مجمرة من موقع البثنة في إمارة الفجيرة

على شكل رجل يحمل وعاءً تنسلّ منه أفعى مرقّطة

مِجْمَرة على شكل رجل يحمل وعاءً تزينه أفعى مصدرها موقع البثنة في إمارة الفجيرة
مِجْمَرة على شكل رجل يحمل وعاءً تزينه أفعى مصدرها موقع البثنة في إمارة الفجيرة
TT
20

مجمرة من موقع البثنة في إمارة الفجيرة

مِجْمَرة على شكل رجل يحمل وعاءً تزينه أفعى مصدرها موقع البثنة في إمارة الفجيرة
مِجْمَرة على شكل رجل يحمل وعاءً تزينه أفعى مصدرها موقع البثنة في إمارة الفجيرة

كشفت أعمال التنقيب الأثرية في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع عدة تعود إلى العصر الحديدي، منها موقع البثنة في إمارة الفجيرة. خرجت من هذا الموقع مجموعة من اللقى حملت صورة الأفعى في أشكال متعددة، تبعاً لتقليد جامع ساد في شبه جزيرة عُمان خلال تلك الحقبة، على ما تؤكد الاكتشافات المتواصلة في العقود الأخيرة. حوت هذه المجموعة قطعاً تماثل في تكوينها قطعاً خرجت من مواقع أخرى في هذا الإقليم، كما حوت قطعة تبدو فريدة من نوعها إلى يومنا، وتتمثّل بمِجْمَرة على شكل رجل يقف رافعاً ذراعيه حاملاً وعاءً تنسلّ على سطحه أفعى مرقّطة.

يحمل موقع البثنة اسم الواحة التي تبعد نحو 13 كيلومتراً شمال غرب مدينة الفجيرة، وتقع في وادي حام، أحد أطول الأودية التي تخترق سلسلة جبال الحجر في الركن الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، حيث تمتدّ على شكل قوس من الشمال الشرقي لسلطنة عمان إلى جنوبها الغربي، وتغطّي بعضاً من المنطقة الشمالية في دولة الإمارات العربية المتحدة. خرج هذا الموقع من الظلمة إلى النور في عام 1987، وقد استكشفته بعثة سويسرية قادها العالم بيار كوربو. حدّدت هذه الحملة الأولى 15 ركناً من البثنة، توزّعت على ضفّتي وادي حام، وحوت مساكن وقلعة ومقابر جماعية، إضافة إلى محترف مخصص لسبك النحاس. ظهرت شمال الواحة بقايا بناء يصعب تحديد هويّته، وافترض بيار كوربو أنها تعود إلى هيكل.

عثرت الحملة السويسرية على مجموعة متنوعة من اللقى قامت بتوثيقها، وفي عام 1994، قدّم كوربو دراسة خاصة بالفخاريات الخاصة بهذه المجموعة، وتوقّف أمام حضور صورة الأفعى الطاغية على هذه القطع، ورأى أنها تعكس طقساً دينياً خاصاً يصعب تحديد ركائزه العقائدية في غياب أي نصوص تسمح بهذا التحديد. في الواقع، ظهرت هذه الصورة الطاغية عند استكشاف موقع القصيص في الإمارات قبل بضع سنوات، وتناولها عالم الآثار العراقي منير يوسف طه في بحث خاص نُشر في 1982. ظهرت هذه الصورة في مجموعة صغيرة من القطع البرونزية عُثر عيلها في مبنى حجري صغير شُيّد على قمّة تلّ من تلال القصيص، كما ظهرت بشكل ناتئ على مجموعة من القطع الفخارية المتعدّدة الأنواع، واعتبر منير يوسف طه أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالطقوس التعبدية الخاصة بهذه المنطقة.

مع تواصل حملات المسح والتنقيب في الإمارات العربية وفي سلطنة عُمان خلال السنوات التالية، تكرّر ظهور هذه الصورة الجامعة للأفعى في مواقع متعدّدة، منها الرُّمَيْلَة في إمارة أبوظبي، ومويلح في إمارة الشارقة، ووادي بهلا في سلطنة بهلا. ومع هذا الظهور المتكرّر، تأكّدت صحة القراءة التي قدمها عالم الآثار العراقي في مطلع الثمانينات، غير أن معالم هذه العبادة ظلّت لغزاً يصعب تفسيره إلى يومنا.

