صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

جمالية بديعة وحِرفية عالية في النقش المتقن والمرهف

وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني
وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني
TT

صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني
وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني

كشفت أعمال التنقيب الأثرية في سلطنة عُمان عن مجموعة من الأوعية المعدنية المزينة بنقوش تصويرية تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد، منها وعاء عُرض ضمن معرض أقيم في ربيع 2023 بمتحف الفنون الجميلة في مدينة ليون الفرنسية، وحمل عنوان «رحلة إلى أرض اللبان». خرج هذا الوعاء المميز من مقبرة في ناحية من ولاية سمائل في محافظة الداخلية، تُعرف بناحية الباروني، وهو من القطع التي وصلت بشكل شبه كامل، وتزينه حلقة دائرية تصوّر فارساً يحمل رمحاً وسط ثلاثة أسود.

دخل هذا الوعاء المتحف الوطني العُماني في مسقط، وهو مصنوع من البرونز، على شكل زُبْدِيَّة يبلغ قطرها 16 سنتمتراً وعمقها 4.6 سنتمتر. يُزين وسط قاع هذه الزُبْدِيَّة نجم وردي يتكون من أربع شتلات بيضاوية مروّسة، تفصل بينها أربع شتلات دائرية. يستقر هذا النجم وسط إطار دائري تلتفّ من حوله أربعة حيوانات رباعية القوائم صُوّرت بشكل جانبي. يظهر صياد يعتلي دابة ضاع الجزء الأكبر من بدنها، غير أنها حافظت على رأسها، وهو على شكل حصان ظهرت ملامحه في وضعية جانبية بشكل كامل. يظهر هذا الصياد في وضعية مشابهة، ويبدو حليق الرأس، عاري الصدر، مرتدياً مئزراً بسيطاً يلتف حول حوضه وأعلى ساقيه.

نراه يمد ذراعه اليمنى إلى الأمام، ممسكاً بزمام حصانه، ويرفع يده اليسرى في حركة موازية، شاهراً رمحاً مسنوناً في اتجاه أسد ضخم يفتح شدقيه على اتساعهما، في مواجهة مباشرة مع الحصان. حدّد تكوين هذا الأسد بدقة تشهد لرهافة كبيرة في التنفيذ الحرفي. الجسم طويل، ومفاصله مجرّدة من التفاصيل، وأعضاؤه أربع قوائم مستقيمة، وذيل طويل وملتو، تعلو طرفه جمة بيضاوية.

تتكرّر صورة هذا الليث بشكل متطابق في الطرف المواجه، حيث تحضر بشكل معاكس، وبين الأسدين المتماثلين، يظهر حيوان ضاعت ملامحه بشكل شبه مبكر، وما تبقّى منها يُظهر أنّها تمثّل أسداً ثالثاً مشابهاً على الأرجح.

بين ظهر الفرس وظهر الأسد الذي يقف من خلفه، نرى ثعباناَ يلتوي عمودياً في الأفق. وفي الطرف المقابل، نرى ثعباناً مماثلاً يفصل بين الأسد المواجه للحصان والأسد الذي ضاعت صورته. يتبنّى هذان الثعبانان في تكوينهما طرازاً شاع خلال العصر الحديدي في نواحٍ عدة من شبه جزيرة عُمان، على مدى أكثر من ألف عام. وتشهد لهذا الشيوع عشرات الأفاعي المعدنية التي عُثر عليها في مقابر أثرية تتوزّع على مواقع تتبع في زمننا سلطنة عُمان ودولة الإمارات العربية.

في المقابل، يشكّل صيد الأسود الذي يزيّن هذا الوعاء مشهداً من المشاهد الحيوانية المتعدّدة التي تزيّن مجموعة من الأوعية المعدنية الجنائزية، كشفت عنها عمليات المسح والتنقيب المتواصلة في الكثير من المقابر الأثرية الخاصة بهذا الإقليم العُماني. تعود هذه الأوعية إلى المرحلة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد، كما تشير اللقى المختلفة التي عُثر عليها في هذه المقابر، وتتميّز بنقوشها التصويرية التي يغلب عليها الطابع الحيواني بشكل شبه دائم. تحضر هذه النقوش في سلسلة من المشاهد تتغيّر ملامحها بين وعاء وآخر، غير أنها تتبع قالباً جامعاً يشكّل أساساً لها. ويتمثّل هذا القالب الواحد في نجم وردي مجرّد، تحيط به حلقة دائرية تصويرية تتغيّر عناصرها الحيوانية وتتبدّل.

