إلياس خوري كاتباً قصة البطل الذي يموت

ومكرَّماً في الذكرى الأولى لرحيله

رئيس الوزراء نواف سلام مسلماً وسام الأرز لابنة خوري وزوجته بحضور وزير الثقافة
رئيس الوزراء نواف سلام مسلماً وسام الأرز لابنة خوري وزوجته بحضور وزير الثقافة
TT

إلياس خوري كاتباً قصة البطل الذي يموت

رئيس الوزراء نواف سلام مسلماً وسام الأرز لابنة خوري وزوجته بحضور وزير الثقافة
رئيس الوزراء نواف سلام مسلماً وسام الأرز لابنة خوري وزوجته بحضور وزير الثقافة

«يوم إلياس خوري» في المكتبة الوطنية اللبنانية كان عامراً بالمحبة للأديب، حيث تحلَّق الأحبة والعائلة والأصدقاء والقراء، لإحياء الذكرى الأولى لرحيله، بالكلمة والموسيقى والأغنية والصورة، والتكريمان بالجملة.

فقد سلم رئيس الوزراء نواف سلام عائلة الفقيد وسام الأرز الوطني الذي منحه إياه رئيس الجمهورية، قائلاً: «أتشرف بتسليم هذا الوسام إلى عائلة إلياس، التي هي أيضاً عائلتي».

كما أعلن نائب رئيس الجامعة الأميركية في بيروت «تخصيص جائزة سنوية بادر إلى تأسيسها أصدقاء الكاتب الراحل إلى متفوق أو متفوقة في الأدب.

وأعلن رئيس بلدية بيروت إبراهيم زيدان، بدوره، تكريم إلياس خوري بإطلاق اسمه على المكتبة العامة في بيروت.

وكانت فاتحة الكلمات مع ابنة الروائي الراحل، المخرجة عبلة خوري التي تحدثت بكلمة مقتضبة عن مشاعر الشوق والفقد، وكم من مرة خطر لها أن تتصل به، وكأنه لا يزال موجوداً، وكيف لها أن تختار صوره لهذه الاحتفالية ولا يكون مشاركاً في اختيارها. أما السؤال اللافت الذي طرحه عدد من المتحدثين، فهو عما سيكون رأيه في الأحداث الأخيرة في غزة، وما يتدحرج من متغيرات؟

وشدد وزير الثقافة غسان سلامة في كلمته على قيمة الحرية بشكل خاص عند إلياس خوري. قال: «ثمة جيل أبصر النور في منتصف القرن العشرين. تجنب ذلك الجيل دوماً، لا السقطات ولا الهفوات ولا الخيبات. لكن بإمكانه أن يعتز ويفتخر، بهوسٍ أصابه وطبع ذلك الجيل حتى اليوم. وهو هوس بالحرية، الذي جعل ذلك الجيل يفكّك قيود الطائفية السياسية ويتعامى عنها ويتجاوزها، وهو ينظر إلى الجيل الحالي الغائر بالطائفية ويقول: ماذا حصل له؟ لقد خرجنا من ذلك القيد، فلماذا ترجعون إليه؟».

أضاف سلامة أن خوري «بسبب هوسه بالحرية تبنّى قضية فلسطين عن قناعة، وعن اعتقاد بأن للحق يوماً كما اليوم، وعن قناعة بأنه من حق لبنان أن تكون هناك دولة فلسطين، ومن حق المنطقة ألّا تجد استقراراً إن لم يكن للفلسطينيين حق تقرير المصير. وبسبب ولعه بالحرية، فإن ذلك الجيل لم يقبل يوماً باستمرار التسلط في بلداننا العربية، لذلك صفّق لكل انتفاضة ديمقراطية في كلّ بلد عربي».

