يعد أبو العلاء المعري أحد الأصوات العبقرية في تاريخ الشعر العربي، إذ تميزت أشعاره بفلسفة خاصة تضعه في منزلة رفيعة بين فلاسفة عصره، وهو ما يتناوله الباحث أحمد عبد القادر في كتابه «فلسفة أبي العلاء - مستقاة من شعره» الصادر عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة.
يلقّب أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي بـ«رهين المحبسين» لأنه حُرم من نعمة البصر جراء إصابته بالجدري في طفولته، كما آثر الوحدة ببيته واعتزل الناس فترة طويلة حتى رحيله. ولد بمعرة النعمان بسوريا عام 363 هجرية وتوفي بها عام 449 عن عمر ناهز 86 عاماً، ومنها اكتسب اسمه «المعري». نشأ المعري في أسرة كريمة من أهل العلم والأدب، وفي صباه قرأ اللغة على أبيه بالمعرة والنحو على يد محمد بن عبد الله بن سعد بحلب ونظم الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة.
في الثلاثين من عمره رحل في طلب العلم فذهب إلى طرابلس وكان بها خزائن علم موقوفة، ومر باللاذقية ونزل ديراً هناك كان به راهب له علم بأقاويل الفلاسفة فسمع كلامه وتأثر بحكمته. واجتذبته شهرة بغداد حاضرة الإسلام الأولى فرحل إليها لكنه لم يقم بها إلا مدة قصيرة. عاد إلى المعرة مسقط رأسه ولزم داره وعكف على التدريس والتأليف وسار إليه طلاب العلم من جميع الآفاق ليأخذوا عنه وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار، وسمى نفسه «رهين المحبسين»، وظل 45 عاماً لا يأكل اللحم ولا البيض، ويحرم إيلام الحيوان ويصوم كثيراً، وكان أكله العدس، وحلاوته التين، ولباسه القطن، وفراشه اللباد وحصيرة بردية.
وكان الفلاسفة الإسلاميون الذين سبقوه أو عاصروه يرون أن الغرض من الاشتغال بالفلسفة الحصول على السعادة القصوى، وهو ما يتضح في تعريف ابن سينا للفلسفة إذ يقول: «إنها صناعة نظر يستفيد منها الإنسان تحصيل ما عليه الوجود كله في نفسه، وما الواجب عليه عمله مما ينبغي أن يكتسب وتصير عالماً معقولاً مضاهياً الوجود وتستعد للسعادة القصوى بالآخرة وذلك بحسب الطاقة البشرية».
أما فيلسوفنا المعري، فلم يهتم بالبحث في حقائق الأشياء ولم تشغل فكره التعريفات والمعاني المجردة، لكنه عُني قبل كل شيء بمعرفة الحق لغرض محدد معين هو تحديد ما هو خير. وكانت فلسفته في الكثير منها فلسفة عملية ترمي إلى أغراض أخلاقية عملية، ومعنى ذلك في عرف الفلاسفة المحدثين أنه لم يكن فيلسوفاً مثالياً يتتبع الأفكار والمعاني المجردة لكنه كان فيلسوفاً «براغماتياً» يهتم بالغايات أو الأغراض العملية. وهناك صفة أخرى من صفات فلسفة المعري تتمثل في التردد والتقلب الذي قد يصل إلى درجة التناقض، فبينما تراه في بعض الأحيان لا يرتضي التقاليد التي يحرص عليها المجتمع تراه أحياناً أخرى يناقض نفسه بنفسه فيثبت هذه التقاليد بل يدعو إلى اعتناقها والعمل بمقتضاها.
وربما يكون من أبرز صفات المعري باعتباره فيلسوفاً اتجاهه اتجاهاً واضحاً صريحاً لا لبس فيه ولا غموض إلى النقد المعتمد على العقل وحده الذي له الحق المطلق في التفكير الحر دون الاعتداد بما تقضي به التقاليد وما تجري به العادة وما تحدده السلطات الاجتماعية. وعماده في تفكيره هو العقل الذي يلجأ إليه في حل مشكلات الحياة، ففي حين أنه ينفر من العادات والتقاليد المتوارثة نراه يستوحي الضمير الإنساني ويلجأ إلى قانون العدالة العام الذي لم يدون إلا على صفحات القلوب.
ويرتبط ذلك بقسوة نقده للمجتمع وأخلاق الناس التي تنتصر برأيه للمنفعة والمصلحة على حساب القيمة والمعاني، وهو ما يتضح في قوله:
ما فيهُمُ بَرٌّ وَلا ناسِكٌ إِلّا إِلى نَفع لَهُ يَجذِبُ
أَفضَلُ مِن أَفضَلِهِم صَخَرَةٌ لا تَظلِمُ الناسَ وَلا تَكذِبُ.