لماذا لم يصل صنع الله إبراهيم إليّ مبكراً في العراق؟

أصول جديدة للرواية العربية بعد نجيب محفوظ

صنع الله إبراهيم
صنع الله إبراهيم
TT

لماذا لم يصل صنع الله إبراهيم إليّ مبكراً في العراق؟

صنع الله إبراهيم
صنع الله إبراهيم

لا أتذكر أني سمعتُ باسم صنع الله إبراهيم في ثمانينات العراق الكئيبة؛ كانت الأخبار، آنذاك، قليلة، ومثلها الكتب. الحياة ذاتها كانت معلَّقة، برمتها، بالفراغ الدامي، في انتظار الذي يأتي ولا يأتي، كانت الحرب قصة البلاد الوحيدة ببطلها الأوحد الوحيد؛ فهو الحكاية كلها بفصولها المختلفة والمتعدِّدة، هو صانع الحكايات وراويها، وكان على البلاد أن تنتظر حتى تضع الحرب أوزارها. لكني للإنصاف، أيضاً، كنت مغرماً بالشعر والشعراء، وهذا، ربما، سبب إضافي لجهلي باسم الكاتب المصري الشهير، وكأن هناك قدراً حال دون تلك المعرفة، سوى أن مصائر الكتب ومؤلفيها لم تكن، يوماً، رهناً بالمزاج الشخصي؛ فأنا أتذكر أن صديقاً اشترى من «بسطية» كتب رواية عاش كاتبها ردحاً من الزمن في عراقنا العجيب، وكان عنوان الرواية «قصة حب مجوسية»؛ فلماذا لم أتعثَّر، أنا شخصياً، بإحدى روايات صنع الله كما تعثَّر صاحبنا؟!

أفكر الآن أن لا معنى لربط مصائر روايات كاتب ستيني أساسي، مثل صنع الله، بقراءاتي ومسارات حياتي المضطربة؛ فقصته التي صنعت شهرته: «تلك الرائحة»، كانت قد صدرت عام 1966 في القاهرة، وصودرت في الحال، ثم ظهرت منها نسخة غير مكتملة نشرتها مجلة «شعر» اللبنانية الشهيرة عام 1969. ولم أكن، وقتها، قد التقطت نفسي الأول. لكن القصة كلها هنا، في هذه النقطة المحدَّدة من الحياة؛ فأنا أفترض أن جانباً أساسياً من مساهمة صنع الله تكمن في هذه النقطة، فقصصه ورواياته كانت صانعة لمخيلتي الفقيرة آنذاك. هل كانت مخيلتي وحدها الفقيرة؛ أم أن البلاد، بلادي كلها، كانت تفتقر لمخيلة خصبة بعد حرب مدمِّرة وقصص مكرَّرة، ملايين المرات، لحاكم البلاد، وهو يضحك، ثم وهو يحتفل بميلاده «السعيد»، ثم وهو يذهب لتعاسته الخالدة؟

ثمة سيرة مقترحة... ثمة مخيلة أخرى

كانت قراءتي لقصة «تلك الرائحة» موعداً متأخراً مع مخيلة جديدة، كلياً، لم أعهدها من قبل. أفكر الآن أن تلك المخيلة كانت متصلة بسيرة ضمنية لكاتب تلك القصة المختلفة. تحكي القصة المطوَّلة، نسبياً، عن «سجين» سياسي يخرج، للتو، من المعتقل، ويعود إلى عالمه الأول، ولم يكن سوى غرفة قذرة هي المعادل للبلاد كلها. تبدو قصة السجين السياسي العائد قصة مكررة، ربما، في الرواية والقصة العربية؛ ففي الرواية العراقية، مثلاً، سيظهر عندنا ما سُمي، لاحقاً، بـ«ثلاثية شباط: (الوشم) - 1972 و(القلعة الخامسة) - 1972 و(الرجع البعيد) - 1980»، والروايات الثلاث، لا سيَّما «الوشم»، تتخذ من سردية السجين الخارج من المعتقل موضوعاً كلياً لها. ففي «الوشم» نغادر المعتقل مع «كريم الناصري»، ونعود معه إلى مدينته وعالمه العتيق. ثمة عالم كامل ينهار أمامنا، لا عِوَض أو بديل عنه سوى الوهم والخيبة. هذا بالضبط ما تقترحه «تلك الرائحة» من عوالم مختلفة وصادمة على القصة العربية، سوى أن بطل «تلك الرائحة» لا يملك بيتاً أو أهلاً يعود إليهم. فهي القصة، ولنقل «النوفيلا» المؤسسة لسردية السجين الخارج من المعتقل؛ حيث الأبواب الضخمة المغلقة بإحكام، الأبواب التي تكتم الأصوات وتقمع الأحلام. وهي، وحدها، مما يخرج منها الناس، في عالمنا العربي، إلى ما تبقَّى منهم، إلى سجون الذات المحصَّنة، فلا أبواب كبرى سواها تطاول السماوات؛ كما لو أن يجتاز عتبتها الأخيرة يُلقى به من أعلاها إلى أسفل سافلين، فلا يبقى منه غير الحطام!