وفي جلسة أولى أدارها الباحث ماهر جرار، تحدث نقيب المهندسين السابق جاد ثابت عن صديقه إلياس متعدد القدرات والأبعاد والاهتمامات، مستذكراً محطاته معه: جولة في أسواق بيروت المدمرة بعد الحرب، وكيف أنهما شعرا بأن قلبها لا يزال ينبض، ولا بد من إنقاذها بالحفاظ على ما تبقى من ذاكرة المدينة، وقادا مع آخرين حملة ضد الهدم وتغيير الملامح. وفي جولة أخرى اصطحب ثابت إلياس خوري إلى أحياء وأسواق طرابلس القديمة التي تدور فيها أحداث من روايته «سينالكول». كما تحدث عن علاقة الروائي الخاصة ببيروت التي كان يعتقد أنها «عالم لا يشبه أي عالم آخر، فكل وجع مهما بلغ يخفي في جوفه أغنية. إنها الحياة حين تضحك بفم مكسور».

المخرج محمد علي الأتاسي الذي عرف إلياس خوري في التسعينات، وكتب تحت إدارته في ملحق «النهار»، كانت له شهادته حيث استذكر بعض محطاته معه. وتحدث عن رمزية التفاح لديه، واستخدامه لليمون بوصفه استعارة في أحد مقاطع روايته «باب الشمس»، وعن بطلها يونس الذي يقول: «يجب أن نأكل كل برتقال العالم ونكسر الحائط»، رافضاً الاحتفاظ بليمون فلسطين الذي جاءت به أم حسن من هناك، وارتأت أن تخبئه، لأنه هو فلسطين، هو الوطن.

وجه مختلف من وجوه إلياس خوري اطلع عليه الحضور، من الفنان البصري، المخرج ربيع مروة، خصوصاً أولئك القراء الذين لا يعرفون منه إلا بُعده الروائي، ألا وهو دوره في «مسرح بيروت» الذي ضخ فيه الحياة بعد توقف الحرب، وفتحه للشباب، كما سعى لأن يعيد مسرحيين مخضرمين مثل ريمون جبارة وروجيه عساف إلى الخشبة، وكان له ما أراد، وكذلك اهتمامه بكتابة نصوص مسرحية، وإن كان مُقلّاً.

كما تحدث ربيع مروة عن الاحتضان الذي لقيه من إلياس خوري، حين عرض عليه أن يحول جزءاً من روايته «رحلة غاندي الصغير» إلى مسرحية وكان لا يزال مبتدئاً. «لم يكن داعماً فقط، بل ترك لنا مطلق الحرية أن نتصرف بالنص، ونفعل ما نشاء».

جلسة ثانية أدارها عقل العويط ضمت رفيف صيداوي ولطيف زيتوني وعبدو وازن

تلت الاستراحة الموسيقية الغنائية مع الفنانة ريما خشيش، جلسة نقاش لأعمال إلياس خوري، وانطباعات حولها في جلسة أدارها الشاعر والناقد عقل العويط، والذي تساءل عمن يكون حقاً إلياس خوري، وإن كان بمقدورنا أن نعثر عليه في شخصياته: في كمال الذي يعيش هواجس الانتماء، أو في الذات الممزقة لآدم حنون في رواية «أولاد الغيتو»، أم هو يونس في «باب الشمس»، أم الشاهد الصامت خليل أحمد جابر؟ و«هل يتماهى خوري مع بطل (يالو) السرياني الذي يكتب اعترافاته تحت التعذيب، ثم يعاود كتابتها وسردها دون أن يروي الحقية كاملة؟ وتسهل يختفي خلفه». وتساءل: «كيف يكون ألم خوري الأخير هو الرواية التي يجب أن تكتب وتقرأ؟» وذكّر العويط أن إلياس خوري آمن بأن الرواية بمجرد نشرها لا تعود ملكاً لمؤلفها، بل للعلاقات التي يبنيها القراء مع شخصيات الرواية. وإذا كان الفرق بين الكاتب وشخصيات الرواية هو أن الكاتب يموت، أي يكمل بالموت، فإن الشخصيات تبقى حية، لأنها تتجدد بالقراءة.

