ميخائيل نعيمة في عيده الـ135 لم ترحمه الحرب

ناسك الشخروب لا يزال حاضراً في الوجدان

الثلاثي ميخائيل ومي وسهى نعيمة عاشوا معاً
الثلاثي ميخائيل ومي وسهى نعيمة عاشوا معاً
TT

ميخائيل نعيمة في عيده الـ135 لم ترحمه الحرب

الثلاثي ميخائيل ومي وسهى نعيمة عاشوا معاً
الثلاثي ميخائيل ومي وسهى نعيمة عاشوا معاً

كانت الاستعدادات قد استُكملت، والدعوة قد وُزّعت، للاحتفال بالعيد الـ135 لولادة الأديب الكبير ميخائيل نعيمة، وحلول اليوبيل الذهبي لصدور كتابَيه «نجوى الغروب» و«من وحي المسيح»، اللذَين أبصرا النور لأول مرة وهو في الرابعة والثمانين، لكن الحرب الإسرائيلية على لبنان نسفت في طريقها ذاك النهار الطويل الذي كان يفترض أن يخصّص نقاشاً لفكر نعيمة، وغناءً لقصائده ونصوصه، وشهادات في مساره.

سهى نعيمة التي تربّت وترعرعت في كنف الأديب، تؤكد لنا أن الاحتفالية ستُقام ولو بعد حين، «فنحن في أشدّ الحاجة إلى تسامُحه، ورؤيته أن الدين واحد، والاختلاف بيننا هو في الطريقة، لا في الهدف»، فكتابات نعيمة وجبران خليل جبران، في رأيها، لها خصوصية، في هذا الوقت بالذات؛ لأنها «تأخذنا إلى اللب، إلى الجوهر، وتكشف لنا كم أن يومياتنا مجرد قشور، وأن كلّ مَن يتمسّك بذاته المتحولة غير قابل للوصول إلى النورانية الكامنة فيه، وكلنا فينا هذا الفيض وهذه النورانية».

بأمسّ الحاجة إليه

سهى حدّاد نعيمة، القيّمة اليوم على إرث الأديب، هي ابنة ابنة أخيه مي، شاءت الظروف أن تتربى سهى في كنف الجد ميخائيل بعد انفصال والدَيها، وتبقى معه حتى اللحظة الأخيرة، وهي تسكن حالياً في المنزل/ المتحف الذي يحوي كل حاجيات نعيمة، ويقصده عُشّاقه للتعرف إليه عن قُرب.

تتحدث سهى لـ«الشرق الأوسط» بحزن عن الاحتفال الذي تأجّل ولم يُلغَ أبداً، «فنحن في أمسّ الحاجة للتعمق في كتبه وأفكاره، فقد علّمنا أن ننظر بطريقة مختلفة إلى الزمن، وأن نفكر بالمسافة الطويلة الفاصلة بين الأزليات والبدايات، وأن الحياة تعبّر عن ذاتها بالحركة، ولولا الحركة لما شعرنا بشيء اسمه حياة، والجماد ليس جامداً، وإنما جزيئاته وذرّاته دائمة الحركة، وإلا لما بقي».

في سيرة ميخائيل نعيمة شيء من الغرابة، وكثير من الحظ والكدّ والمثابرة، هو نفسه يقول إن ما أنجزه جاء أبعَد من متناول خياله.

حياة أبعد من خيال صاحبها

وُلد في بسكنتا عام 1889، في قرية صغيرة يسكنها فلاحون، لا يربطها ببيروت سوى طريق تصلح لسير البغال، وليس في الضيعة مدرسة، فكان يتعلّم عند خوري هو نفسه لا يجيد القراءة، وشاءت الصدف أن تفتح «الجمعية الإمبراطورية الروسية» مدرسةً في هذا المكان لتعليم الأورثوذكس، وبما أنه مبرّز أرسلوه في بعثة إلى دار المعلمين الروسية في الناصرة بفلسطين، ثم تمّ اختياره ليتابع دروسه في روسيا، وكان قد اطلع قبلها على الشعر الروسي وأحبّه، وتمنّى لو يكتب كما هؤلاء العباقرة، وتمكّن باجتهاده أن يتعلّم الروسية، لا بل أن يَنْظِم فيها قصيدته «النهر المتجدّد» عام 1910، وكاد أن يتزوج من روسية، لولا أنه عاد عام 1911 إلى لبنان.