في عام 2000، عهدت دائرة السياحة والآثار في الفجيرة إلى بعثة فرنسية مهمة مواصلة أعمال المسح في موقع البثنة، وتمّ هذا الاتفاق بموافقة بيار كوربو وفي رعايته. بدأت أعمال هذه البعثة في 2001، وتواصلت على مدى ثلاث سنوات، وكشفت عن أطلال معبد، وسعت إلى تحديد معالم أسسه المتفرّقة. ظهرت الأفعى الناتئة على مجموعة كبيرة من القطع الفخارية تمّ العثور عليها خلال هذه السنوات، وتعّددت أنواع هذه القطع، واختلفت أشكالها وأحجامها، وأغلبها كسور تعود إلى أكواب وصحون وجرار وأحواض ومجامر ذات وظائف مختلفة. في المقابل، لم يُعثر في البثنة على أي أفعى معدنية، بخلاف ما نراه في المواقع المماثلة له.

في الخلاصة، ظهرت هذه الأفعى وفقاً للتقليد السائد، وبدت ناتئة وملتوية على مجموعة ضمت 56 قطعة فخارية، واختلف الأسلوب المتبع في نقش حراشف جلد هذه الأفعى، فهي طوراً على شكل دوائر غائرة، وطوراً على شكل نقاط محفورة، وطوراً على شكل بقع لونية مطلية. ظهرت الأفعى في مجمل هذه القطع وهي تنساب ملتوية، وبدا رأسها البيضاوي عند جهة فتحة الإناء الذي تزيّنه. كما ظهرت مرة واحدة بشكل مغاير، وبدت وهي تلتف على نفسها بشكل لولبي، وفقاً لقالب معروف يظهر في مواقع أخرى من الإقليم العُماني. في هذا الميدان، تبرز قطعة فريدة من نوعها لا نجد ما يماثلها في مجمل القطع الثعبانية التي خرجت من هذا الإقليم، وتتمثّل هذه القطعة بمِجْمَرة صيغت على شكل رجل يقف رافعاً ذراعيه حاملاً وعاءً تنسلّ على سطحه أفعى مرقّطة.

يبلغ طول هذه المِجْمَرة 24.5 سنتمتر، ويبلغ طول قطر وعائها 17 سنتمتراً، وهي من نتاج الألف الأول قبل المسيح. يشكّل الرجل المنتصب قاعدة لهذا الوعاء، وحضوره يبدو استثنائياً في هذه الحقبة. قامته مجرّدة من أي مفاصل تشريحية، وهي مختزلة إلى أبعد حدود، وتتكون من ساقين يفصل بينهما فراغ على شكل مثلث صغير. ترتفع هاتان الساقان فوق قدمين عريضتين تخلوان من أي أصابع، وتشكّلان قاعدة لصدر مسطّح ومجرّد. ترتفع الذراعان في حركة موازية، وتبدوان مجرّدتين تبعاً للأسلوب نفسه. تظهر كتلة مماثلة في وسطهما، وتُمثّل كما يبدو رأساً آدمياً جُرّد كذلك من أي ملامح.

يحمل هذا الرجل المجرّد من الملامح وعاءً ضاع الجزء الأكبر منه، غير أن ما تبقّى منه أتاح ترميمه بشكل علمي يُظهر بشكل جليّ الجزء المستحدث الذي أُضيف إلى شكله الأصلي. تظهر الأفعى الملتوية على ما تبقّى من وعاء هذه المِجْمَرة، وتظهر حراشف جلدها على شكل دوائر غائرة، وفقاً للطابع التقليدي المألوف الذي ساد هذه الناحية من شبه الجزيرة العربية.


مقالات ذات صلة

أفاعي سلّوت في ولاية بهلا بسلطنة عُمان

ثقافة وفنون 5 قطع ثعبانية من موقع سلّوت الأثري في سلطنة عُمان

أفاعي سلّوت في ولاية بهلا بسلطنة عُمان

بدأ استكشاف تاريخ سلطنة عُمان الأثري في النصف الثاني من القرن الماضي، وأدّى إلى العثور على سلسلة من المواقع الأثرية تعود إلى أزمنة سحيقة

محمود الزيباوي
يوميات الشرق الكشف قد يُغيِّر فَهْم التاريخ (جامعة دورهام)

كنز من العصر الحديدي قد يُغيّر تاريخ بريطانيا

كُشِف عن أحد أكبر وأهم كنوز العصر الحديدي التي عُثر عليها في المملكة المتحدة على الإطلاق، مما قد يُغيّر فهمنا للحياة في بريطانيا قبل 2000 عام.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق قد يكون عمر النحت على كتلة حجرية أكثر من 200 ألف عام (مجلس مدينة ماربيا)

