو (أنثوي)، لأن النساء، (في ذلك الزمان) انُتقدن لكونهن واهنات العصب ومتوترات، مرتكبات، وغير جديرات بالثقة، تبعاً لذلك. أما تعبير (نبلاء العقل)، وهو اصطلاح ابتدعه المؤلف نفسه لما فيه من تشابه صوتي باللغة السويدية، بين (Hjärn) عقل و(Järn) صُلب، حديد التي تعبر ضمنياً عن الرجولة (الحقيقية)، حسب ما تربت عليه طبقة النبلاء».

وهنا لا بد من التنويه إلى أن ما ذكرناه آنفاً من أن ستريندبرغ كان كاتباً مثيراً للجدل، قصدنا في جانب منه ازدواجية العلاقة مع للمرأة التي كانت مزيجاً من الحب والعنف في آن واحد، وقد أشيع عنه كرهه للنساء وهذا غير صحيح؛ فقد أحب ستريندبري امرأة وتزوج مرة أخرى. وقد انعكس ذلك من خلال أعماله الدرامية وقصصه وكتاباته المختلفة، وشكَّل فيه هذه الازدواجية؛ في إحساسه بالزمن، وثنائية الأنا والآخر، والخير والشر، وغيرها من المتضادات التي جاءت نتيجة لفقدانه المكان والإحساس بالواقع الاجتماعي المرّ الذي عاشه وجعله يترك دراسته الجامعية احتجاجاً على طريقة التدريس، بعدما رفضت الأكاديمية الملكية عرض مسرحية «الأسطة أولوف». وقد ألف ستريندبرغ روايته التي تحمل نفس العنوان عام 1879، وضمّنها حياة النخبة المثقفة من المجتمع السويدي، في تلك الفترة، فاضحاً فيها الظواهر السلبية السائدة في المجتمع، كالبيروقراطية وبيئة الكنيسة النتنة.

لكن روايته اللاحقة التي سماها «الغرفة الحمراء» اعتبرها نقاد الأدب الرواية الواقعية الأولي في تاريخ الأدب السويدي.

ومن مجمل نتاجاته الإبداعية التي تجاوزت الخمسين عملاً ألقت حياة ستريندبرغ بتحولاتها المريرة نفسها ظلالاً على الأحداث والتحولات الاجتماعية التي كان شاهداً عليها، منذ صدور روايته الأولى «الأسطة أولوف» 1879، وانتهاء بـ«الآنسة جولي» التي صدرت في عام 1890، والتي صور فيها واقع المجتمع والتناقضات والصراعات الحادة بين طبقات المجتمع الجديدة المتنامية، والتي تتقد فيها الرغبة لكسر القيود والتقاليد البالية.

وقد نقل لنا المترجم إبراهيم عبد الملك هذه الأحاسيس وتلك المكنونات الراقدة في جذور تربتها بطريقة حافظت على روحيتها وألقها.

هذه ليست الترجمة الوحيدة لمسرحية «الآنسة جولي» إلى العربية، لكنها الأولى التي جاءتنا مباشرة من نصها الأصلي، دون أن تمرّ بمسالك وسيطة قد يتعلق بأردانها بعض غبار اللغات المترجم من خلالها، رغم أن المباشرة لا تعطي صكاً لضمان مصداقية الترجمة وأمانتها؛ فثمة تراجم مهمة نُقلت عبر لغات بسيطة وأدَّت مهمتها، غير أن هذه الأعمال نادرة جداً. وبالمقابل هنالك ترجمات نقلت النص من لغته الأم إلى العربية بصورة مباشرة، لكنها تعثرت في دروب الترجمة الحرفية والترادف أو التماثل، لكنه من دون شك؛ فالنص المترجم من لغته الأصلية مباشرة، يحمل دلالات، لنسمِّها مجازاً المصداقية.

مشكلات الترجمة عديدة ومتنوعة تبدأ من الاختلافات الثقافية واللغوية، التي تتطلب من المترجم معرفتها، بالإضافة إلى بنية الجُمل واختيار العبارات المناسبة، ولا تنتهي بفك طُلّسم المفاهيم والمصطلحات الغامضة في النص. إن ترجمة الكلمات والعبارات بصورة حرفية يؤدي ذلك إلى نص ركيك، أو غير مفهوم. وهذا يخص الترجمة بشكل عام، لكن للترجمة الأدبية استحقاقتها؛ فالمطلوب، وإضافة إلى ما تقدَّم، نقل الروح الجمالية للنص المترجم إليه. وهذه مسألة صعبة، لأن الأدب يشكل مزيجاً من الأساليب والثقافات والتاريخ. وعدم قدرة المترجم الأدبي على اختيار المفردة المناسبة سيوقعه في خطأ نقل المعنى. ومن هنا يحتاج مترجم الأدب إلى مهارات إبداعية في التعامل مع النصوص. وهذا الأمر أساسي لما بات يعرف بأمانة الترجمة أو دقة الترجمة.