يشابه مشهد صيد الأسود على وعاء سمائل مشهداً آخر على كسور من وعاء برونزي من موقع مليحة في الشارقة

خرج وعاء سمائل من محافظة الداخلية، حيث يقع الوادي المعروف بوادي سمائل بين سلسلتين من جبال الحجر، أولاهما سلسلة جبال الحجر الغربي، وقمتها الجبل الأخضر، وثانيتهما سلسلة جبال الحجر الشرقي، وقمتها جبل سمان. ونقع على أربعة أوعية عُمانية مزينة بنقوش حيوان تختلف مكوناتها بشكل كلّي عن مكونات نقش وعاء سمائل، ومصدر هذه الأوعية موقع عملا في ولاية عبري التابعة لمحافظة الظاهرة، وتبدو هذه المحافظة أشبه بسهل ينحدر من السفوح الجنوبية لسلسلة جبال الحجر الغربي، في اتجاه صحراء الربع الخالي.

يشابه مشهد صيد الأسود الذي يزيّن وعاء سمائل مشهداً يحضر بشكل مجتزأ على كسور من وعاء برونزي مصدره موقع مليحة في إمارة الشارقة، وفيه يظهر أسد في وضعية جانبية بين صيادَين ينقضان عليه. يرفع أحد هذين الصيادَين درعه في وجه الطريدة الوحشية، بينما يغرز رفيقه خنجره في مؤخرتها. كذلك نجد على طبق آخر مصدره موقع الدور في أم القيوين مشهداً من هذا الصنف، وفيه يظهر فارس يُطلق سهماً في اتجاه أسد ينتصب من أمامه، وفارس آخر يرفع رمحه في اتجاه أسد آخر يقف في مواجهة حصانه.تشهد هذه القطع الفنية لتقليد فني خاص بهذا الإقليم العُماني، ظهرت شواهده في العقود الثلاثة الأخيرة، وينقسم هذا التقليد كما يبدو فروعاً عدّة يجمع بينها أساس واحد. يمثّل نقش زُبْدِيَّة سمائل فرعاً من هذه الفروع، ويختزل جماليته بشكل بديع، تشهد له حرفية عالية في النقش المتقن والمرهف.


مقالات ذات صلة

العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

ثقافة وفنون العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

لم يكن التغزل الصريح بالمرأة والاحتفاء بالملذات ظاهرةً عباسيةَ النشأة والتبلور، بل كانت نسخته الأولى قد تشكلت في الحقبة الأموية

شوقي بزيع
ثقافة وفنون آنيتان من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت  مصدرهما مقبرة سار الأثرية في البحرين

آنيتان من مقبرة سار الأثرية في البحرين

خرجت من مقبرة سار الأثرية في البحرين مجموعة كبيرة من الأواني، منها وعاءان من الحجر الصابوني المعروف بالكلوريت، يتميّزان بنقوشهما التصويريّة المتقنة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون لوحة «البحر الأبيض المتوسط» للفنان أدولف كوفمان

أقدار البحر المتوسط

«لعنك الله من بحر أثيم مخرب للبيوت»، بهذه العبارة خاطب البحار العجوز الأفق المتوسطي في مرفأ «بيريه» بأثينا، في رواية «زوربا» لكازانتزاكيس،

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون مجلة «المسرح»: جيل جديد من مخرجي المسرح الإماراتي

مجلة «المسرح»: جيل جديد من مخرجي المسرح الإماراتي

صدر حديثاً العدد (66) من مجلة «المسرح» عن دائرة الثقافة في الشارقة لشهر مارس (آذار) 2025، ويضم مجموعة متنوعة من المقالات والحوارات والمتابعات والقراءات

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون الحقوق السياسية للمرأة من منظور نسوي تاريخي

الحقوق السياسية للمرأة من منظور نسوي تاريخي

تتساءل الباحثة والأكاديمية د. إكرام طلعت البدوي في كتابها «الفلسفة السياسية النسوية - تاريخ من العدالة المراوغة»، الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

 تمثال أبو نواس في بغداد
تمثال أبو نواس في بغداد
TT

العصر العباسي الأول... المفارقة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق

 تمثال أبو نواس في بغداد
تمثال أبو نواس في بغداد

لم يكن التغزل الصريح بالمرأة والاحتفاء بالملذات ظاهرةً عباسيةَ النشأة والتبلور، بل كانت نسخته الأولى قد تشكلت في الحقبة الأموية، متخذة ملامح عربية لا لبس في نقائها، إلا أن ما نلاحظه من فوارق في الجرأة والأسلوب بين النسختين، كان يتصل بتبدل الظروف وبتطورالبيئة السياسية والاجتماعية الحاضنة لكل منهما. ففي حين نهض بالتجربة الأولى شعراء ونخب مثقفة ينتمون بمعظمهم إلى أشراف قريش، وتمنعهم عراقة محتدهم وأمكنة عيشهم من البذاءة والإسفاف، ظهرت التجربة الثانية في ساحات نائية عن مركز الدعوة، وقادتها في ظروف أكثر ملاءمة جمهرة واسعة من الشعراء والكتاب والمغنين، المحتفين بالحياة الجديدة، أو الهاربين من أزماتهم باتجاه اللهو والمتعة الخالصة. وهكذا احتشد في الآونة ذاتها شعراء عبثيون من أمثال أبو نواس وبشار بن برد ووالبة بن الحباب والحسين بن الضحاك الخليع ومطيع بن إياس ومسلم بن الوليد وعلي بن الجهم وحماد عجرد، فيما احتشد في الموسيقى والغناء كل من زرياب وإسحق وإبراهيم الموصلي وعريب وإبراهيم بن المهدي وابن جامع وكثيرين غيرهم.

ولعل أكثر ما يلفتنا في هذا السياق هو السلوكيات «الفصامية» لبعض الخلفاء الذين كانوا يمارسون الشيء ونقيضه في آن. فهم بانخراطهم في مناخ المتعة واللهو، محولين قصورهم إلى حانات يؤمها شعراء ومغنون وندماء، بدوا وكأنهم يريدون الإيحاء برسوخ الحكم واستقراره. إلا أن ظاهر الأمور لم يكن متطابقاً مع باطنها، بل كان تظاهرهم بالطمأنينة يخفي وراءه قلقاً عميقاً على المصير، سواء بفعل الثورات المتلاحقة لأبناء العمومة العلويين والأشراف، أو بفعل التغلغل المتفاقم للفرس، ومن بعدهم الأتراك، في مفاصل الدولة وهياكلها المختلفة.

كما أن تداخل الدنيوي بالديني، الذي يُوجب عليهم حماية الإسلام وشعائره، جعلهم يحرصون على عدم إغضاب المتشددين من الفقهاء والعامة، والاحتفاظ بمظهر الورع والتقى، وصولاً إلى معاقبة المفرطين في الفسق والمجون، الأمر الذي أبقى المشتغلين بالأدب والفن في خانة التوتر، مع ملاحظة أن تهمة الزندقة والمروق تحولت إلى سيف مسلط على رقاب المعارضين السياسيين، وصولاً إلى قتل البعض منهم على نحو مأساوي.

ومع أن بعض هؤلاء لم يكن بريئاً من تهم الشعوبية والزندقة والعداء للعرب، فإن ثمة دوافع وأسباباً أخرى، حملت هؤلاء على ملازمة الحانات والارتماء في أحضان الجواري واستمراء السلوكيات الشاذة، من بينها النشأة المتواضعة والفقر والتهميش الاجتماعي.

وقد بدا واضحاً أن يُتْمَ أبو نواس المبكر، وافتقاره إلى الإشباع العاطفي، وما عاينه طفلاً من انحراف أخلاقي في عائلته، هو ما شكل الدافع الأهم لفجوره وتهالكه على اللذة، كنوع من الانتقام الثلاثي الرمزي، من أمه ومن نفسه ومن مجتمعه على حد سواء. وهكذا راح يضرب عرض الحائط بالأعراف والتقاليد.

وقد يكون بشار بن برد، بموهبته المتفردة وسلوكه الملتبس، أحد أكثر الشعراء تجسيداً للمفارقة القائمة بين نزق السطوح وتراجيديا الأعماق. فمن الصعوبة بمكان أن نرى مروق هذا الشاعر المولود لأب فارسي وأم رومية، من المنظور الشعوبي وحده، بل علينا أن نضيف إلى ذلك فقر أسرته ونشأته على الرق، فضلاً عن عماه بالولادة ودمامته المفرطة. وقد ولّد كل ذلك في داخله شعوراً بالنقمة على كل ما يحيط به، وصولاً إلى اعتبار عماه نعمة إلهية، بقوله:

قالوا العمى منظرٌ قبيحٌ قلتُ بفقدي لكمُ يهونُ

تالله ما في البلاد شيء تأسى على فقْده العيونُ

ولم يكن الحسين بن الضحاك الخليع ليختلف كثيراً عن مجايليه، سوى أنه كان يفوقهم في الفكاهة والظرف إلى حد أنه بات نديماً لغير واحد من خلفاء بني العباس، ابتداءً بالأمين وانتهاء بالواثق.

