«مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

رائد العيد يكتب عن المديح من البدء إلى «زمن الليكات»

«مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية
TT

«مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

«مدائح تائهة»... نصّ يتمرد على التصنيفات الأدبية

«الإنسان حيوان مدّاح»، يقول رائد العيد في كتابه الجديد «مدائح تائهة»، عادَّاً أن «تأمل الأشياء من حولنا نوع من ممارسة الخشوع»، ورؤية ما هو غير متاح عند النظرة العابرة. لذا؛ يصحبنا في رحلة إلى استكشاف جوانب لم نلتفت إليها، ومعاينة ظواهر لم نعرها اهتماماً.

لذا؛ فأنت تقرأ الكتاب مستلذاً وكأنك تستبطن ذاتك، وقد لا تدرك جيداً مرامي المؤلّف إلا وأنت تتقدم في الصفحات. في الفصل الأول تعاريف لفكرة «المديح» وحب المخلوقات للثناء، منذ نبينا آدم الذي «أسبغ عليه الله مديحه، فغار إبليس وفعل ما فعل لتبدأ الحكاية»، وصولاً إلى زمن الليكات، الذي يعتاش فيه الإنسان على الإعجاب الرقمي. إنه «عصر مدح ما لا يمدح». وكما الأمس كذلك اليوم «المديح مخدّر نفّاذ، وذو صدى عالٍ ولو كان صامتاً»، لا، بل يصح القول: «أنا أمدح، إذن أنا موجود».

فصول تحمل عناوين ذات طابع تأملي وشعري في آن: «المديح»، «البدايات»، «الإطار»، «السقف»، «اللامكان»، «اللعب»، «النظر من الأعلى»، «اللوز»، و«الهامش». كل منها يفتح الباب على أسئلة جديدة، خاصة وأن الكاتب السعودي رائد العيد يحاول أن يقلّبها، ويراها من زوايا مختلفة، مبتدئاً بزاويته الخاصة، ذكرياته الذاتية، وصداها في أعماق روحه.

هي نصوص حرّة ومترابطة، منعتقة من أسر الشكل أو هموم التأطير الجامد، تذكّر في بحثها عن جماليات الأشياء اليومية بكتابات رولان بارت. «مدائح» لا تنتمي إلى جغرافيا محددة أو هوية جامدة، بل إلى القيم المتحركة: البداية، النسيان، الانتباه، والدهشة.

البدايات الجديدة ممنوعة

فالكلام على «البدايات» مثلاً، قد يعني الولادة، ذكريات الطفولة، أو مقدمة كتاب، وقد تكون بداية حياة جديدة، على طريقة محمود درويش «تنسى كأنك لم تكن»، وهذا بات صعباً؛ لأن العصر الحديث يلغي حق الإنسان في نسيان ماضيه، لأننا نعيش في «عصر يسترزق من تجارة الذاكرة».

غونتر غراس، بعد نيله نوبل، أرفع جائزة أدبية عالمية، اضطر وهو على مشارف الموت، إلى أن يعترف بعمله مع الفرقة الخاصة بهتلر. كان يومها مراهقاً صغيراً. لكن هذا لم يغفر له فعلته، سُحبت منه الجوائز ونُزع عنه لقب «ضمير الأمة الألمانية». علم النفس بدوره يعيدنا أبداً إلى البدايات، يقول لك إن كل شيء ينبع من هناك. أما الإنترنت فهو الذي قضى على أي أمل في حذف تاريخ أو تعديل ماضٍ. مع أن العيش في سجن ما فات وانقضى هو انتهاك لحق الإنسان الطبيعي. «أن يكون باستطاعة المرء البداية من جديد على طريقته، وحسب إرادته ضرورة وليست ترفاً، وعلى المجتمع التكفل بحق صنع البدايات».

«الإطار» شاشة الأحلام

كل فصل يفتح نوافذ على الفصل الذي يليه. ننتقل إلى «الإطار» ليس فقط الإطار الذي يحيط باللوحة، فهذا يتحول في ذهن الكاتب وهو طفل إلى شاشة للأحلام. الأهم من الصورة ومشهديتها هو طريقة تأطيرها الذي يمنحها معنى آخر. هكذا هو الحال مع النص.

