الشعر ساخراً من الذات والعالم

أسامة الحداد في «الطريقة المثلى لإنتاج المشاعر»

الشعر ساخراً من الذات والعالم
TT

الشعر ساخراً من الذات والعالم

الشعر ساخراً من الذات والعالم

في ديوانه «الطريقة المثلى لإنتاج المشاعر»، لا يعاين الشاعر المصري أسامة حداد العالم من منظور متعال، ولا يكتفي فقط بالإشارة للخراب الذي يكتنف الواقع من حوله، بل تبدأ الذات الشاعرة بتفكيك نفسها، ومعاينة ضآلتها في عالم يموج بالشرور، فهي ذات معطوبة جسدياً وروحياً، متورطة ومنغمسة في هذا العالم نفسه، وغارقة حتى أذنيها فيما ينتاب الوجود حولها من تحلل وخراب، يضغط عليها، ولا يمكنها إصلاحه. فالذات هنا ليست ثورية أو نقية، ولا ترى نفسها منزهة عما يكتنف الواقع، ومن ثم تتخذ وضعية التنظير للقضاء على هذا الفساد والخراب، فهي ذات متورطة، وملوثة تماماً مثل كل ما حولها.

كل هذا تقدمه قصائد الديوان بروح شديدة السخرية، ولغة تهكمية، سواء كان تهكماً من هامشية الذات ومحدوديتها، أو خراب العالم بكل تفاصيله، أو من الحياة برمتها، إذ تبدو «الحياة مجرد دعوة مفتوحة للموت»، بما يفتح الباب لحمولات وجودية كثيفة تهيمن على الديوان، وحمولات سياسية وآيديولوجية، فضلاً عن الجانب الذاتي لذوات مأزومة تعاني معاناة مزدوجة، بين هزائم وجودية، وأخرى سياسية.

يبدأ الديوان - الصادر في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب - بما يشبه تقديماً ذاتياً، عبر قصيدة افتتاحية تقدم فيها الذات الشاعرة تعريفا بنفسها، في لغة حافلة بسخرية مريرة، بدءاً من عنوان القصيدة «أنا بخير»، مروراً بمتن النص كله، فتعرف نفسها قائلة:

«لدي الكثير من الهزائم

والحماقات،

ومعي أفكار نيئة

تصلح لجلسات النميمة،

تذوقوا بهدوء وتأكدوا أنني بخير»

تنحو الذات الشاعرة لمخاطبة العالم، من وجهة نظر أحد مشردي الشوارع، وتقويض خطابات التسلط، ومن يسلبون الحياة بهجتها، فيخاطب بشكل مباشر كلاً من: الشيخ، والشرطي، واللص، كنماذج للتحكم في الإنسان، دون أن تنسى الذات الشعرية السخرية من نفسها في مواجهة هذه السلطات، فهي ذات ضئيلة حد الانمحاء، فيقول في قصيدة «مشرد لا أكثر»:

«أيها الشيخ:

لست من مريديك

ومسبحتك لا تنزف أكثر من دم ملوث».

وعلى هذا المنوال، يصوغ خطابات مناوئة للشرطي واللص، ساخراً من نفسه ومن الجميع، بوصف السخرية فعل مناوئة وتقويض، إنها خدش وتشويه للمستقر والمهيمن. وتتمادى السخرية والرغبة في التفكيك، حتى تصل إلى تفكيك بنية الديوان ذاته، عبر إقامة تناقضات جوهرية بين عناوين بعض القصائد، وكأنها في حال من الحوارية، مثلما نرى في عنواني قصيدتي «أنا بخير» و«متى كنت بخير؟»، والاستفهام في العنوان الأخير استنكاري، ينفي أكثر مما يتساءل.

تهيمن جدلية الحياة والموت على معظم قصائد الديوان، وبنظرة إحصائية نلحظ تكراراً مطرداً للفظتين في كثير من القصائد، بل على مستوى العناوين، كما نرى في: «الموت يجلس القرفصاء»، و«يرتب حياة ضائعة»، و«خطوة في الطريق إلى الموت»، و«the death»، و«ماذا لو صنعنا حياتنا»، و«حياة واحدة لماذا؟»، هذا فضلاً عن تردد المفردتين بأشكال وصيغ متباينة في متون القصائد، حتى إن الذات الشاعرة تتعاطى مع الحياة بوصفها موتاً مؤجلاً، بل مسكونة بالموت في كل ما يكتنفها من تفاصيل تتعلق بالقهر والتهميش، كما يقول في القصيدة الأخيرة التي يحمل الديوان اسمها «لقد عاشوا أكثر مما يجب، وبعضهم مات من قبل، وخطواتهم تزعج الشوارع، وعودتهم معي فجر كل يوم مؤامرة لم أخطط لها»، إنهم الأصدقاء الموتى، الذين كانت حياتهم موتاً، وفي موتهم باتوا أشباحاً حية ترافق الذات الشاعرة.