وكان يودّ أن يُكمل دراسته في فرنسا، لكن القدَر يتدخل مرة جديدة، ويسوقه إلى مكان آخر، حيث يأتي شقيقه أديب من أميركا إلى لبنان، ويُقنعه أن يذهب معه إلى واشنطن، وهناك يدرس الحقوق والآداب، ويحصل على شهادة في كل من الاختصاصين، ويتعرّف إلى نسيم عريضة الذي كان يُصدر مجلة «الفنون»، ويبدأ ينشر مقالاته فيها، وعلى عبد المسيح حداد الذي كان يُصدر جريدة «السائح»، وجبران خليل جبران وأمين الريحاني، اللذَين سيشارك معهما في تأسيس «الرابطة القلمية».

شارك في الحرب الأولى بلا رصاص

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى طُلب إلى نعيمة الانخراط في الخدمة العسكرية الأميركية عام 1914، فشعر بغرابة المهمة التي أُوكِلت إليه، فما علاقته هو بالقتل والحروب والأسلحة؟ وأُرسل لسوء حظه إلى أصعب جبهة وقتها؛ على النورماندي في فرنسا، ومع ذلك قرّر ألّا يُطلِق ولو طلقة واحدة، وهكذا كان، وعاد من حرب كبرى دون أن يستخدم سلاحه، لكنه في المقابل أكمل كتابة مؤلَّفه الشهير «مذكرات الأرقش» الذي ظهرت نصوصه تباعاً من 1913 إلى 1917.

وحين مرض صديقه جبران خليل جبران عام 1931 شاءت الظروف أن يكون إلى جانبه، وأن يشهد نزعه الأخير طوال 6 ساعات، ويلفظ أنفاسه الأخيرة بين يديه.

وبرغم أنه عاش في أميركا 20 سنة، فإن قلبه بقي معلقاً دائماً بلبنان، والشخروب، وجبل صنين ببهائه وصفاء هوائه، هذا الجبل المهاب الذي تسلّقه سيراً على الأقدام ما لا يقل عن 3 مرات، فقد كان عاشقاً للمشي والتسلق، حنينه إلى الطبيعة غلب كل إغراء. أحبّ الأرض؛ لأن دروسها لا تُحصى، هاجر واستفاد علمياً، لكن جمال جبال لبنان بقي يناديه كي يعود، بل كان يتساءل عما يربطه بهؤلاء الناس الذين يعيش بينهم، فقد كان اتفاقه مع جبران، حسبما روى، أن يعودا معاً إلى الوطن، لكن عاد صديقه في نعش ليرتاح جسده في بلدته بشري، ورجع هو بمفرده ليُكمل حياته بين بسكنتا والشخروب.

«ناسك الشخروب» بحقّ

الطبيعة في نظره كانت «كتاباً هائلاً وعظيماً، لا يمكنك أن تفهمها بعينيك أو يديك، بل بروحك، إذا أبصرت صخراً تجد له كياناً، هو يؤثر ويتأثر بما حوله وفوقه وتحته، الصخر كائن حي، ولو لم يكن كذلك لما أثّر بشيء ولما تأثّر بشيء»، وكان يقول وهو ابن الجبل: «هذه الصخور تعني عندي أكثر من صخور، عندما أُبصر الصخر وأُبصر نبتةً بجانبه، أشعر أن هناك بينهما صلة الابن بأبيه وأمه، الصخور تحدّثني، تحدّثني عن أن الزمان وهمٌ؛ لأنها لا تُحسّ الزمان كما نُحسّه، وتحدّثني أنني سخيف جداً عندما أقيس الزمان بالساعات».