الإطار هو ما يحاول أن يتفلت منه الكاتب، وتحديداً رائد العيد نفسه، محاولاً الخروج من الأطر، ليرسم لنفسه بروازاً يحدده بنفسه، مكتفياً بـ«إطار الفكرة». ومثله فعل شعراء الحداثة الذين يتحدث عنهم حين رفضوا عمود الشعر، مطالبين بالتحرر منه. لكن النقاد يصرون أبداً على تصنيف الكاتب تبعاً لشروط ومفاهيم جنس أدبي بعينه. والمبدعون الحقيقيون يهربون كالأطفال من هذه التصنيفات، في محاولة دءوبة للحفاظ على حقهم في «دهشة متجددة». يقول: «قد نخسر الكثير من الحرية بالتأطير، وقد نخسر أكثر بفقدان الإطار».

«السقف» هو الضيق والاتساع

السقف، كما يصوره الكاتب، ليس فقط الجزء العلوي من الغرفة الذي يظلل رؤوسنا، بل هو «رفيق العزلة» و«ذاكرة الخيال». نتحدث عنه كأنه يرسم حدود الأشياء «سقف الطموحات»، «سقف الحرية»، «سقف الذاكرة»، وقد يكون «مكاناً للأوهام» كما عند ماركيز، أو «مساحة للفن» كما في أعمال سلوتاوا، أو «وجه الحرية» كما عند محمود درويش. تغيرت أشكال السقوف عبر التاريخ، من خشبية عند المصريين القدماء، إلى سماوية اللون مغطاة بالنجوم عند اليونان، إلى مزدانة بالرسوم عند الرومان، وليس أجمل ولا أروع من أسقف مايكل أنجلو. وفي الكتاب كلام عن جماليات الأسقف وفنون تزيينها، وعودة إلى السقف الأبيض كبياض الورقة في الكتاب. السقوف في كل الأحوال تتكلم، وقد تتحول وحشاً مخيفاً أو مساحة للتأمل، لكنها ليست حيادية أبداً، ومع ذلك نادراً ما ينتبه المصممون إلى ما يفعل السقف بالمتأمل.

السقف يفترض أن يكون متسعاً، يفسح مجالاً للعين والخيال والأفق. «مطلوب دوره أكثر من شكله، وإلا تحول من مكان يخصنا إلى لامكان». هو في الوقت نفسه، رمز للحدود، للقيود، والمدى الضيق الفكري والروحي الذي نحياه. أما «اللامكان»، فهو تأمل في الغربة، والتيه، والحنين إلى ما لم يكن.

«اللامكان» مكان ناقص

يتناول الكتاب مفهوم «اللامكان» كما قدمه الأنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه، ويربطه بسمات الحداثة المفرطة التي تتسم بالتسارع وفقدان المرجعيات الثابتة. يرى المؤلف أن المكان يكتسب معناه وهويته من خلال ما ينسج فيه من علاقات ومعانٍ وتاريخ، وأن اللامكان هو على النقيض من ذلك؛ موضع بلا تاريخ أو مستقبل، غارق في اللحظة الراهنة، ومهموم بإشباعها.

يصف الكتاب «اللامكان» بأنه بلا إمكانات، موطن الأفعال الناقصة والبدايات غير المكتملة واللحظات العابرة. فالأماكن تتشكل بأهلها لا بجدرانها، بالتاريخ بالمستقبل. فما يجعل المكان مكاناً هو العلاقات التي تنشأ به. فنحن نشكل أماكننا ثم تعود هي لتشكلنا بدورها. «نخطط مدننا ونشيدها، لنصبح بعد ذلك أشبه بالأسرى لإيحاءاتها وتأثيراتها في أخلاقنا ومشاعرنا».

المقاهي، المطارات، الفنادق، الطرقات، أماكن موجودة، لكنها لا تضم مجتمعاً عضوياً. هي اللامكان لأنها تحرر من يدخلها من محدداته المعتادة، ليصبح مجرد مسافر أو زبون أو سائق.

«وإذا كان من معنى للحياة، «فهو أن تجعل من اللامكان مكاناً يخصك قبل أن ترحل عنه. هذه هي مهمة الحياة».

