كيف يُعيد «تشات جي بي تي» تشكيل اللغة؟

دراسات تكشف أنه يهندس مفردات الكلام وطرائق التفكير

كيف يُعيد «تشات جي بي تي» تشكيل اللغة؟
TT

كيف يُعيد «تشات جي بي تي» تشكيل اللغة؟

كيف يُعيد «تشات جي بي تي» تشكيل اللغة؟

منذ أن تسلّل نظام الذكاء الاصطناعيّ الأشهر «تشات جي بي تي» إلى الفضاء الرقمي في ديسمبر (كانون الأول) 2022، أخذت اللّغة - ذلك النهر الخفي الذي تجري فيه أفكار البشر- تتغيّر ملامحها بصمتٍ لكن بشكل تراكميّ، ولم تعد الكلمات التي نستخدمها للتعبير اليومي تنبثق فقط من عاداتنا القديمة أو معاجمنا المتوارثة، بل بدأت أعداد متزايدة منها تُستدرج، كلمةً تلو أخرى، من تلافيف العقل السيبيري البارد إلى دفء الحياة البشريّة.

هذا على الأقل ما يعتقده علماء من معهد «ماكس بلانك لتنمية الإنسان» في برلين، رصدوا بحراً هائلاً من الكلام البشري - أكثر من 740 ألف ساعة من المحاضرات الأكاديمية والنقاشات العامة وحوارات البودكاست - ليلمحوا أن هناك وسط المليارات من الكلمات، تغيّراً لا يمكن تجاهله: مفردات بعينها أخذ يرتفع معدل استخدامها في المحاضرات وعلى الشاشات والميكروفونات فجأة، لتتصدّر المشهد اللغوي خلال شهور قليلة من إطلاق «تشات جي بي تي» للعموم.

كلمات قليلة محددة كانت قبل ديسمبر 2022 هامشية في محادثاتنا اليومية مثل «يتعمّق»، «يفتخر»، «يفهم»، «سريع»، «دقيق» والتي وكأنها منسوخة من لسان «تشات جي بي تي»، صارت الأكثر ترداداً على الألسن بمناسبة ومن دون مناسبة.

وتقول دراسات أخرى للظاهرة ذاتها إنها لا تقتصر على فضاءات الاستخدام العفوي غير المقيّد للكلمات، مثل حوارات البودكاست مثلاً التي تبدو وكأن «تشات جي بي تي» كان ثالث كل مذيع وضيف فيها، بل امتدت إلى النصوص الأكاديمية المعدّة مسبقاً. المفردة الأكثر دلالة هنا كانت «يتعمّق» التي يوظفها قاموس «تشات جي بي تي» بكثرة لا كمجرد فعل، بل كما وعد بالتنقيب في حفريات المعرفة التي تستدعي وقار البحث الأكاديمي ورصانته. وسجلت الدراسة أنّه في غضون أشهر من ديسمبر 2022، تضاعف استخدامها في المحاضرات، وكأنها أصبحت جواز مرور إلى الخطاب الأكاديمي الذي يفترض به أن يكون الأرفع والأكثر أصالة.

وبحسب دراسة للأوراق الأكاديمية المنشورة عام 2024 عبر العالم فإن 13.5 في المائة من ملخصاتها تحمل بصمات معالجة أو صياغة بأدوات ذكاء اصطناعي، لتصل النسبة في بعض التخصصات والمؤسسات إلى 40 في المائة. والأخطر أن هذه الإضافات الأسلوبية - التي يغلب عليها مزاج استخدام أفعال معينة - غالباً ما تكون غير مرتبطة مباشرة بالمحتوى العلمي، لكنها تمنح النصّ مسحة من الديناميكية والانسياب، كما لو أن الغاية لم تعد إيصال المعلومة، بقدر ما تتعلق باستيفاء شكل جمالي موحّد.

ومن اللافت أن أثر لغة الذكاء الاصطناعي لم يتوزع بالتساوي بين فروع العلم؛ إذ إن التعليم، والتكنولوجيا، وإدارة الأعمال بدت أكثر انفتاحاً على هذه البذور اللغوية الصناعية، بينما بقيت مجالات الدين والرياضة شبه عصيّة على العدوى. وكأن اللغة، مثل أي كائن حي، تنتقي التربة التي تجد فيها فرصة للإنبات.

ولأن الشكّ منهج العلم، لجأ الباحثون إلى أدوات التحليل السببي - ما يُعرف بـ«التحكم الاصطناعي» - لمحاكاة عالم بديل لم يظهر فيه قاموس كلمات «تشات جي بي تي» قط. والنتيجة جاءت حاسمة: الفارق بين العالمين أكبر من أن يُفسّر بمحض الصدفة.