عاد إلى عائلته وبيته في بسكنتا، إلى الصخر الذي أحبّ، والشجر الذي عشق، في الشخروب، المنطقة التي تعلو 1800 متر عن سطح البحر، حيث كان مصيف العائلة، عثر على مغارة سمّاها «الفلك»، صار يأتيها في الصباح حاملاً أغراضه، ويجلس في زاوية المغارة يتأمل ويكتب، هناك سطّر كتابه عن جبران، وأغلب مقالات «زاد المعاد»، ومؤلّفه الشهير «مرداد».

عندما تتحدّث الصقور

كان يسرّح ناظره وهو يجلس في «الفلك»، فيرى الطبيعة حوله، وكأن عناصرها تتحوّل كائنات لها وجوه وحضور وكيان، وبالتالي شكّلت تلك البيئة الجبلية مصدر وحي لا ينضب، لكاتب عَشِق الغوص فيما هو أبعد من المادي المحسوس.

انصرف كلياً إلى القراءة والكتابة، مستبعِداً كل عمل يُعرَض عليه، مهما يمكن أن يدرَّ من مال، في سبيل أن يتفرّغ لما نذر نفسه له. عانى من ضيق ذات اليد ولم يعبأ، لم تكن المداخيل القليلة التي تأتيه من كتبه ومنشوراته مما يجعله يتبرّم، وكان كريماً مِعطاءً، ليس فقط مع عائلته، بل مع المحتاجين حوله أيضاً.

فهو منذ البدء عَدّ الأدب تعبيراً عن الإنسان، ومرآةً له؛ لذا فقد كتب ما آمَن به عميقاً، وكأن نصوصه صدى لنفسه، مشتكياً من أن الكلمات تقصر أحياناً عن الإتيان بتصوير دقيق لما يدور في البال، «فنحن لا نستطيع أن نعبّر عن كل خلجة في قلوبنا، أو خاطرة تمرّ في بالنا».

اليوبيل الذهبي لكتابَين

«وَشل من بحر» هو عنوان احتفالية نعيمة المؤجّلة، عبارة مستلّة من آخر فصل في كتاب «من وحي المسيح» الذي بلغ يوبيلَه الذهبي، حيث يقول: «ما كُنته ليس سوى وشلٍ من بحر»، الكتاب الذي نرى فيه لمرة جديدة محنة الإنسان عند نعيمة، ممزَّقاً بين الحياة السُّفلية بكل مآربها الصغيرة، والتوق إلى العلوي الإلهي الشفيف، أما الكتاب الثاني الذي بلغ الخمسين من عمره فهو «نجوى الغروب»، وهو أشبه بصلاة يتوجّه فيها إلى الله، وكأنما يعتصر خلاصة فكره، وتجربته، وروحانيته، وفي مناجاته يقول: «طفلك أنا يا ربّي، وهذه الأرض البديعة، الكريمة، الحنون، التي وضعتَني في حضنها، ليست سوى المهد أدرج منه إليك... عجائبك يا رب تكتنفني، منذ أن خرجت من بطن أمي، وحتى شارفَت شمسي على الغروب، وأصغرها أكبر من أن يحيط به أي عقل، أو أن يستوعبه أي خيال، أو أن ترسمه ريشة، ويصفه قلم، أو أن تتلفّظ به شفتان ولسان، وأنا وسط هذه العجائب أقف».

آلته الكاتبة موجودة أيضاً

نعيمة والجيل الجديد

ومع أن ما كتبه في هذين الكتابين يُشعِران القارئ بأنه يداعب دنوّ الأجل، فإن نعيمة عاش بعد صدورهما 15 عاماً، وتوفي عام 1988، وقد بلغ ما يقارب القرن وقد فَقَدَ خلاله أصدقاءه وكثيراً من الأحبة، ولم يتبقّ له في سنواته الأخيرة غير القراءة والسيجارة، وعائلته، وذلك الهدوء الوقّاد.