ثمة رؤى كابوسية تسيطر على نظرة الذات الشاعرة للعالم ومفردات الواقع، فتبدو كل التفاصيل الواقعية مشوهة ومنتهكة، وبشكل فائق السريالية، حتى التفاصيل الناعمة المعروفة برومنسيتها، يضفي عليها قدراً هائلاً من العنف، والدوال المرتبطة تاريخياً بالبراح تصير شديدة الضيق، كذلك دوال السكن والراحة تكتسب دلالات العنف والانفجار، ومن ثم فإنه ينتهك العلاقة الراسخة ثقافياً بين الدوال ومدلولاتها، ويضفي عليها مدلولات نقيضة لمعانيها الأصلية في بنية الثقافة، كما نرى في قصيدة «الموت يجلس القرفصاء»، إذ يقول:

«والموسيقى تعرف كيف تطلق الرصاص

وأين تضع خناجرها،

فالطريق مصيدة ليس أكثر

والبيوت معدة للانفجار».

إنه هنا يعيد تعريف هذه الدوال الراسخة في الوعي الثقافي العام، وتشغله كثيراً المفردات المكانية، من شوارع وبيوت وجدران وطرقات، ويقدمها من منظور العابر المتجول، وليس المقيم، فالذات الشاعرة هنا أقرب إلى ذات هائمة، لها علاقة راسخة بكل تفاصيل الأمكنة، وتراها من الخارج، مقدمة رؤية مسكونة بحس الانتهاك لدلالات هذه الأمكنة، حتى مفردات الطبيعة طالتها هذه الاستراتيجية في انتهاك علاقات الدال بالمدلول، فيعيد تعريف مفردات الطبيعة، التي طالها التشوه هي الأخرى، إذ يقول في قصيدة «حائط خامس»:

«الشجر جريمة

والمصابيح فضيحة الليل،

الهواء حمله اللصوص،

والنهر جثة».

تنحو الذات في كثير من قصائد الديوان إلى تعريف نفسها بالسلب، بما هي ليست عليه، وما لا تستطيع أن تكون، تماشياً مع رؤية الذات لنفسها بوصفها ذاتاً هامشية، وتتكرر هذه الآلية في أكثر من قصيدة، تأكيداً على ضآلة هذه الذات، فيقول في قصيدة «محاولة لصيانة التاريخ»:

«لم أكن شجرة أو بيتاً،

ولم أعمل عازفاً في جوقة

إنها مجرد أكاذيب،

أنا غير هذا تماماً».

إن الذات هنا، لا تملك من الوعي الإيجابي أن تقول أنا كذا، فهي واعية لانسحاقها ومدركة له ولأبعاده، وتؤكده أسلوبياً عبر هذه التعريفات السالبة، التي نراها أيضاً بشكل لافت في قصيدة «قد أكون هكذا»، بعنوانها الاحتمالي الدال هذا، إذ يقول:

«لست كائناً خرافياً تخافني الطرقات،

لا أصلح كملك

حتى في لعبة شطرنج...

ولا كمنشد في جوقة من الشحاذين».

إن هذه الذات ليست في تقاطع فقط مع خراب العالم، بل حتى في تناقض بنيوي مع تفاصيل جسدها، الذي يبدو عبئاً ثقيلاً لا تقوى حتى على حمله، وتسعى للخلاص من هذا الجسد ذاته، وتتبدى هذه العلاقة الملتبسة بالجسد في القصيدة نفسها، قائلاً: «كثيراً ما أخلع أعضائي، لأستريح من مشاكلها، وأنسى أين تركتها، قبل أن تعاود الدخول في ملابسي». وهو ما يكرره نفسه في قصيدة «حماقات»، قائلاً: «جسدي زنزانة، ملابسي مؤامرة». إن هذه الرؤية المرتابة تنفذ حتى إلى علاقة الإنسان بجسده وملابسه، وليس فقط ما يحيط به.