وواحد من أهم الأسباب التي أدَّت إلى ضعف الترجمات السابقة لمسرحية «الآنسة جولي»، هي أنها تُرجمت عبر لغات أخرى وسيطة، عن الإنجليزية أو الفرنسية، تحديداً ولم تترجم من السويدية مباشرة. وهذا الأمر دفع إبراهيم عبد الملك إلى ترجمتها من نصها الأصلي، كما كتبه المؤلف الصادر في عام 1888. وهذه مسافة زمنية طويلة نسبياً محاولاً بذلك «إعادة شيء من حق المؤلف المستلب».

كما يرى مشيراً إلى أن تلك «الترجمات، بما في ذلك الترجمة الإنجليزية، استهانت بالمؤلف يوهان ستريندبرغ، حد الانتقاص والتشويه»، كما يقول في مقدمته لترجمة الكتاب. ويوجز هذا الطرح في عدد من النقاط التي تتعلق بإشكاليات هذه الترجمات.

فيبدأ باسم المؤلف. إن اسمه «ستريندبرغ»، وليس ستراندبرغ، كما جاء في التراجم السابقة. والمسرحية عنوانها «الآنسة جولي»، وليس الآنسة جوليا. فـ«جولي» هو اسم «الشخصية» الرئيسية في المسرحية، ويأتي اسمها هكذا باللفظة الفرنسية، حيث كانت الطبقة الأرستقراطية في السويد تحاكي مظاهر الأبهة الفرنسية، بالملبس والمشرب وفي لفظ الكلمات، وفي تبني الطبقات الأرستقراطية في القرن التاسع عشر بعضاً منها. كما هو الحال في بلدان أوروبية كثيرة أخذت هذا المنحى. ولهذا السبب أبقى المترجم بعض الكلمات والعبارات التي تنطق بها الآنسة جولي بالفرنسية، كما جاء بها النص الأصلي.

النقطة الأخرى التي يثيرها المترجم هي تصنيف هذه الدراما ضمن تيار «الحركة الطبيعية»؛ إذ تعكس نمو وتطور هذه الحركة والمدرسة التي برزت في المسرح والأدب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بهدف محاكاة الواقع بدقة متناهية وخلق وهم بالحياة كما هي.

من خلال تصوير الطبقات الدنيا في المجتمع وتحدياتها، مركزين على العوامل البيئية والوراثية التي تُشكّل مصير الشخصيات، مع تجنُّب التكلّف والتصنّع في الأداء التمثيلي لخلق شخصيات طبيعية قدر الإمكان. وكان من أبرز فرسانها الفرنسي إميل زولا والنرويجي هنريك ابسن والروسي قسطنطين ستانيسلافسكي. وبهذا السياق، يشير المؤلف بأنه «لا يؤمن بالشخصيات المسرحية البسيطة».

أما أحكام المؤلف التلخيصية على البشر، فإنها لحمقاء، وإنها لغاشمة، وإنها لبخيلة... إلخ، واستهجانها لزام على الطبيعيين الذين يدركون مدى غنى نسيج النفس البشرية ويشعرون بأن للوِزر وجهاً آخر أشبه ما يكون بالطّهر، حسب ستريندبرغ.

ملمح آخر جدير بالاهتمام هو ورود عبارة «الطحّان»، في النص الأصلي، في حوار بين بطلي المسرحية يقول فيه جان لجولي «ضعي الطحان في الكيس»، ملمحاً إلى الحكاية المشهورة في السويد «حكاية ابنة الطحان»، ويقصد بها تذكير جولي بأن جدها كان طحاناً، ومن باب المغايرة؛ إذ إن العبرة من هذه الحكاية ما يقال بالترجمة الحرفية عن السويدية: «الصمت أفضل من سيئ الكلام». ولأن ترجمة التلميح إلى اللغة تفتقر إلى العبرة منها في هذا السياق، يتدخل هنا المترجم ليعتمد المثل القائل: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»، ويحل هذا الإشكال بعبارة «أكرميني بذَهَبِ سِكوتك».