اللعب من أجل اللعب

يسهل مدح اللعب ويصعب تعريفه. لعله هو أمر نفعله لذاته، بمحض إرادتنا لمجرد التسلية دون أي هدف آخر. و«نتحصّل على فائدته وإن لم نطلبها». فنحن نلعب من أجل اللعب. و«لولا اللعب ما رأى عمل إبداعي النور قط» بحسب كارل يونغ. فهو يصقل شخصية المرء أكثر من أي نشاط آخر، ويساعد على استقصاء الذات واكتشاف كنهها وتمكين الإنسان من صنع كينونته الفردية. وأي لعبة من السهل تعلمها ولكن من الصعب إتقانها، كما الكتابة، يراها المبتدئ شديدة السهولة، ويراها المتمرس عصية على الإتقان.

فاللعب تجريب، وتسلية تتوق إليها الروح، وتحطيم للقواعد واستخدام لأعراف جديدة، وهو كله أصل في الابتكار.

«مدائح» لا تنتمي إلى جغرافيا محددة أو هوية جامدة... بل إلى القيم المتحركة: البداية، النسيان والانتباه والدهشة

صوفية «النظر من الأعلى»

أن تنظر إلى الأشياء من علٍ فيه توسعة للرؤية، وكشف عن جوانب لم نكن نراها من الداخل، ومصدر إلهام. تعلم برؤيتك العلوية أنك مجرد «نقطة في بحر اللانهائي» ويقر الإنسان بضآلته في هذه العوالم التي يراها. في هذا الفصل يستعين الكاتب بأمثلة من التصوير الجوي، والفلسفة، والسينما والأدب، كما في الفصول الأخرى. يضع القارئ أمام السؤال: ما الذي نغفله حين نعتقد أننا «نرى كل شيء»؟ وكيف أن التواضع في الرؤية قد يكشف أكثر مما يُخفيه التعالي؟

وبالعودة إلى الأدب، فإن الكاتب الذي لا يملك لعمله نظرة كلية من الأعلى يتوه في التفاصيل، وينفّر القارئ. «لا أنظر من أعلى بحثاً عن مكاسب عاجلة، عن منظر بديع فقط، أنظر من هناك تمريناً على سعة الأفق، وبعد النظر، واختبار انسجام الأشياء مع بعضها البعض»، يقول الكاتب.

«اللوز» من اليابان إلى فلسطين

يتناول الكتاب «اللوز» كرمز متعدد الدلالات، بدءاً من تجربة شجرة اللوز الهجينة في مزرعة العائلة، التي يربطها المؤلف بمفهوم الهوية الهجينة. يعبر عن حبه للوز بصفته عنصراً مندغماً في المأكولات. لعل فصل «اللوز» الثمرة التي يفضلها الكاتب على كل ما عداها، خاصة حين تصبح جزءاً من كرواسان الصباح هي المبرر للبحث عن مزاياها ومكانتها في الطبيعة والأدب واللوحة وعند اليابانيين بشكل خاص.

ويبدو أن الفلسطينيين هم أكثر من أجادوا الكتابة عن اللوز وزهوره وأشجاره هذا يذكرنا بديوان محمود درويش «كزهر اللوز أو أكثر». الشاعر الذي يحظى بصفحات من هذا الفصل والذي رأى أن «وصف زهر اللوز لا تكفيه موسوعة الأزهار ولا يسعفه القاموس في ذلك؛ لأن البلاغة تجرح المعنى وتمدح جرحه، ويبقى زهر اللوز مزهراً بلا وصف يليق به». يصف الكتاب طقس تكسير حبات اللوز بصفته جزءاً من اجتماع العائلة في أمسيات الشتاء، ويربطه بمفهوم الأنس، على عكس تجربة الكاتبة الإيرانية آذر نفيسي التي تستخدم اللوز جزءاً من طقوسها لتنفيس الغضب.


مقالات ذات صلة

الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

ثقافة وفنون عيسى مخلوف

الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

لعلني لا أجافي الحقيقة في شيء إذا نوهت في بداية هذه المقالة بأن مسارعتي لقراءة إصدار عيسى مخلوف الجديد «باريس التي عشت» لا تعود إلى جاذبية المدينة المعنية

شوقي بزيع
ثقافة وفنون مشطان من العاج مصدرهما موقع دبا الحصن الأثري في إمارة الشارقة

مشطان عاجيان من موقع دبا الحصن الأثري

تحوي دولة الإمارات العربية سلسلة من المواقع الأثرية، منها موقع دِبَا الحصن الذي يحمل اسم المدينة الساحلية التي تُشرف على ضفاف الشاطئ الغربي لخليج عُمان