وكان من بين هؤلاء حماد عجرد، الذي اشتهر بمكره وسعة حيلته، رغم إغراقه في الفسق والتهتك. وقد رُمي حماد بالزندقة كأترابه الآخرين، وكاد أن يواجه المصير المأساوي نفسه الذي واجهه بشار، لو لم يشفع به لدى المهدي صديقه الأثير محمد بن أبي العباس السفاح. وإذ عرف عنه ميله الدائم إلى الخصومة والعراك، لم يتردد في خوض السجالات الحادة مع منتقديه، حتى لو كانوا من الأئمة والمتنسكين، وهو الذي خاطب الإمام أبا حنيفة الذي لامه على سلوكه طريق الفسق، بالقول:

إن كان نُسكك لا يتمُّ بغير شتمي وانتقاصي

فلطالما زكّيتني وأنا المقيم على المعاصي

على أن كل ما تقدم لا يمنعنا من ملاحظة الوجه الآخر لهؤلاء الشعراء والكتاب، الذين اندفعوا إلى الفسق والمجون كشكل من أشكال الاحتجاج على الواقع، بشقيه الشخصي والاجتماعي. فهم في تهالكهم على الفوز بغنائم الجسد و«أتاواته» وملذاته، ظلوا في أعماقهم ظامئين إلى العاطفة الصادقة والحب الحقيقي. وإذ انتهى بعضهم مقتولاً على يد السلطة الحاكمة بتهمة الزندقة، كما حدث لبشار وابن المقفع، فإن بعضهم الآخر قد عمد إلى قتل حبيبته بدافع الغيرة، كما حدث لديك الجن الحمصي فوق مسرح مغاير. ومع ذلك فقد بدوا كما لو أنهم آثروا خسارة الحب لكي يربحوه مسترداً في الشعر والحنين، وهو ما يؤكده أبو نواس بقوله:

وأُقسمُ لولا أن تنال مَعاشرٌ جنانَ بما لا أشتهي لجنانِ

فواحزنا حزناً يؤدي إلى الردى فأُصبح مأثوراً بكل لسانِ

تراني انقضتْ أيامُ وصليَ منكمُ وآذَنَ فيكم بالوداع زماني

كما يتجلى الوجه الآخر للعلاقة بالمرأة في شعر بشار بن برد، وفي قصائده ومقطوعاته التي نظمها في غرام «عبدة» على نحو خاص، حيث التعلق بالمعشوق يتكفل به القلب والأذن لا العين، وواسطته البصيرة لا البصر. وإذ يقارن بشار في حالات غيرته القصوى بين الفراق الذي يحمل حبيبته إلى أحضان سواه، والموت الذي يضعها في عهدة التراب، يختار الثاني على الأول، ويهتف بحرقة:

من حبها أتمنى لو يصادفني من نحو قريتها ناعٍ فينعاها

كيما أقول فراقٌ لا لقاء له وتضمر النفس يأساً ثم تسلاها

كما بدا مطيع بن إياس كأنه يحمل في مورثاته الجينية طبائع السلالة وميلها الجارف إلى الاستمتاع بمباهج الحياة وملذاتها الحسية. فقد روى الأصفهاني بأن خارجة، جدة مطيع، كانت تحمل من النهم الجسدي ما جعلها تنتقل من زوج إلى آخر، وتستجيب لكل من يخطبها من الرجال. وقد سار مطيع على خطى جدته، بحيث انصرف بكليته إلى المتعة. ومع ذلك فإن مطيع بن إياس الذي عُرف عنه استهتاره وتهتكه وأشعاره الماجنة، هو نفسه الذي حمله العشق على إظهار ما بداخله من عذوبة وشجن. فإذ اضطر إلى فراق جارة له كان قد أحبها في الري، وجلس يستريح إلى نخلتين في محلة حلوان، راح يخاطب النخلتين بالقول:

أَسعِداني يا نخلتيْ حلْوانِ وارثيا لي من ريب هذا الزمانِ

ولعمري لو ذقتما ألم الفرقةِ أبكاكما الذي أبكاني

أسعِداني وأيقِنا أن نحساً سوف يلقاكما فتفترقانِ