في هذه الإثارة لتحليل العمل الدرامي المُترجم يوغل إبراهيم عبد الملك، في صلب الفكرة التي أراد لها المؤلف أن ترافق المسرحية؛ فنحن أمام نص مترجم، لمسرحية تجسدت فيها جميع الدلالات اللغوية والحسية ومذاقات الذائقة وإيقاعات المشاعر، بجميع تجلياتها وانحداراتها، وعنفوانها الذي جال بأرواح مهشمة وصولاً إلى نهايتها الدموية. لقد كان نوعاً من التحدي المغامرة في ترجمة هذه المسرحية الشكسبيرية بامتياز، كما وصفها المخرج العراقي جواد الأسدي، حين جاء إلى السويد خصيصاً لإخراجها، في نهاية القرن الماضي، وتحديداً في عام 1998، لجمهورها السويدي ولكن بنكهة عربية، تركت انطباعاً رائعاً لدى رواد المسرح.


عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي
TT

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

عبد الله القصيمي... المؤمن الشكوكي

أثير من جديد في الوسط الثقافي السعودي النقاش عن الفيلسوف عبد الله القصيمي، ودعوى «إلحاده ومروقه من الدين»، وأنه مفكر ماديّ، وهو موضوع تكرّر في حياته وبعد موته بعقود. ولا غرابة أن يستعاد فهو من رسم المعالم والحدود لشخصيات شريحة ليست صغيرة من المثقفين السعوديين والعرب، وكثيرون تأثروا به، وإن خالفوه في موضوع الإيمان. منذ بداية قراءتي له مررت بالدهشة ذاتها التي تعتري كل من يقترب من نصوصه لأول مرة، تلك الدهشة التي تثيرها عباراته العارية من التوقير وصوره المدوية التي تزلزل المألوف. غير أنّ هذه الدهشة سرعان ما تحوّلت إلى سؤالٍ يصعب تجاهله: إذا كان القصيمي قد أنكر الله، فلماذا ظلّ مشغولاً به حتى آخر كتبه؟ ولماذا لم يغادر هذا الموضوع إلى غيره؟ ألا يكفي كتابٌ أو اثنان أو ثلاثة للسرد الوافي بالدعوى؟

تكاد مؤلفات القصيمي جميعاً تدور حول موضوع الإله، بينما الماديون لا يفعلون هذا.

ومع ذلك لم يكن موضوع الإيمان قضيته الوحيدة، فقد حذّر من الإرهاب القادم، وفضح دعاوى القومية الكاذبة في «العرب ظاهرة صوتية»، وانتقد الانغلاق الاجتماعي، وسخر من تقديس العادات حين تُقدَّم بديلاً عن التفكير، ودافع عن حرية الإنسان الفرد، كما كتب مبكراً عن المرأة بوصفها معيار تحضّر الأمم، وعن العقل العربي الذي يهرب من النقد ويخاف الحرية، وأرى أن كتاباته في هذا المضمار أكثر صدقاً مما كتبه عابد الجابري الذي بنى صرحاً ضخماً على أوهام.

لم يكن القصيمي فيلسوفاً مادّياً صارماً، وإن كانت المادية قد أخذت نصيبها منه في فترة. وقبلها كان ابن بيئةٍ دينيةٍ، شيخاً سلفياً يدافع عن السلفيين، غير أنّ ذاك الإيمان حمل في داخله ما يشبه البذرة الأولى للتمرّد؛ إذ لم يكن يكتب كما يكتب السلفيون، بل كان يدافع عنهم بعقل، والعقل هو منبع الشك. في نصوصه تتناوب النبرة بين تمجيد العقل وتكذيبه، بين تأليهه والشكّ فيه. يقول مرةً إن العقل هو الإله الذي لم يُعبد بعد، ثم يعود ليصفه بالوهم والعجز؛ لأنه خاضع للإرادة بحسب القصيمي (وشوبنهاور).

ما يعدونه تناقضاً لا يبدو نقصاً في منطقه بقدر ما هو وفاءٌ لتذبذبه الإنساني الطبيعي.