تعتمد كثير من قصائد الديوان على التساؤل الذي يمثل عنصراً مهماً ومهيمناً في بنيتها الجمالية، فهذه الذات الحائرة المرتابة، المدركة لانهيارها، ولخراب العالم من حولها، لا تملك في النهاية سوى طرح الأسئلة التي تتوالد بشكل لافت في كثير من القصائد، سواء كانت بصيغ استفهامية، أو ساخرة واستنكارية، فهي - في الأخير- لا تملك إجابات حاسمة يمكنها أن تطمئن لها، وليس في جعبتها من شيء سوى الوقوف للتساؤل، كفعل وحيد وأخير للمقاومة.


مقالات ذات صلة

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

ثقافة وفنون محمود البريكان... شعرية الاغتراب

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

تجربة الشاعر محمود البريكان، بوصفه أحد شعراء الحداثة العراقيين، المجايلين للشاعر بدر شاكر السياب، منذ خمسينات القرن الماضي، تجربة شعرية متفردة إلى حدٍ كبير.

فاضل ثامر
الوتر السادس مصطفى الجارحي: أغنياتي مُحمّلة بطاقات شعرية لا تخضع لحسابات السوق

مصطفى الجارحي: أغنياتي مُحمّلة بطاقات شعرية لا تخضع لحسابات السوق

كان لأغنيات الشاعر مصطفى الجارحي التي لحنها وغناها الفنان مصطفى رزق، مطرب الجاز المصري، حضور كبير في النسيج الدرامي لمسلسل «ولاد الشمس».

حمدي عابدين (القاهرة)
كتب ركائز الخطاب الشعري في أعمال الأبنودي

ركائز الخطاب الشعري في أعمال الأبنودي

صدر حديثا عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر كتاب «عبد الرحمن الأبنودي: شاعر الهوية المصرية» للناقد الدكتور رضا عطية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

«تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

يبدو ديوان «تجرحني بخفة وتعلو»، للشاعر المصري جمال القصاص، منذ عنوانه مفتوحاً على احتمالات تأويلية متعددة.

عمر شهريار
يوميات الشرق الشاعر ناصر بن جرّيد (صور متداولة للراحل)

الشاعر ناصر بن جرّيد… عبَر سكة التائهين ثم رحل

فقد الوسط الفني والثقافي والأدبي والرياضي في السعودية، الشاعر والأديب ناصر بن جرّيد، بعد معاناة مع المرض، تاركاً إرثاً لافتاً جمع بين الموهبة والإبداع.

بدر الخريف (الرياض)

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.


«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن
TT

«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن

بمناسبة مرور 250 عاماً على ميلاد الكاتبة البريطانية جين أوستن، أصدرت دار نشر «فينيتيود» الفرنسية كتاباً جديداً بعنوان: «عزيزتي كاسندرا»، يضم رسائل تبادلتها الروائية مع أختها الكبرى كاسندرا.

الحدث، وفق تقارير الصحافة الأدبية، مهم، فنحن إذا استثنينا بعض المذكرات المختصرة التي نشرها أقارب جين أوستن في القرن الـ19، ورغم المكانة الرفيعة التي تحظى بها الكاتبة اليوم، فإن ما نملكه من معطيات عن حياتها لا يزال محدوداً نسبياً. ولذا؛ فإن مبادرة دار النشر «فينيتيود» جاءت لتقدّم فتحاً لافتاً، حيث أصدرت لأول مرة النص الكامل للرسائل المتبادلة بينها وبين شقيقتها، وهي تقدر بنحو 89 رسالة تبادلتها الأختان بين يناير (كانون الثاني) 1769 وأبريل (نيسان) 1816، بينما كان الباحثون قد قدروا عدد الرسائل التي كتبتها جين في حياتها بنحو 300، لم يبقَ منها سوى 116، حيث حرقت كاسندرا جزءاً منها؛ حمايةً لسمعة جين بعد وفاتها، خصوصاً أن كثيراً منها تضمن تعليقات غير مُحبّذة أو جارحة بحق بعض الأقارب والأصدقاء، أو إشارات إلى مسائل خاصة بالصحة والعلاقات.