وهكذا تجدد حضور الشخصيات من خلال دراسة نقدية قدمتها الدكتورة رفيف صيداوي التي اعتبرت أن خوري «شكل علامةً مميزة في الرواية اللبنانية والعربية بسياقاتها الجديدة، قطعت نهائياً مع صراع الخير والشر وحمولاته الواقعية الفجة، هو الذي تعدى عدد رواياته الاثنَتيْ عشرة رواية، وكأنها نص واحد مُحور عن رؤيتهِ لواقعٍ لبناني وفلسطيني وعربي، تجري أحداثه ووقائعه بعكس ما كان يجدر بها أن تجري». كما لفتت صيداوي إلى توالد الحكايات وتواليها عند خوري «حيث لكل شخصيةٍ زمنُها الخاص وحيثيتُها وحكاياتُها التي تَرفد الخطابَ الروائي، بالاستناد إلى أسلوبٍ سردي يُحاكي الأسلوبَ العربي القديم، المتمثل بإدراج قصةٍ ما داخل قصة أخرى على غرار قصصِ وحكاياتِ (ألف ليلة وليلة) ونمطِها الحكائي، مُشتغلاً على تجاوُرِها أحياناً وتقاطُعِها أحياناً أُخر بطُرقٍ فنية مختلفة».

بينما لفت الباحث الدكتور لطيف زيتوني إلى أن فعل النضال عند إلياس خوري جاء مدفوعاً بشعور من يكره اللامبالاة، ويكره الظلم. هو شعور أقرب إلى ثورة داخلية، أخلاقية.

رغم أنه كتب عن فلسطين الكثير، ذكر د. زيتوني أنه «لم يكتب كأصحاب الأرض الذين يحكون عن وطن وهوية وانتماء إلى قرى نزحوا منها، لا تزال تحمل ذكرياتهم وحكاياتهم وعظام أجدادهم. لم يكتب عن فلسطين، وإنما عن الفلسطينيين. تعزز ذلك نتيجة تواصله الطويل مع الناس في المخيمات ليجمع الحكايات ويحولها إلى روايات. كل ذلك ربطه خوري لا بالقضية وحدها، بل بالجماعة الفلسطينية والشخصيات. كانت علاقته بالفلسطينيين كجماعة مظلومة مقهورة ومقتلعة». يقول د. زيتوني إن «باب الشمس» شكلت منعطفاً في الكتابة عن القضية، بعدها «صارت الروايات حكايات اللاجئين، صارت ذاكرة جمعها من أفواه العجائز، وشكلت لوناً روائياً جديداً، اعتمده المؤلف في كل رواياته اللاحقة، وصولاً إلى أولاد (الغيتو)».

ميزة إلياس خوري أنه «تنبه إلى أننا شعوب بلا ذاكرة لا ندون الأحداث وإنما نتركها تُتداول شفاهياً وتضيع ملامحها. لم يدون اللبنانيون أحداث 1840 ولا 1860 ولا أحداث الاستقلال ولا حرب 1975، اقتصرت الكتابة على وجهات النظر الرسمية والأحزاب والطوائف والدول المشاركة فيها. وبقيت وجهات نظر الناس على اختلاف تجاربهم حكايات شفهية».