نقوش صخرية غامضة قد تُعيد كتابة تاريخ البشرية في أوروبا

اكتشف علماء الآثار في إسبانيا ما قد يكون أقدم النقوش الصخرية المعروفة التي صنعها البشر، ويُحتمل أن يعود تاريخها إلى أكثر من 200 ألف عام.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق لغز بناء الأهرامات ما زال يحير العلماء  (تصوير: عبد الفتاح فرج)

زاهي حواس ينفي وجود أعمدة تحت الأهرامات

نفى آثاريون مصريون الأنباء المتداولة بشأن «اكتشاف مدينة ضخمة أسفل أهرامات الجيزة»، وعدّوا ذلك «ضرباً من الخيال العلمي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق جورج باول (يمين) ولايتون ديفيز (بي بي سي)

صديقان يعثران على كنز تاريخي بقيمة 4 ملايين دولار فينتهي بهما الأمر في السجن... لماذا؟

تحوّل صديقان بريطانيان من «كاشفي معادن» إلى «سجينين» بعد أن أُدينا بسرقة أحد أكبر الكنوز المكتشفة في تاريخ الجزر البريطانية بقيمة نحو 4 ملايين دولار.

«الشرق الأوسط» (لندن)

الذاكرة مرتع للكتابة

الذاكرة مرتع للكتابة
TT
20

الذاكرة مرتع للكتابة

الذاكرة مرتع للكتابة

فاز كتاب «يغتسل النثر في نهره» بجائزة «أبو القاسم الشابي» في تونس في دورتها الثلاثين 2024، الديوان الشعري الصادر عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع (الأردن). وقالت لجنة التحكيم في بيان إنها منحت الجائزة إلى الشاعر شربل داغر «لاختلاف الكتاب عن الكثير من السائد في قصيدة النثر، وفي البناء الشعري والمعرفي، ولما تميز به وما احتواه من لغة حية، وبنية محكمة، وكتابة موقعة متعددة مشرعة على الأجناس الأدبية».

يكتب الشاعر شربل داغر في كتابه الشعري (يغتسل النثر في شعره) المقطع التالي:

(ففي التمشّي ما يلدني، من دون أن أنتظر بطاقة ثبوتية من جالسِين يتفقدون النسب، والعصبية، وتقطيبة الحاجبين لدى الأجداد...

لعلي كنت أتمشَّى، وأنا أكتب.

لعلي كنتُ أكتب، وأنا أتمشَّى.

لعلي كنتُ أتقدم في دروب، لا في جادات، قبل أن أصل إلى حيث أرغب في أن أصل أحياناً.

لعلي كنتُ أتقدم صوب قارئ قبل أن أصل إليه.

لعل الماشي يتقدم بخفة النحلة، أو بعزم النسر، على أن في رواحه ومجيئه حيويةَ ما تفعلُه القصيدة في تنقلها الحر صوب بيتِها الافتراضي، والأكيد في آن). (ص8)

وَحْدهُ المَشّاء يُرَوضُ الذاكرة. المشّاء مُحب للحياة بالضرورة. فيلسوف ذاته، وقودُ فكره الخلّاق المشيُ في أرض الله البهية. المشي فرحٌ بقدمين، يبتهج بجماليات الحياة التي تلتقطها العين المغمورة بالتفاؤل، عين الحكمة... والحكمة كتابة، أن تتشكّل في الذهن قصيدة كأنما تضع لها أساسات هندسية فأنت مبدع حقاً، لا ينفك ذهنك المضيء عن شحذ ماكنة تنوير المعنى المتشظي إلى معانٍ مخبوءة كالجواهر الدفينة تحت أنقاض الحضارات.

شربل داغر
شربل داغر

المشي ولادة متجددة للشاعر/ الكاتب المتعدد في فرادته، الكتابة ليس حبراً فقط، هي انكتاب ذهني ينضج أكثر بجرّة قلم أو بكبسة زٍر على الحاسوب أو اللابتوب، نضوج الفكرة الشعرية أو النثرية على مهل معناه بلوغ التشابك المثمر حد القناعة بجمالية النص المُعتمِل في مختبر مُتخيله الذاتي، المختبر المملوء بنفائس أدبية تحتاج إلى جُهد وصقل مُـتواصل بالمقروئية وتطوير التقنيات الأسلوبية المُبتكرة دوْماً في حالة أصالة الخامة المُنتمية للشاعر/ الكاتب. هكذا يحفر في خامة منجمه الفكري الخاص. لطالما اعْتُبِرَ الفكر مصطلحاً منطقياً فقط، مع أن الفكر الإبداعي هو الأصل لكل ما هو مُمنطق وغير مُمنطق (لا غرابة في قرابة صوتية تجمع المنطق بالنطاق بما هو حزام، يشتركان في حبس دفق البوح الأدبي المُتجمِّل بالمجاز والاستعارة وشتّى صنوف الجمال...). القصيدة فكرة كما القصة والرواية والسيرة واليوميات والرحلة، وكل نص يتحقق فيه شرط الأدبية، حال كل الفنون والعلوم على اختلاف حقولها.