«عزيزتي كاسندرا» ليست مجرد مراسلات عائلية بين أختين تجمعهما علاقة قوية، بل وثائق تاريخية تكشف عن امرأة رفضت الخضوع لتقاليد عصرها... اختارت الكتابة على الزواج المريح، وحولت معاناتها الشخصية إلى فن راقٍ، حيث نرى جين أوستن الحقيقية: المرأة الذكية، والساخرة، والمحبة لعائلتها، والملتزمة بفنها حتى النفس الأخير.

في رسائلها المبكرة، تكشف جين، البالغة من العمر 20 عاماً، لأختها وكاتمة سّرها كاسندرا عن علاقة عاطفية مع المحامي الآيرلندي الشاب توم ليفروي، التي يُعتقد أنها ألهمت شخصية «السيد دارسي» في روايتها «كبرياء وتحامل»، حيث كتبت إلى كاسندرا في 9 يناير 1796: «كاسندرا... أخشى أن أخبرك كيف تصرفت أنا وصديقي الآيرلندي. تخيلي كل ما هو صادم وفاضح في الرقص والجلوس معاً...». وفي 15 يناير، كتبت إليها مجدداً بنبرة مختلطة؛ بين الدعابة والأسى: «اليوم هو اليوم الذي سأغازل فيه توم ليفروي لآخر مرة، وحين تصل إليك هذه الرسالة، فسيكون كل شيء قد انتهى. دموعي تنهمر وأنا أكتب هذه الفكرة الكئيبة».

واللافت أن جين بدأت كتابة المّسودة الأولى لرواية «كبرياء وتحامل» في أكتوبر (تشرين الأول) 1796، أي بعد أشهر قليلة من رحيل ليفروي إلى لندن لإكمال دراسته القانونية؛ مما يعزز فرضية تأثير هذه التجربة العاطفية على إبداعها الروائي. وعكس الرواية التي حملت نهاية سعيدة، فان جين لم تتزوج توم بسبب وضعها المادي ومعارضة العائلة هذه العلاقة. وهو ما تُظهره رسائل أخرى مكتوبة بين عامي 1801 و1806، حيث تبدو في مواجهة تحديات مالية واجتماعية قاسية، بعد أن قرّر والدها التقاعد والانتقال إلى مدينة باث، وهو ما صدم جين بعمق، حيث كتبت في 5 مايو (أيار) 1801 واصفة بلهجة ساخرة: «المنظر الأول لباث في طقس جميل لا يوافق توقعاتي. أعتقد أنني أرى بوضوح أكثر من خلال المطر...». وتضيف في موضع آخر: «كل شيء بخار وظلال ودخان وارتباك».

وفاة والدها المفاجئة عام 1805، تركت جين وكاسندرا ووالدتهما في وضع مالي صعب، حيث اضطررن إلى الاعتماد على المساعدات السنوية من الأشقاء الذكور، والتنقل بين منازل الأقارب.

خلال هذه الفترة العصيبة، توقفت جين بشكل شبه كلي عن الكتابة، حيث بدأت رواية «ذا واتسونز» لكنها لم تكملها، والرواية تتحدث عن قسّ مريض فقير وبناته الأربع غير المتزوجات؛ مما فُسر بأنه صدى واضح لمحنتها الشخصية. الاستقرار لم يأتِ إلا في عام 1809 عندما وفر لهن شقيقها الغني إدوارد منزلاً في تشاوتون، حيث عاشت جين أكثر سنواتها إنتاجاً أدبياَ هناك مع كاسندرا التي تولت إدارة المنزل، لكي تتفرغ جين للكتابة. في هذه الفترة، أنتجت خمساً من أشهر رواياتها: «العقل والعاطفة» و«كبرياء وتحامل» و«متنزه مانسفيلد» و«إيما» و«إقناع». ورغم وضعها المادي، فإن جين أوستن لم تكن تقبل بالنفاق أو بالتنازل عن مبادئها، وهو ما وثقّته الرسائل بشكل غير مباشر من خلال قصّة خطبة هاريس بيغ ويذر، الذي فاجأها بعرض زواج خلال زيارتها عائلته في مانيداون بارك. وبعد قبولها العرض، غيّرت رأيها في الصباح التالي، وفرّت إلى باث مع شقيقتها كاسندرا في حالة من الاضطراب الشديد.