سهى نعيمة التي رافقته في تلك الفترة حتى توفّي وهي في العشرين من عمرها، تتحدث طويلاً عن العلاقة الثلاثية التي ربطتها وأمها مع جدّها ميشا، كما تسمّيه، «هكذا كنت أناديه، واختصرنا أسماءنا بكلمة (ميماسونا)»، وهو الاسم الذي تحمله جمعيته اليوم، ومع أن الجيل الجديد بأمسّ الحاجة إلى فكر ميخائيل نعيمة، وحكمته، وروحانيته، وعلاقته التناغمية مع الطبيعة، فإن تلامذة المدارس، على عكس الأجيال السابقة، ما عادوا يعرفون ميخائيل نعيمة، وقد يُنهُون تعليمهم دون دراسة نص له، «هذا ما ألاحظه» -تقول سهى- «من اختلاطي بالتلامذة الذين يأتون لزيارة البيت بدافع من فضول يزرعه أساتذتهم في نفوسهم، وليس لأن نعيمة جزءاً من المعرفة الوطنية التي تحرص عليها المناهج».


مقالات ذات صلة

أوانٍ حجرية من دبا البيعة

ثقافة وفنون ثلاث أوان من ولاية دبا البيعة في سلطنة عمان يقابلها كوب من جبل البُحيص إمارة في الشارقة

أوانٍ حجرية من دبا البيعة

خرجت من ولاية دبا البيعة في سلطنة عُمان مجموعة كبيرة من الأواني الأثرية المصنوعة من الحجر الصابوني الناعم، تشهد لتقليد فني راسخ

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «اسكتشات» لحسين رشيد

«اسكتشات» لحسين رشيد

عن دار «أهوار للنشر والتوزيع» ببغداد - شارع المتنبي، صدر للقاص حسين رشيد مجموعة قصصية مصنفة «اسكتشات» بعنوان «بار دي لو مي»

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون سليم بركات

الهويّة... والحريّة الأدبيّة

ما الذي يحدّد هويّة الأدب: هل اللغة أم القضايا والمواضيع التي يعالجها؟ وهل يحقّ للأديب أن يختار لغةً غير لغته الأمّ من دون أن يُعدَّ خائناً لهويّته الثقافية؟

هيثم حسين
ثقافة وفنون نصب الشاعر مخدوم قولي

مخدوم قولي... حارس الأمة التركمانية

زرتُ عشق آباد قبل أيام، بدعوة من جمهورية تركمانستان، لحضور الفعالية المركزية والحفل الكبير بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على ولادة شاعر تركمانستان مخدوم قولي فراغي

عارف الساعدي
ثقافة وفنون شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

قلّ أن حظي شارعٌ من شوارع المدن الحديثة، بالمكانة التي حظي بها شارع الحمراء في العاصمة اللبنانية.

شوقي بزيع

الرواية على الشاشة... ترجمة بثلاثة أنواع

باتريك ستيورات في دور  آهاب في موبي ديك 1998
باتريك ستيورات في دور آهاب في موبي ديك 1998
TT

الرواية على الشاشة... ترجمة بثلاثة أنواع

باتريك ستيورات في دور  آهاب في موبي ديك 1998
باتريك ستيورات في دور آهاب في موبي ديك 1998