وهذه سردية كررت عوالمها الرواية العربية مراراً بطبعاتها وأسمائها المختلفة. قصة المعتقل وسجينه والرائحة العجيبة، رائحة الذات المحطمة هي إحدى صنائع مخيلة صنع الله العجيب والمتفرد. هل كان إبراهيم يكتب عن تجربة بصفته معتقلاً سياسياً في سجون عبد الناصر؟ هذا من نافلة القول، وفي استلهام تجربة الذات فرادة وتفوُّق يُحسب لصنع الله؛ فلا نكون إزاء وهم الذات المتفجعة بمحنتها، ولا يستغرقنا فخ السرد المتوهَّم بمنجزه القصصي. كان صنع الله يستلهم تجربته، وهذه حقيقة كبرى قامت عليها مجمل رواياته؛ فهو يستعمل تجاربه الشخصية في الكتابة السردية، لكنه يعدها محض وسيلة من وسائل أخرى متعدِّدة، وربما مختلفة، في تشييد العالم السردي لقصته أو روايته.

1970: نسيان أقل وذاكرة منضبطة

لكن صنع الله المختلف لا يزيف تجربته ولا يخدع قارئه؛ فلا يكتب بقصد استعادة عالمه المنتهك أو المنهوب انتقاماً من سردية المعتقل، أو لترميم صورة الذات قبله، كما يرغب ويفعل كتَّاب عرب كثيرون؛ وللأسف؛ بروايات تتعكز على سردية «الحكاية المصنَّعة» فيسرفون في استعمال «النسيان» حتى كأنه قد صار ذاكرة كبرى في رواياتهم. أفكر هنا بروايته المتفردة أيضاً «(1970» («الثقافة الجديدة» - 2019)؛ فهي نموذج سردي خاص لما يمكن تسميته بجدل الذاكرة والنسيان. وعندي أن الرواية تنطوي وتقوم على مغالبة «النسيان» والاقتصاد الحذر في استعماله؛ فالأصل هنا هو الظفر بالقصة الأصلية بلا زيادات ولا نسيان متعمَّد.

تؤلف «1970» جزءاً ثالثاً من ثلاثية تُعرف بالاسم ذاته «ثلاثية صنع الله إبراهيم»، كما سمَّاها الناقد المغربي صدوق نور الدين في كتابه: «اكتمال الدائرة» («الثقافة الجديدة» - 2021)، وسبقها جزآن شهيران: «67» و«برلين 69». هي ثلاثية روائية بمواضيع تاريخية وأساليب سردية ذات صلة مؤكدة. ولست أعرف إن كان مصطلح «الثلاثية» قد أطلقه الكاتب نفسه، أم أنه من بنات أفكار نقاد رواياته ودارسيه، كما حدث من قبل عندما جمع الناقد المصري محمود أمين العالم 3 روايات للكاتب، في دراسة عُرفت بعنوان شهير: «ثلاثية الرفض والهزيمة» (1985)، وكان موضوعها الروايات: «تلك الرائحة»، و«نجمة أغسطس»، و«اللجنة». رواية «1970»، وقد انفردت عن الجزأين السابقين، بالصيغة التاريخية الكاملة «1970»؛ فرقاً عن «67» و«برلين 69»، وكأنها تعلن، ابتداءً، أنها بصدد كتابة سيرة جديدة، مختلفة ومتأخِّرة أيضاً، موضوعها ومادتها «الزعيم عبد الناصر».