هذا الرفض لم يكن مجرد قرار عاطفي، بل كان قراراً مصيرياً رفضت فيه جين الأمان المالي والمكانة الاجتماعية من أجل مبادئها. وقد انعكست هذه التجربة في رواياتها، خصوصاً في شخصية «شارلوت لوكاس» في «كبرياء وتحامل» التي قبلت بالزواج من «السيد كولينز» لأسباب مادية، وفي علاقة «فاني» و«هنري» في «متنزه مانسفيلد». وقد كتبت جين لاحقاً في إحدى رسائلها عام 1814 ناصحة: «كل شيء يُفضّل، أو يُحتمل، ما عدا الزواج من دون عاطفة».

الرسائل أظهرت أيضاً شخصية جين المحترفة الحريصة على التفاصيل والدقة في تحرّي المعلومات، حيث نراها تناقش أختها تفاصيل عن سفن البحرية لتضمن دقة الوصف في «متنزه مانسفيلد»، وقد غيرت كثيراً من التفاصيل بعد أن استشارت شقيقها الضابط.

في رسائلها الأخيرة (1816 - 1817)، ورغم المرض الذي بدأ ينهش جسدها الذي يُعتقد اليوم أنه كان مرض «أديسون»، فإن جين استمرت في الكتابة بروح متفائلة، حيث بدأت رواية «ساندايتون»، لكنها لم تكملها بسبب ضعفها. وفي إحدى رسائلها الأخيرة لأختها كاسندرا في يناير عام 1817، كتبت بروحها المرحة المعتادة رغم معاناتها الواضحة، قائلة: «أعيشُ غالباً على الأريكة، لكني حصلت على تصريح بالمشي من غرفةٍ إلى أخرى؛ خرجتُ مرةً أتنفس الهواء بعد أن تناولت قرص دواء، ووُضعت على كرسيٍّ محمول...»، وهي عبارةٌ تُظهِرُ قدرتها على المزاح رغم المرض.


«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى
TT

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

يقدّم خالد إبراهيم في الجزء الأوّل من ثلاثيته الروائية «الأوسلاندر- تشريع الغربة اختبار الفقد»، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 265 صفحة)، نصاً يؤسّس لمرحلة تكوّن إنسان يدفعه وطنه إلى التخلي عنه، ويستقبله بلد آخر بصفته «أجنبياً» لا بصفته ذاتاً كاملة. يتموضع هذا الجزء بوصفه بناءً تمهيدياً لمشروع سردي أطول، يقدّم الشخصيات والفضاء واللغة والحدث من دون إغلاق أي سؤال، بل عبر تثبيت قاعدة الانطلاق فقط.

يتمحور السرد حول حركة انتقال واحدة: خروج من فضاء مهدَّد في الوطن الأول، ودخول إلى فضاء منضبط وبارد في بلد اللجوء. غير أنّ الكاتب لا يتعامل مع هذه الحركة بوصفها رحلةً درامية أو ملحمة عبور، بل على أنها تحوّل بطيء في إيقاع حياة بطل واحد هو «شفان»، الذي يُعاد تشكيله داخل نظام كامل من الملفات والمقابلات والاستمارات وأسئلة الهوية، بحيث يُطلَب منه أن يسوّغ وجوده باستمرار. الحدث الرئيس ليس سلسلة وقائع، بل اصطدام يومي بين ما يراه «شفان» في نفسه وبين ما تراه المؤسسة عنه.

قوّة السرد تكمن في تجنّب الروائي الإفراط الدرامي؛ فلا مطاردات البتة، ولا مشاهد عبر الحدود، ولا بكائيات... إنما ثمة توتر منخفض يستمدّ قوته من الانتظار الطويل، وبطء الإجراءات، وقلق المستقبل. يكتب الروائي تجربة اللجوء بطريقة أقرب إلى الواقع منها إلى الصورة التلفزيونية. وبذلك يصبح الشعور بالاختناق البارد هو المسرح الداخلي للرواية، لا مشاهد العنف أو المآسي الصارخة.

شخصية «شفان» تُبنى عبر طبقات شفّافة، فلا يُقدَّم بطلاً ولا ضحية، بل إنساناً عادياً يحمل ذاكرة قاسية لكنه يعيش لحظة الحاضر تحت سطوة إجراءات يومية. الماضي يظهر بوظيفة تفسيرية لا استطرادية، بحيث لا يطغى على الحاضر. كما أن التغيير في الرواية ليس طفرة ناتجة عن حدث كبير، بل حصيلة مواقف صغيرة متراكمة، منها: تعلُّم الوقوف أمام الموظف، وكبح الغضب أمام النظرة المتعالية، وفهم شروط المكان الجديد... تكلفة الخطأ عالية، لذا يأتي النضج بطيئاً وحذراً.