ثم جاءت مرحلة التحوّل الأولى مع كتاب «هذه هي الأغلال» (1946)، ولم يكن فيه بعيداً عن شخصية الإسلامي التنويري والداعية الحضاري، خلافاً لمن ظنوه لجهلهم، كتاباً في الإلحاد. كتاب «الأغلال»، دليل على مرحلةٍ وسيطة. وقد ندرج كتابه «العالم ليس عقلاً» ضمن كتبه الوسيطة. لكن هذا المسار لم يستمر طويلاً. فمع كتاب «العالم ليس عقلاً» بدأت مرحلة أخرى أكثر تذبذباً؛ ففي مقدمته ما زال القصيمي يعلن عن إيمانه بالله، لكن فيه تتسرّب نبرة الشكّ شيئاً فشيئاً، حتى يصبح الإيمان عنده فعلَ سؤالٍ لا فعلَ تسليم. وفي كتبه التالية «العرب ظاهرة صوتية» و«هذا الكون ما ضميره؟» تتصاعد لهجة الاحتجاج حتى تتحول إلى ما يشبه صراخ ألم، لا يشبه التنظير الآيديولوجي. وتظهر هناك العبارات الإلحادية الصريحة، وهي صرخات وجودية، لا أكثر.

لكي نوضح مقصودنا، سنقارنه بفويرباخ الذي نظّر للإلحاد وقدم بناءً متكاملاً يؤسس للفلسفة المادية حيث الطبيعة مصدر المعرفة. هذا التنظير أخذه ماركس ليؤسس للمادية الجدلية والمادية التاريخية معاً. القصيمي لم يقدم بناءً مماثلاً، ولم يكتب بلغة الماديين قط، بل بلغة الشعر والجرح الوجداني. هو لا ينفي الإله بقدر ما يثور على صورته القديمة. في أعماقه ظلّ الإيمان قائماً، لكنّه تبدّل شكلاً ولغة.

القصيمي نموذج للمؤمن الشكوكي، أو الإيمان الذي يعيش داخل السؤال لا خارجه. لا يفقد إيمانه، بل يتطهّر من يقينه الموروث ليبحث عن يقينٍ أصدق. يَعرف الله، لا من خلال السلطة أو الوراثة بل من خلال الحيرة نفسها. حالة فكرية مأزومة لإنسانٍ لم يعد قادراً على اليقين. لا يصدّق الخطاب القديم ولا يجد خطاباً جديداً يسكُن إليه. ولم يكن القصيمي متناقضاً، بل هكذا هو المؤمن الشكوكي، يعيش حياته كلها هكذا؛ حالة ثالثة.

المؤمن الشكوكي يعيش في منطقة رمادية لا يقدر فيها على الاستقرار في يقينٍ أو في نفيٍ كامل. لا يسعه أن يُغلق عينيه كما يفعل المطمئنّون إلى إيمانهم، ولا أن يشيح بوجهه كما يفعل المنكرون. إنه يرى النور والظلام معاً، ويتأرجح بينهما، ويدرك أنّ الشك ليس ضعفاً بل شكلٌ آخر من أشكال الإيمان. فالإيمان عنده تجربة مفتوحة لا تنتهي، يتقدّس فيها السؤال أكثر مما تتقدّس الإجابة. كل لحظة من حياته وكل فكرةٍ تمرّ بذهنه هي امتحانٌ لعقله وقلبه في آن. هو مؤمن لأن قلبه لا يطيق الجفاء، وشاكّ لأن عقله لا يقبل ما كان مزيّفاً. لا يعيش طمأنينة القديسين، بل قلق الباحث الذي يعرف أنّ الطريق إلى الله لا يُعبّد باليقين، بل بالحيرة التي تلد المعرفة. لذلك، يبدو المؤمن الشكوكي أقرب الناس إلى الصدق؛ لأنه لا يتزيّا بثوبٍ لا يليق به، ولا يدّعي ما لم يختبره، بل يظلّ واقفاً بين السماء والأرض، شاهداً على أنّ الروح لا تُشفى إلا بالسؤال.

هاجم القصيمي التصوف في بداياته. أما في كتبه الأخيرة، فنجد نغمة جديدة، نغمة قريبة من روح التصوف الفلسفي. لا يتحدث فيها عن الله كما يفعل المتصوفة، لكنه يشترك معهم في الاحتجاج على صمت الوجود، وفي الحنين إلى المطلق، وفي الشعور بالغربة والخذلان في العالم. بمعنى آخر، تحوّل عنده الموقف من عداءٍ للتصوف، أيام سلفيته، إلى تماسٍّ وجدانيّ معه من غير أن يعترف به أو أن ينتمي إليه.