حياة الزعيم في سنتها الأخيرة هي منطق الرواية وسبيلها لقراءة العالم السردي المنتهي بالوفاة المفاجئة لعبد الناصر. ولا تبخل علينا الرواية بمواد التوثيق السيري والتاريخي، بدءاً من التاريخ، وليس ختاماً بصورة «عبد الناصر» الواضحة على الغلاف الأمامي للرواية. والرواية تُفيد، من ثمّ، بوصفها نصاً مؤسساً في الرواية السيرية التاريخية، من موارد السرد التاريخي المختلفة والسرد الذاتي «منطق الراوي المتكلِّم» المتماهي مع سلطة مفترضة للراوي العليم المتخفي بألف قناع وقناع. ومثلما كانت قصته الأولى «تلك الرائحة» فاتحة روايات المعتقل في الأدب العربي بصيغتها الأخيرة المتمثِّلة بعودة السجين إلى عالمه الأول وحياته التالفة؛ فإن رواية «1970» هي صياغة كلية متأخِّرة (2019)، ولا شكَّ، لمنطق الذاكرة السيرية في سياق سردية «الزعيم». وقد سُبقت بثلاثية جميل عطية إبراهيم «1952»، و«أوراق 1954»، و«1981»، وقد صدر جزؤها الأول عام 1990. ولم تكن مختصَّة بسردية «الزعيم»، إنما بحدث مركزي هو «1952».

أفكر في سياق قراءتي لرواية «1970» بإشكالية الذاكرة الظافرة؛ إن صح الكلام والتسمية. وهي، هنا، الذاكرة المنضبطة، أو هذا ما تجاهر به الرواية، وهي تحايث سرديتين تتغالبان وتتضادان: سردية الراوي المتكلِّم: «لماذا لا أقول: المتذكِّر؟!»، وسردية الزعيم الرهيب. ويدخل ضمن هذا الانضباط التمكن الواضح، بل و«التغلُّب» على شهوة «النسيان». وهذه «شهوة» قاهرة أظهرت قدرة فائقة على اقتراح تواريخ وسير مختلفة عن أصلها الأول، مما نجده في أغلب روايات ما بعد الحداثة، لا سيَّما بنسخها العربية «المقلِّدة». رواية «1970» هي رواية الذاكرة الظافرة بنسيان أقل أثراً وفاعلية، وهي كذلك رواية الذاكرة المنصفة.

اخترت «نوفيلا: تلك الرائحة» ورواية أساسية، هي «1970»، في سياق مدونة كبرى تألفت من روايات كثيرة ومختلفة، كان لها أن تسهم في صناعة اسم متفرد هو «صنع الله إبراهيم». والنموذجان، أو النصان الأساسيان، ينجحان بتقديم العالم الخاص لكاتب من شاكلة «صنع الله»؛ فهما يقدمان طرائق متفردة من الريادة المُلهمة في كتابة الرواية والقصة المنتصرة لعوالم الذات المهمَّشة، والمغلوبة على أمرها، المرتبطة بالتواريخ المقصيَّة والملغاة من السجلات الرسمية، من دون أن يسمح لها بالسقوط في فخ الذات المنكسرة. ثمّ إن النصين ينجحان بتقديم صنع الله بوصفه سردية مقاومة لعسف السلطة، ولرغبة الذات الجامحة بكتابة مرثية تتوَّهم كتابة تاريخ ينتصر لها ولخيباتها السابقة. هذه السردية الأساسية تنجح كثيراً بتقديم نفسها بوصفها الرواية الثانية بعد رواية المؤسِّس نجيب محفوظ. هل ثمة مبالغة فيما نقول؟ أبداً؛ وقد أزعم أن الدراسات المقبلة في حقل الرواية العربية ستقف موسعاً عند نصوص صنع الله إبراهيم وتتأملها جيداً، ليس من نواحي أهميتها المؤكدة في تاريخ الرواية العربية فحسب، بنسختها المصرية المميزة، إنما سنجد باحثين ونقاداً يعيدون ربط رواية صنع الله إبراهيم بأصول جديدة للرواية العربية بعد نجيب محفوظ، وكأننا نتحدث عن ريادة أخرى، وتأسيس جديد للرواية العربية تحققها رواية الكاتب المتفرد حقاً صنع الله إبراهيم.


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.