إلى جوار «شفان» تتحرك شخصيات ترسم محيط التجربة. فـ«خبات» لا يظهر بوصفه نموذجاً مثالياً بل مهاجراً متعباً، يساعد ويتردد ويخاف، فتنعكس فيه صورة احتمال آخر لمصير «شفان». أمّا «بروين» فتمثل خطاً عاطفياً محتَملاً لا يكتمل، لأن المنفى لا يمنح علاقة مستقرة بسهولة. الحوار بينهما مشحون بالحذر، كأنّ كل كلمة اختبار لخطوة آتية قد تُبنى أو تُلغى. بهذا تُظهر الرواية بعداً آخر للمنفى: المنفى عن الطمأنينة العاطفية، لا عن الوطن وحده فقط. أما الظلّ فيأتي بوصفه أداة فنية ذكية تتيح مساءلة الذات من دون تنظير مباشر. إنه صوت عميق يسأل عن جدوى الرحيل، وإمكان العودة، ومعنى العيش بين هويتين، مما يمنح البنية النفسية للرواية بعداً هادئاً، يكشف عمّا هو أعمق من السرد المباشر.

المكان في «الأوسلاندر» ليس فضاءً جغرافياً بل شبكة ضغط. الوطن الأول يُستحضر بإشارات موجزة تكفي لتبيان أنّ وراء الخروج خوفاً حقيقياً. بينما البلد الأوروبي لا يرسمه الروائي جحيماً ولا فردوساً، بل منظومة صلبة في إجراءاتها، دقيقة إلى حدّ الإرهاق والاختناق. حيث تكفي غرف الإيواء الضيقة، والأسرّة المتجاورة، والمطابخ المشتركة، وأرقام الانتظار، والممرّات الرسمية، لتأسيس شعور الرقابة المستمرة. حتى الأماكن المفتوحة كالغابة أو المقهى تُستخدم كتخفيف مؤقت من الجدران لا كرموز فلسفية.

الزمن في الرواية يُبنى بنظامين؛ أحدهما زمن إداري تحدّده المواعيد والدوائر والرسائل، وثانيهما زمن داخلي يتشكّل في لحظات الانتظار الطويلة، حيث يتسلل الماضي إلى الوعي من دون أن يخطف مركزية الحاضر. فلا قفزات زمنية معقدة ولا نهايات مغلقة. إنها قطعة من مسار أطول، مرحلة من تشكّل هوية «الأوسلاندر» التي من المفروض أن تُستكمل في الجزأين التاليين.

وبوصف اللغة عنصراً رئيساً ومهماً في بناء العالم السردي، يختار خالد إبراهيم، القادم من الشعر، لغة نثرية اقتصادية، بجمل قصيرة، ومشاهد محكمة، بلا زخرفة أو استعارات مبهرة. هذا الخيار الجمالي يكسر السرديات المعتادة حول اللجوء، التي كثيراً ما استدرجت الخطاب العاطفي أو الإنشائي. هنا تُستخدم اللغة أداة إضاءة، لا وسيلة لاستدرار التعاطف. ورغم ذلك يسمح الكاتب لجملته أحياناً بأن تتباطأ وتتأمل، لكنها تبقى لحظات عابرة لا تغيّر من نبرة الأساس.

لا يحصل قارئ رواية «الأوسلاندر» في نهاية الجزء الأول على أي يقين حول مصير «شفان»... الماضي مفتوح على تهديد محتمل، والحاضر لم يتحول إلى إقامة مستقرة، والمستقبل لا يظهر إلا من زاوية الشك. هذه اللّاخاتمة ليست ضعفاً، بل هي جزء من مشروع الرواية كما نعتقد: ترك الباب مشرعاً أمام التكوين المستمر لشخص يتشكّل تحت ضغط تصنيف قاسٍ اسمه «الأوسلاندر».

بهذا الاشتغال الدقيق على الشخصية والزمان والمكان واللغة، يقدّم الجزء الأول من «الأوسلاندر» نموذجاً لرواية تُراكم ولا تُعلن، وتكشف ولا تستعرض، وبذلك تضع القارئ داخل التجربة لا خارجها.