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الأكاديمية الإسبانية تستذكر يوسا وتكشف أعمالاً له غير منشورة

الأكاديمية الإسبانية تستذكر يوسا وتكشف أعمالاً له غير منشورة

تحتفل الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية يوم الأحد المقبل بذكرى مرور 3 أشهر على رحيل الكاتب الكبير ماريو فارغاس يوسا في مسقط رأسه ليما عاصمة البيرو

شوقي الريّس (مدريد)
ثقافة وفنون جانب من المؤتمر

مؤتمر «التراث الشعبي بعيون الآخر»... جوانب منسية من تاريخنا

لطالما شكّل «الآخر»، سواء كان رحّالة، أو مستشرقاً، أو باحثاً، مرآةً عكست صورة المنطقة العربية للعالم الخارجي. فقد خلّف كثير من الرحالة والمستشرقين

شاكر نوري ( الشارقة)
ثقافة وفنون ديكارت يصارع الظلام والظلاميين

ديكارت يصارع الظلام والظلاميين

ديكارت أشهر فيلسوف في تاريخ فرنسا. ولا يستطيع أحد أن ينافسه على قمة الشهرة والمجد. فمن هو هذا الشخص الذي وصلت شهرته إلى شتى أصقاع الأرض؟

هاشم صالح

الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

عيسى مخلوف
عيسى مخلوف
TT

الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

عيسى مخلوف
عيسى مخلوف

لعلني لا أجافي الحقيقة في شيء إذا نوهت في بداية هذه المقالة بأن مسارعتي لقراءة إصدار عيسى مخلوف الجديد «باريس التي عشت» لا تعود إلى جاذبية المدينة المعنية بالكتابة وسحرها الاستثنائي، أو إلى اهتمامي المزمن بكل ما يمت لأدبي الرحلة والسيرة بصلة أو نسب فحسب، بل كان دافعي الأهم للقراءة هو قدرة صاحب «رسالة إلى الأختين» العالية على أن يوائم في كتاباته بين عمق المعرفة وجماليات السرد وإشراقة اللغة والأسلوب.

وإذا كان مخلوف لا يتوانى عن تحويل العديد من إصداراته إلى «معرض» شديد الثراء لثقافته الواسعة وعلاقاته المباشرة برموز الثقافة العالمية المعاصرة، فإن ما يبدو عند بعض الكتاب نوعاً من التبجح المعرفي، يتخذ عند عيسى طابعه التلقائي، ويبدو جزءاً لا يتجزأ من الموضوع المتناول بالمقاربة والبحث، بعيداً عن الادعاء والاستعراض المتعسف للكتب المقروءة.

ولا بد من التنويه إضافة إلى ما تقدم بأن تعامل مخلوف مع الكتابة بوصفها مولّداً للمتعة، إضافة إلى شغفه المفرط بالحرية، هو ما جعله يخرج عن فكرة التجنيس الأدبي النمطي. فهو إذ جانب في كتابه السابق «ضفاف أخرى» الامتثال لمفاهيم السيرة الشخصية المألوفة، لم يتقيد في عمله الأخير بالمفهوم السائد لأدب الرحلات. فبدلاً من التنزه في جغرافيا العاصمة الفرنسية وأماكنه، آثر مخلوف القادم إلى باريس من كاراكاس لمتابعة تحصيله العلمي، أن يحتفي بروح المدينة الكوزموبوليتية التي تحوّلت عبر الزمن إلى مساحة نادرة للتنوير والتجريب الحداثي، وإلى منصة مفتوحة للاندماج الثقافي الكوني.

يتحدث مخلوف في مقدمته المسهبة لكتابه عن أن تصوره لباريس قبل القدوم إليها، كان بالدرجة الأولى ذا منشأ ثقافي وإبداعي. وإذا كان ذلك التصور منقسماً بين الرومانسية والواقعية، فلأن قراءاته الأولى كانت هي الأخرى مزيجاً من كتابات فيكتور هيغو وموباسان ولامارتين وبلزاك وإميل زولا، وصولاً إلى بودلير الذي انقلب على التقاليد السائدة في عصره. وقد جهد صاحب «أزهار الشر» في البحث عن صورة للمدينة تتعدى جمالها الهندسي الخلاب، لتتصل بالأبعاد الروحية والشهوانية للمدينة الغامضة، وصولاً إلى مخاطبته لها بالقول «لقد أعطيتِني طينكِ فصنعتُ منه الذهب».