ويقول العلماء إن المسألة لا تقف عند حدود التقليد. فحين نختار «يتعمّق» مثلاً بدل «يبحث»، فإننا لا نبدّل اللفظ فحسب، بل نغيّر زاوية النظر، ونغرس في العبارة نبرة، ومنهجاً، وقيماً ضمنية. فالأولى تستدعي مشهد الباحث الذي ينقّب بحذر في طبقات معرفية كثيرة، بينما الثانية تحيل إلى فعل مباشر لا ينشغل كثيراً بغير شكليات الطقوس الأكاديمية. وحين تُكرَّس مثل هذه الاختيارات في الكلام، فإنها تبدأ تدريجياً في تشكيل أفق التفكير الإنساني نفسه.

ليست هذه الظاهرة الأولى من نوعها في التّاريخ اللغوي، لكنها تختلف هذه المرّة في سرعتها وعمقها. فحين ظهرت المطبعة في أوروبا القرن الخامس عشر، تغيّر شكل النص وتوحّدت أنماط الكتابة، لكن التغيير استغرق أجيالاً. وعندما دخل الراديو والسينما والتلفزيون إلى كل بيت، تغيّرت نبرة الكلام وأوزان الجمل، لكن ذلك جرى عبر عقود. أما اليوم، فالتأثير يهبط علينا كالمطر الغزير، يبلّل مفرداتنا ويعيد تشكيلها في غضون أشهر أو سنوات قليلة، لا قرون.

ويحيلنا القائمون على الدراسة حول التساؤل المستحق عن تأثير هذه البصمة اللغوية للآلة إلى منطق «الدائرة الثقافية المغلقة»؛ حيث النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي تتغذى على اللغة البشرية، ثم تعيد إنتاجها وفق تفضيلاتها، فيتبنّاها البشر، فتعود هذه اللغة المعدّلة لتغذية النماذج اللاحقة. ومع كل دورة، تضيق فسحة التنوع الأسلوبي، وتتراجع اللهجات والأنماط الهامشية أمام مركز لغوي واحد، فائق النعومة، شديد الانضباط، كثير الشبه بنفسه.

وهذه بالطبع ليست فروضاً قسرية، بل هيمنة ناعمة. فالنماذج مثل «تشات جي بي تي» لا تفرض على المستخدم أن يتبنى أسلوبها للتواصل، لكنها تمنحه - من خلال الإيحاء الاجتماعي والمكافآت النفسية غير الملحوظة - شعوراً بالرضا عن الذات للظهور بشكل أكثر احترافية، وأكثر وضوحاً، وربما أكثر ذكاءً حين يتحدث بلغتها. وهكذا، يصبح أسلوب الآلة معياراً غير معلن، يُقاس عليه «جمال» النص و«قيمة» الخطاب، بينما يُدفع من يكون مغايراً بشكل تدريجي إلى الهامش نحو مساحات تُصنّف ضمنياً على أنها أقل رصانة، أو أقل مهنية.

وما يزيد الأمر تعقيداً أن التأثير لا يطول فقط مستخدمي الذكاء الاصطناعي المباشرين. فالمفردات والأساليب التي يولدها تتسرّب عبر المقالات الإخبارية، والكتب، والمراسلات المهنية، وحتى النكات على وسائل التواصل. وهكذا، حتى لو لم يتعامل الشخص مع «تشات جي بي تي» يوماً، فإنه سيجد نفسه وقد استعار كلمة أو تعبيراً لم يكن جزءاً من قاموسه الذاتي، بحكم أنه سمعه يتردّد على ألسنة آخرين، أو قرأه في نص بدا له محترفاً ومنساباً. إنها عدوى لغوية صامتة، تتنقل عبر الكلمات من شخص إلى آخر، ومن نص إلى آخر، حتى تغدو مألوفة لدرجة أننا ننسى غرابتها الأولى.

إن الجنس البشري يقف اليوم برمته أمام هجمة متسارعة لاستعمار ناعم بمفردات الآلة. فالمفردات، مثل أي حامل ثقافي، ليست حيادية، بل تجر وراءها رؤية للعالم، وتصوراً لعلاقات القوّة، وحتى شكلاً للذات. والواقع أننا بعد سنوات قليلة من انطلاق هذا الاستعمار صار لنا أن نقلق إلى أي مدى ستبقى اللغة مرآة للإنسان، ولا تمسي انعكاساً لآلة تتقن تقليده حتى حدّ استبداله.


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.