* كاتب سعودي في كتابه


«وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

«وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي
TT

«وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

«وكالة النجوم البيضاء»... الواقع من منظور سينمائي

في روايته الجديدة «وكالة النجوم البيضاء» الصادرة أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة، يتعامل الكاتب عمرو العادلي مع السينما على مستويين متوازيين؛ الأول باعتبارها تشكل مهنة مباشرة للبطل كعامل مختص بعرض الأفلام، والثاني على مستوى الكتابة؛ إذ جاءت اللغة ذات سمة بصرية تعتمد على إيقاع المشهد في السرد.

وعبر 149 صفحة من القطع المتوسط، يختبر الكاتب الحدود الفاصلة بين العقل والجنون، الذاكرة والنسيان، الواقع والخيال، ليطرح السؤال الأبدي: حين تفشل كل خرائط الواقع، هل يمكن لخريطة السينما أن تقودنا إلى النجاة؟

يحلم البطل طوال الوقت باليوم الذي يصبح فيه ممثلاً معروفاً ويصدر له فيلمه الخاص؛ إذ يرى في نفسه موهبة لا تقل بل تزيد على عشرات النجوم ممن يملأون الساحة صخباً ودوياً، لكن بمرور الوقت يتحول الحلم إلى عبء حين يفشل في تحقيقه على أرض، ويتسلل إلى خياله.

وعمرو العادلي روائي وقاصّ مصري، له سبع مجموعات قصصية منها «حكاية يوسف إدريس» و«الهروب خارج الرأس»، كما صدر له تسع روايات منها «السيدة الزجاجية» التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة نجيب محفوظ في الأدب، و«رجال غسان كنفاني» و«مريم ونيرمين». نال عدة جوائز منها «جائزة الدولة التشجيعية في الآداب» وجائزة «ساويرس».

من أجواء الرواية نقرأ:

«سرح كثيراً وهو يحكي حكايته حتى إن الزمن الفاصل بين جملة وأخرى يكفي لتروي حكاية صغيرة. في نبرته كآبة فنان مظلوم، قال إنه يملك موهبة لا يقدرها أحد. حكى لي عندما كان يعمل في (بوفيه) مسرح الحرية بشارع الشيخ ريحان، المسرح كامل العدد والمسرحية لعادل إمام.

استمرت الفرقة في عرضها لسنوات. يترك البوفيه ليتلصص على المسرحية من الكواليس. يحلم كل ليلة أن يصبح نجماً كبطل العرض مثلما كان عادل إمام في بداياته يحلم بشيء واحد لا يوجد إلا في الأفلام. يتمنى أن يحدث ظرف طارئ لممثل من الأدوار المساعدة أو حتى الثانوية فلا يستطيع الحضور إلى المسرح؛ يمرض أو يموت أو تخطفه عصابة ولا يجدون أمامهم غيره ليمثل الدور فيكتشف المخرج موهبته.

حفظ جميع الأدوار بالكلمة والحركة والإيماءة، ولأن الرياح لا تعرف ما تشتهيه السفن فلم يمرض أي من الممثلين، لم يمت أحد أفراد الفرقة، ولم تخطفه عصابة. ويظل عامل بوفيه طيلة عشر سنوات، فتُدفن كلمات المسرحية في جوفه حتى يُسدل الستار على العرض نهائياً ويتجمد حلم التمثيل بداخله. يتنقل مع الفرقة إلى مسرح آخر ومسرحية أخرى فيتجدد الأمل بداخله، يتمنى لعب الدور الذي حفظه خلال أسبوع منذ بدأ العرض، يرهقه الترحال بين المسارح من دون تحقيق أمنيته.

لم يعد التنقل بين البوفيهات يرضي غروره الفني، فهو يرى نفسه أنضج من ممثلين كبار. لعب أدواراً هامشية في مسرحيات شعبية عن عُمد وشيوخ غفر وفلاحين، كما قدّم عروضاً جماهيرية بقصور الثقافة لكن إشباع الموهبة وحدها دون حظ هو شيء لا يمنح أجراً، فترك عروض فرق الهواة وخرج إلى الشارع ووجد مكاناً مناسباً في محطات مترو الأنفاق لتفريغ طاقته».

عاجل عاجل | افتتاح مراكز الاقتراع في العراق وبدء التصويت لاختيار أعضاء البرلمان الجديد