وإذ يشير المؤلف إلى الدور الرائد الذي لعبه نابليون الثالث في تغيير ملامح باريس وإنارتها وشق طرقاتها وتزيينها بالحدائق، وتأهيلها بالمكتبات والمقاهي والمسارح وقاعات الأدب والفن، يشير في الوقت نفسه إلى أن المدينة لم تكن في القرنين الفائتين صناعة فرنسية صرفة، بل هي ثمرة التفاعل الخلاق بين مبدعيها المحليين من أمثال رامبو ومالارميه وسارتر وأراغون وبونفوا وبارت وفوكو، وبين القادمين إليها من أربع رياح الأرض ليعثروا في كنفها على ما ينقصهم من نيران الشغف أو هواء الحرية. ومن بين هؤلاء كتّاب وفنانون عالميون من أمثال بورخيس وماركيز وبيكاسو ودالي، وعرب ولبنانيون من أمثال جبران وآسيا جبار وصليبا الدويهي وشفيق عبود والطاهر بن جلون وصلاح ستيتية وإيتيل عدنان وفاروق مردم بك وغيرهم.

على أن احتفاء مخلوف بالمدينة التي كانت قبل عقود، الحاضنة الأمثل لمغامرة الكتابة والفن، التي شكلت الملجأ والكنف والملاذ لكل الهاربين من وطأة التخلف والجهل والاستبداد في بلدانهم الأم، لم يمنعه من الإقرار بتقهقرها المأساوي إزاء ما سماه إريك أورسينا، عضو الأكاديمية الفرنسية، غول الرأسمالية المفترس، الذي عمل بنهم مرَضي على افتراس كل إبداع خلاق وتفريغه من مضمونه، وإخضاعه لسوق الشراء والبيع ومنطق العرض والطلب. وقد عبّر بيار بورديو من جهته عن هذه الظاهرة بالقول «إن المنتج الثقافي أصبح يُعامل اليوم بوصفه سلعة وأداة لهو وتسلية، فيما بات أصحاب المال والنفوذ هم رعاة الثقافة وأسيادها وراسمي القواعد الجديدة للاجتماع البشري وقوانينه».

وفي تلك البورتريهات الملتقطة للكتاب الباريسيين، مقيمين ووافدين، ثمة ما يبدأ من لحظة اللقاء الختامي ثم يعود على طريقة «الفلاش باك» إلى لحظة البدايات، كما في الفصل المتعلق بإيتيل عدنان، الشاعرة والرسامة اللبنانية المعروفة. فالمؤلف يستهل الفصل بالحديث عن اللقاء الأخير الذي جمعه بإيتيل قائلاً: كانت إيتيل جالسة في قاعة الاستقبال، حيث نلتقي عادة، وكانت متعبة ومتألمة. لقد توقفت عن تناول الدواء الذي سبّب لها الدوار. قلت لها سنتصل بالطبيب، ونطلب منه أن يصف لك دواء آخر. وكان ردها حاسماً ما من أدوية للشيخوخة. إلا أنه ما يلبث، إثر عرض مكثف لأبرز محطات حياتها ووجوه تميزها الإبداعي، أن يقول لا أدري متى التقينا، إيتيل وأنا، أول مرة. فبعض اللقاءات سابقة لأوان حدوثها، وموجودة حتى قبل أن توجد.

ومن بين ما يلفتنا في الكتاب حرص صاحبه على المواءمة بين فكرة المثقف المتخصص التي لازمت الحداثة في بعض حقبها الأخيرة، وفكرة المثقف الموسوعي الذي لا تحول هويته الشعرية الأساسية، دون اهتمامه بشؤون الفكر والفلسفة والأدب والتاريخ، وتفاعله النقدي العميق مع فنون الشعر والرواية والموسيقى وفنون التشكيل. على أن المعرفة هنا لا تظل أسيرة التنظير الممل واللغة الباردة، بل ثمة على الدوام تيار من العاطفة الدافئة والحماس المكتوم، يسري في شرايين الكتابة، بعيداً عن الإنشاء الرخو والمبالغة الميلودرامية.