يتساءل الأكاديمي والمسرحي السعودي رجا العتيبي في تغريدة أطلقها في يوليو (تموز) الماضي عمّا هي الكلمة المناسبة عند التحدث أو الكتابة عن «تحويل الرواية إلى سيناريو». أعيد طرح تساؤله بصياغة أخرى: هل ما يحدث للرواية سينمائياً «نقل» أم «تكييف» أم «تحويل»؟ وكانت «ترجمة» هي المفردة التي خطرت في بالي وتمنيت لو أن تساؤله اتسع لها. فالترجمة هي ما يحدث للرواية على يد السينمائيين، والكلمة الأكثر دقة، هكذا تُنَظِّرُ الدكتورة ليندا كوستانزو كيْر في كتابها الموسوم بــ«الأدب في الفيلم... نظرية ومقاربات تطبيقية». شخصياً لا أستطيع الاختلاف معها، ولعل الأكاديمي والمسرحي العتيبي يتفق معي، أو بالأحرى يتفق معها فهي صاحبة الفكرة - النظرية.

صقل مهارات الفهم والتذوق والتعبير

بوستر فيلم «وحش البحر» 1926

تقدم كيْر كتابها محاولةً لصقل مهارتي الفهم والتذوق لدى قرائه، وكذلك مهارة التعبير عن آرائهم في الأفلام التي يشاهدونها، بالتحديد الأفلام المبنية على نصوص أدبية. وتضيف موضحةً أنها طوّرت «الأدب في الفيلم» بهدف تعميق المعرفة السينمائية والأدبية عند القراء لغاية تعميق تجربة المشاهدة لتلك الأفلام، وذلك بوضع قواعد سياقية ونظرية تساعد بدورها على فهم شبكة العلاقات المعقدة بين الأجناس الأدبية والأفلام المبنية عليها.

تُشيرُ كيْر في بداية الفصل الأول «طبيعة ترجمة الفيلم... حرفية وتقليدية وراديكالية»، إذ تطرح نظريتها مصحوبةً بدراسات حالة لأنواع الترجمات «السينمائية» للأدب، تشير إلى النظرة والموقف السائدين تجاه أي فيلم مبني على نص أدبي باعتباره عملاً ثانوياً ذا قيمة ثانوية أو أدنى من قيمة النص المصدر، إذ لا يزال الأدب عموماً، كما تقول، يشغل مكانةً أرقى من مكانة الفيلم في التراتبية الهرمية الثقافية، مما يؤثر سلباً على تلقي الفيلم، بأن يُوَلِّدُ في المشاهد الشعورَ بالخيبة حين اكتشافه أن الفيلم لا يتطابق مع النص الأدبي.

ترجمة لا تكييف

وتُنَظِّرُ كيْر أن الخطوة الأولى في استكشاف خصائص ومزايا الفيلم المبني على نص أدبي تتمثل في اعتباره ترجمة للنص المصدر، وفهم الاختلاف بين التكييف (adaptation) و«الترجمة». فالتكييف إحداث تغيير في بنية أو وظيفة كينونة معينة لكي تكون أكثر ملاءمة، وقادرة على البقاء والتكاثر في البيئة الجديدة التي تنقل إليها. بينما سبب وجود الرواية على الشاشة هو ترجمة نص من لغة إلى أخرى؛ نتاج عملية لغوية، وليس نتاج عملية مُلاءَمَة من أجل البقاء والتوالد والتكاثر. وما ينتج عن الترجمة نصٌ جديدٌ تماماً، يتمتع بالاستقلال عن النص الأصل. وتضيف أننا نستطيع مشاهدة وتذوق الترجمة دون الاضطرار إلى قراءة النص المصدر. وعندما نتأمل في أي فيلم مترجم عن نص أدبي، فسنرى صانعي الأفلام كمترجمين ينقلون لغة الأدب المكوّنة من كلمات إلى لغة السينما. ويحددون خياراتهم من داخل بنيات تلك الأفلام ومن مفرداتها.