وقدم الشاعر والناقد الزميل عبدو وازن قراءة مؤثرة لما كتبه إلياس خوري من مقالات خلال 14 شهراً من المرض، متحرياً موقفه من الموت والألم والدين. في تلك المقالات التي أملاها على ابنته عبلة فيض من المشاعر والرؤى، لهذا يتساءل وازن: «لو قدّر للروائي إلياس خوري أن يقاوم المرض وينتصر على الموت، فهل كان له أن يكتب هذا الاختبار الممض والقاسي. هذه التجربة التي خاضها بعينين مفتوحتين وعقلٍ حاد لكن بجسد مريض كاد أن يصبح في الفترة الأخيرة طيف جسد. هي من أقسى التجارب التي يواجهها الإنسان»، معتبراً أن «جبهة المحاربة هذه من أشد الجبهات عنفاً. فهو وحده يقاوم هنا داخل السرير فارغ اليدين منهكاً». فقد كان في هذه المعركة أقرب إلى أيوب الذي استوحى اسمه في روايات له، كما في مسرحيته «مذكرات أيوب» الشهيرة التي أخرجها روجيه عساف.

كتب خوري: «ضربني ألم لا قدرة للإنسان على تحمله، فصرت أطلب المورفين من الممرض، ثم طلبت الموت، ثم غبت عن الوعي. لحظة من لحظات الوجع المستديم على طريق جلجلته الأخيرة وقد خضع لست عمليات جراحية أعمل فيها الجراحون مباضعهم في منطقة وعرة من جسمه». وقال وازن شارحاً أن إلياس رغم ذلك «ظلّ في حالة من الرجاء، ظلّ يصرّ على الأمل والحب الذي صار ندّ الألم الذي يمهد للانتصار عليه، كما أملى على عبلة حرفياً».

وهدية ثمينة لمن حضر هذا اللقاء حول ذكرى إلياس خوري كتيب «الورقة البيضاء» الذي وُزع على الحضور، ويضم الفصل الأول من «رواية الربيع» التي كان يخطها خوري في البدايات، ونشر هذا الجزء منها في مجلة «مواقف» عام 1980.

لكن الخبر السعيد أن روايتين غير مكتملتين وُجدتا بين أوراق الراحل «رواية الربيع»، وأخرى لاحقة أنجز منها تسعة فصول.

يكتب في «الورقة البيضاء»: «البطل يموت، يجب أن يموت البطل في النهاية حتى يبقى بطلاً. هل تستطيع أن تتخيل بطلاً لا يموت، يصبح كهلاً ويفقد ذاكرته ويبول على نفسه في الفراش... مستحيل... يجب أن يموت البطل... إذن، فالقصة صارت جاهزة. إنها قصة بطل يموت».


مقالات ذات صلة

حفلات الزفاف الأعلى سعراً... أحدها بلغ مليار دولار

يوميات الشرق حفلات الزفاف الأعلى تكلفةً في التاريخ (وكالات)

حفلات الزفاف الأعلى سعراً... أحدها بلغ مليار دولار

يأتي الصيف وتأتي معه حفلات الزفاف. منهم من يحتفل ببساطة فيما يختار آخرون البذخ عنواناً. فأي أعراس كانت الأغلى عبر التاريخ؟

كريستين حبيب (بيروت)
رياضة سعودية هدف السباق إلى إحياء روح الإبحار السعودي (الشرق الأوسط)

ساحل أملج يتزين بسباق «البحر الأحمر كلاسيك» للإبحار الشراعي

أُقيم سباق «البحر الأحمر كلاسيك» للإبحار الشراعي، الذي نظَّمته شركة «54» العالمية للرياضة والترفيه، بالتعاون مع شركة «البحر الأحمر العالمية»، والمجتمع المحلي.

«الشرق الأوسط» (أملج)
يوميات الشرق شاب يفاجئ شريكته بعرض الزواج في ساحة تروكاديرو بالقرب من برج إيفل بمناسبة عيد الحب (أ.ف.ب)

«عيد الحب» يغزو شوارع العالم... فكيف بدأ؟ وإلى ماذا يرمز؟ (صور)

تتزين الشوارع في معظم المدن والبلدات بالورود الحمراء و«الدباديب» اللطيفة والبالونات التي تتضمن شعارات مليئة بالمشاعر وعبارات الحب

تمارا جمال الدين (بيروت)

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.