أما الأمر الآخر اللافت، فيتعلق بحرص مخلوف على تقديم الثقافة والإبداع بوصفهما جسور التواصل الأهم بين طرفي العالم اللذين باعدت بينهما الضغائن السياسية وتضارب المصالح والعصبيات العرقية والدينية المختلفة. فحيث تطلع الكثير من المبدعين المشرقيين والعرب إلى الغرب، باعتباره موئل الحرية الأرحب، والكنف الأمثل لصقل التجارب الأدبية والفنية، كان كتاب وفنانون غربيون يتطلعون بالمقابل إلى الشرق، بوصفه الظهير الأكثر صلابة لنداءات الروح، والينبوع الأولي للبراءة الملهِمة.

وفيما يتقاسم المؤلف مع الكتاب والفنانين الذين تناولهم في كتابه، الكثير من شؤون الإبداع وشجونه، وصولاً إلى الأسئلة الممضة المتعلقة بالحياة والفن والزمن والموت، يحرص على أن يقدم لقارئه أعمق ما لدى محاوريه من الكنوز المعرفية التي يملكونها، عبر برقيات ولقىً وحدوس إنسانية شديدة التكثيف، بحيث نقرأ لإيف بونفوا قوله «إن القرن الحادي والعشرين هو على الأرجح القرن الذي سيشهد على اختناق الشعر تحت الأنقاض التي تغطي العالم». ونقرأ لبورخيس، الذي تمكن مخلوف أن يلتقيه لدقائق معدودة في باريس، قوله: «أعمى أنا ولا أعرف شيئاً ولكنني أتوقع أدَقّ المسالك»، ولجان جينيه «الجرح وحده أصل الجمال». كما نقرأ لشفيق عبود، الفنان التشكيلي اللبناني: «الهواة يلعبون، يتسلّون، يركضون وراء الواجهات. وحده الفنان الحقيقي ينتحر في صناعة المستقبل».

تعامل مخلوف مع الكتابة بوصفها مولّداً للمتعة هو ما جعله يخرج عن فكرة التجنيس الأدبي النمطي

وإذا لم يكن بالأمر السهل التوقف عند المحطات المختلفة للكتاب، الذي شاءه مخلوف أن يأخذ شكل المقاربات النقدية والشخصية لمن احتضنه وإياهم كنف المدينة العريقة، فإن ما يلفتنا في الكتاب، الذي يقع بين اليوميات والسيرة الشخصية وأدب الرحلة، هو إبعاد السرد عن البرودة والتقعر والنمذجة الجامدة، ومهره بقدر غير قليل من الحب، وبلمسة إنسانية متأتية عن علاقة المؤلف المباشرة بمن كتب عنهم. وسواء أخذت تلك العلاقة شكل الصداقة الحميمة أو اللقاء الصحافي البحت، فثمة في الحالين ما يعطي الكتابة عند صاحب «عزلة الذهب» سمات الصور والرسوم، التي تحاول تأبيد اللحظات العابرة ومنعها من الإمَحاء.

والواقع أن الشعور الذي يمنحه كتاب «باريس التي عشت» لقارئه، هو مزيج من الانتشاء بلغة مخلوف التي تشع نضارة وعذوبة، وبين لسعة الأسى الشجي المتأتية عن كون معظم لقاءات المؤلف مع المبدعين المعنيين، كانت تتم في المراحل الأخيرة من أعمارهم، أو في اللحظات القاسية التي تسبق الموت. ففي حين كان مرض السرطان قد فتك بأجساد البعض، كما في حالة إدوار سعيد وسعد الله ونوس وأمجد ناصر، كان البعض الآخر منهكاً ومهيضاً تحت مطرقة الشيخوخة، كما في حالة خورخي بورخيس وصلاح ستيتية وإيتيل عدنان.

وثمة، أخيراً، ما يُخرج الكتاب من الخانة المتعلقة بأدب الرحلة التقليدي، ليجعله تقصياً لمسالك الذات الإنسانية، شبيهاً بما قصده خليل حاوي في قصيدته المعروفة «رحلة السندباد الثامنة». كما يبدو من بعض وجوهه نوعاً من أدب «الرحيل»، والرثاء التأبيني المضمر لمن رحل من المبدعين، وضرباً من ضروب التلفت بالقلب نحو نوعين من السحر متلازمين: سحر المدينة المنقضي وسحر الحياة الآفل.