وتجادل بأن الأفلام الناجحة، المبنية على نصوص أدبية، هي التي تترجم كلمات النصوص إلى صور عبر تأويل النصوص المصدر واستغلال ما تثيره من أفكار وانطباعات للتعبير عن رؤى صانعي الأفلام، ويكون الناتج، بالتالي، كينونات منفصلة لها حياتها الخاصة. وتذكر أن التفكير في أي فيلم مترجم عن نص أدبي باعتباره نصاً أصلياً يعني فهم أن الترجمة عمل تأويلي، وأن ما ينتج عنها نص جديد، عمل جديد في شكله ووظيفته، ومستقل بذاته. وتضيف أن مترجمي الأفلام يواجهون التحديات والخيارات التأويلية نفسها التي يواجهها أي مترجم.

3 ترجمات سينمائية لنص واحد

استمراراً في تنظيرها عن الترجمة السينمائية للأدب، تعود كيْر إلى ما ذكرته سابقاً قائلةً إن كانت الخطوة الأولى لتَبَيُّن مزايا الأفلام المبنية على الأدب تتمثل في رؤيتها كترجمات للنصوص الأدبية؛ فإن الخطوة الثانية هي الوعي بأن لكل ترجمة قيماً وأهدافاً وطموحات مختلفة تلعب دوراً في تحديد سماتها ونوعها، فالترجمة السينمائية، حسب تنظيرها، تنقسم إلى ثلاثة أنواع.

الترجمة الحرفية، وتعني إعادة إنتاج حبكة النص الأصل بكل تفاصيلها، بينما يحافظ النوع الثاني، الترجمة التقليدية، على السمات العامة للنص الأدبي كالحبكة وعنصري الزمان والمكان والأعراف الأسلوبية، لكن مع تجديد تفاصيل معينة بالطرق التي يراها صانعو الأفلام ضرورية أو مناسبة. أما النوع الثالث، الترجمة الراديكالية، فإنه يعيد تشكيل النص بطرق متطرفة وثورية كوسيلة لتأويله، بهدف جعل الفيلم عملاً مستقلاً. كما أن الوعي بأنواع الترجمة الثلاثة مهم عند تقييم أي فيلم مترجم عن نص أدبي، لأن أي تقييم ينبغي أن يأخذ في الاعتبار أسلوب وطريقة صنع ذلك الفيلم. ومن غير المناسب، مثلاً، تقييم ترجمة تقليدية أو راديكالية بمعيار حرفي. إن معرفة أنواع الترجمة الثلاثة والتمييز بينها شيئان مهمان أيضاً لأن المُشاهد يحتاج إلى الانتباه للتحيزات والتفضيلات لترجمة على أخرى، لِما قد يترتب على هذه التحيزات من تأثير على تقييم الفيلم. كما ينبغي الوعي بأنه قد لا توجد ترجمة نقية تماماً، خالية من أي آثار من نوعي الترجمة الآخرَيْن.

وجوه «موبي ديك» الثلاثة

في دراسة الحالة الأولى من حالتين في الفصل الأول، تحلل كيْر ثلاث ترجمات سينمائية لرواية هرمان مليفل «موبي ديك» (1851). وتتضمن فصول الكتاب الأخرى، بمواضيعها المختلفة، أمثلةً وإحالات على عدد غير صغير من ترجمات سينمائية قديمة وحديثة.

تبدأ كيْر بمناقشة الترجمة الحرفية، الفيلم «موبي ديك» (1956)، الذي أنتجه وأخرجه جون هيوستن. وتشرح أنه في الترجمة الحرفية يبقى الفيلم المُنْتَج قريباً من النص قدر الإمكان، ويتبع صانع الفيلم، كما فعل هيوستن مع رواية ملفيل، النص الأصل بإعادة تشكيل تفاصيل الشخصية والزمان والمكان، بطريقة تجعل الفيلم يبدو كنسخة «فاكسيميلي». لا مكان في الترجمة الحرفية للحرية الإبداعية والجرأة في التأويل اللتين تميزان الترجمات الأخرى. وعادة، إن لم يكن دائماً، يخفق هذا النوع من الترجمة في سبر أفكار مؤلف النص الأدبي؛ وتوضح أن فيلم هيوستن يتضمن أمثلة على نقاط القوة والضعف الشديدة في ترجمة الفيلم الحرفية. بيد أنه يحقق نجاحاً، إلى حد ما، على مستوى القصة بالحفاظ على الدراما في الرواية؛ وعلى المستوى الفني، لاحتوائه بعض المشاهد ذات المذاق الكثيف والمالح، كما تقول، الذي يميز نص ملفيل.