المشي في منظور داغر يستدعي الذاكرة، لا يطلب فيما يكتبه من شعر «إنعاش ذاكرتي، وإنما يستدعيها المشي» (ص8)، يُحفز الذاكرة، يوقظها من سُباتها، حتى تشرئب بعُنقها الطويل بعدد السنين، الذاكرة منبع أفكار لها طراوة تُسعف في بناء النص شعراً أو نثراً، تمُدُّه بطاقة الكتابة الإبداعية المُبتكرة بالوقائع والتخيُّلات، بما أن الطفولة مرتعُ الصِّبا فالذاكرة مرتعُ الكتابة.

ينفي شربل عنه هذه التفصيلة المُلفتة للتمعن في تجربته «لستُ بشاعر يلوذ بالطبيعة، أو يجعل منها مثالاً للفن والأدب، وإنما أعود إليها طلباً لملامسة الوجود في عناصره البدئية، من شجر وطير وصخر ونهر...». (ص8)

أنهارٌ من شِعر

دفق شعري جارف منبعه القريحة ومصبَّاتُه قُراء العربية، يغتسلُ النثرُ في نَهْرِه، النهر شعر يسري في مسراه:

(ما يجري في النهر، يجري في قصيدة،

بخلاف الغبار الذي يغسل عينَي الشاعر في مدينته). (ص16)

ثمّة مِسحة تصوف بطريقة أو أخرى، نوع من الحُلولية المُعاصرة بهالات رؤيوية تمـُت للشاعر بكُل الصِّلات المُحتملة، يتكشَّفُ ذلك في غَمْرة وَجْدٍ ينحته بقول كهذا:

(يا نهري،

يا أناي.

نهرٌ ما يَمضي في مجراه،

هذه القصيدة). (ص17)

يريد الشاعر لجريان القصيدة أن يمضي في طريقه، بلا تنقيح أو محو أو تشطيب على جُمل وتبديلها بأخرى، دع القصيدة حُرّة -ليس للسيّاب أو نازك صلة في هذا المقام-، الجريان سَجيّة، الدهشة الأولى، الفِطرة المُضاعفة التي يتمتع به الشاعر دون الناس، لهم فطرتهم أو الجِبلَّة المشتركة مع الشعراء كوْنُهم بشراً، بيد أنّ «سَحرة الكلام» لديهم الفطرة الزائدة بمتانة الرؤية المخترقة للعوالم وأسرار الحياة:

(اُترك خلفكَ ما كتبتَ.

هذا أوان الكلام من دون إبطاء، أو مراجعة.

ما ستقوله، سيكون عابراً وموجعاً، لأنك لن تقوى على استعادته أو محوه). (ص19)

الثنائيات القدَرية لا مفر منها، إلّا أن تفرَّ من القدر إلى القدر ذاته، لهذا يكتب الشاعر في المقطع الموالي:

(عُمْري

نهري.

شِعري

نثري،

العُمر مسَّودةٌ من دون تصحيح.

القصيدة نهرٌ لا تصبُّ في بحر، بل في نثر). (ص23)

شربل يعيد صياغة بطاقة التعريف للمُنجز الشعري/ النثري الذي حفلت به تجربته الطويلة الممتدة في حقول الكتابة الموسوعية من نقد، وفنون، وشعر، ونثر، وتاريخ، ومعجم، في المحصلة إبداعات، ودراسات متعددة المشارب. في الكتابة الأدبية يستثمر المُمكنات الجمالية بصيغ مُبتكرة، وتراكيب ومفردات مصقولة بعناية الصانع/ الشاعر، وما ثيمة النهر الدال على مدلول الشعر في هذا الكتاب إلا عنوان الهاجس المُحرِّك للطاقة الإبداعية المتسامية على أسْيِجة النوع الأدبي، ومتاريس الحدود التقليدية.

* كاتب مغربي