وتشكل الترجمات السينمائية التقليدية غالبية الأفلام المترجمة عن نصوص أدبية. وفي هذا النوع من الترجمة، تبقى الترجمة (الفيلم) قريبة من النص المصدر قدر الإمكان، مع تعرضه للتغييرات الضرورية أو المناسبة وفقاً لرؤية المخرج التأويلية واهتماماته الأسلوبية. ولكن غالباً ما يكون الدافع وراء التغييرات هو الحاجة إلى إبقاء طول الفيلم وتكلفة الإنتاج داخل حدود السيطرة، وللمحافظة على اهتمامات وأذواق الجماهير... وقد تضاف أو تحذف مشاهد من النص، وغالباً ما تكون الشخصيات مركبة، وربما يصاحب ذلك تغييرات في الأمكنة والأزمنة بهدف تحقيق الإثارة البصرية. يمثل الفيلم «موبي ديك» (1998) للمخرج فرانك رودام نموذجاً للترجمة التقليدية، إذ تحافظ الترجمة على حبكة النص والزمان والمكان، وتجدد بعض التفاصيل مثل دمج استطرادات ملفيل عن صيد الحيتان في حوارات البحارة، وتصوير مصاعب الحياة اليومية على متن السفينة، وإظهار تعدد جنسيات البحارة، وتقطيع ومعالجة الحيتان على ظهر السفينة.

وتقدم كيْر الفيلم الصامت «وحش البحر» (1926) للمخرج ميلارد ويب نموذجاً للترجمة الراديكالية، التي تمنح صانع الفيلم الحرية الفنية الكاملة، والانفتاح على إمكانات غير محدودة للتعبير والتأويل، إلى حد المجازفة بأن تكون الترجمة تعبيراً عن ذاتها لدرجة تثير التساؤل، والشك في قرابتها من النص المصدر. بكلمات أخرى، إنها تعيد صياغة وتشكيل النص سينمائياً، بتغيير بعض أو كل التفاصيل بطريقة تدعم رؤية صانع الفيلم.

أتاحت الترجمة الراديكالية لمخرج «وحش البحر» فرصة الاستفادة من ثلاثة أشياء: 1 - قدرة الأدب على منح الفيلم مكانة فورية وقابلية للتسويق، 2 - الشعبية المتزايدة ببطء لكتاب ملفيل آنذاك، 3 - التذوق الشعبي في عشرينات القرن الماضي لقصص المغامرين المتهورين وملاحم البحر، إلى جانب الشعبية الدائمة لقصص الحب. (27).

يتضمن «وحش البحر» (1926) قصة حب بين القبطان آهاب سيلي والفتاة الشابة الجميلة إستر هاربر. وتتكرر قصة الحب بين آهاب وفيث مابل في نسخة «موبي ديك» (1930) الراديكالية للمخرج لويد بيكون. تعامل المخرجان ويب وبيكون بحرية وجرأة مع الرواية مضيفين أحداثاً وشخصيات ليست موجودة في النص. وينتهي الفيلمان بنهايتين سعيدتين، بعودة القبطان آهاب إلى «نيو بدفورد»، إلى حبيبته إستر في «قصة حب»، وإلى «فيث» في «موبي ديك» (1930). نهايتان مختلفتان عن نهاية آهاب الذي يلاقي حتفه غرقاً تحت سطح البحر في الرواية.

تبدو ليندا كوستانزو كيْر مقنعةً في تنظيرها، أليس كذلك؟

(*) ناقد وكاتب سعودي