حلمي التوني يغمس فرشاته في الظلام ويرحل

الموت يغيّب «رسّام المرأة» وعازف الألوان بعد مشوار صاخب

الفنان الراحل حلمي التوني
الفنان الراحل حلمي التوني
TT

حلمي التوني يغمس فرشاته في الظلام ويرحل

الفنان الراحل حلمي التوني
الفنان الراحل حلمي التوني

في مشواره الفني الطويل رسم الفنان المصري الكبير حلمي التوني، وناضل بقوة؛ ترسيخاً لمعانٍ طالما آمن بها وأصر على تأكيدها، وأثناء ذلك اصطدم المبدع الذي يعد واحداً من أعمدة التشكيل المصري بالكثير من الصعوبات، ولم يفقد عناده، حزن بعمق على «تآكل الجمال حوله»، شعر للحظات بـ«عدم جدوى صرخاته» المتكررة التي يطلقها عبر لوحاته، لكنه سرعان ما كان يعود إلى مرسمه، حصنه الآمن، حيث فرشاته وألوانه وإبداعاته التي تجسد «الهوية المصرية»، وتدعو إلى «الحب والجمال والحلم»، وفق تصريحاته السابقة.

قدم لوحات زيتية للطفل في أحد معارضه الأخيرة (الشرق الأوسط)

وصباح السبت، غيّب الموت الفنان حلمي التوني عن عمر يناهز 90 عاماً، لتبقى رؤيته في تصوير الحياة المصرية المعاصرة من خلال المزج بين التراث والحداثة تجسيداً صادقاً لروح وطنه، وتظل بصمته في الصحافة وتصميم أغلفة الكتب والرسم الغرافيكي جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الإبداع الفني العربي.

عالم الصغار (غاليري بيكاسو)

ونعى الدكتور أحمد فؤاد هَنو، وزير الثقافة المصري، الفنان حلمي التوني قائلاً: «إن الراحل كان أحد حرّاس الهوية المصرية، وشكّل وجدان جيل بأكمله بأعماله الخالدة، ليرحل تاركاً بصمات لن تمحى على الساحة الفنية من خلال أعماله المتميزة، التي أسهمت في إثراء الثقافة البصرية على مدار عقود».

الفنان المولود بمحافظة بني سويف (جنوب القاهرة) في أبريل (نيسان) 1934، درس الفن في (كلية الفنون الجميلة) بالقاهرة، وحصل على درجة بكالوريوس في الديكور المسرحي والتصوير، وشارك في مجموعة متنوعة من الفنون البصرية بما في ذلك النشر.

احتفى بالجمال والحياة (غاليري بيكاسو)

عمل الفنان، الذي يعد أحد أبرز مصممي أغلفة الكتب على المستويين العربي والدولي، مع كبرى دور النشر. ومن أبرز أعماله مؤلفات أديب نوبل نجيب محفوظ، كما عمل في مؤسسة (دار الهلال) العريقة مشرفاً على بعض إصداراتها، وأقام عشرات المعارض الفردية، وشارك في معارض جماعية عربياً ودولياً، وتقتني العديد من المؤسسات والمتاحف في العالم أعماله.

حصل التوني على العديد من الجوائز العربية والعالمية، ومنها جائزة معرض بولونيا لكتب الأطفال عام 2002، وجائزة منظمة «يونيسيف» عن ملصقه لـ«العام الدولي للطفل» عام 1979.

عمق الفكرة وسلاسة التشكيل وقوة الألوان الرمزية (غاليري بيكاسو)

«منذ تخرجه في الكلية لم يخرج التوني من أروقة الفن والصحافة ولن يخرج؛ فسيبقى عالمه الخاص الذي صنعه، وأحلامه التي رسمها تزيّن تاريخ الفن المصري»، حسب تعبير الفنان رضا بيكاسو مدير غاليري (بيكاسو)، الذي يضيف لـ«الشرق الأوسط»: «منذ بداياته انطلق التوني تجاه التراث، اشتبك مع مفرداته وقيمه ورموزه وأفكاره وتقاليده وصياغاته الجمالية الموحية، واعتبره منجماً يعد الرفد منه وسيلة لتأصيل وترسيخ مفاهيم الارتباط بالهوية الوطنية والقومية والتواصل مع الجذور العميقة».

ووفق رضا فإن «التراث لم يكن بالنسبة للتوني مجرد مصدر للإلهام، بل إنه أعاد صياغة التراث على نحو غير مسبوق في الفن التشكيلي؛ إذ جدد وأبدع وأضاف بجرأة ورؤية مغايرة للمستشرقين وللرواد المصريين»، مؤكداً: «أكاد أجزم أن أحد أهم أسرار تفرده هو نجاحه في إزالة الحدود الوهمية المصطنعة ما بين الفنون الشعبية وبين الفنون الرفيعة».

الهدهد من أبرز الرموز التراثية الموحية في أعماله (الشرق الأوسط)

«لقد استطاع التوني منذ بداية مشواره أن يجتذب أولاً القارئ العادي إلى الفنون الجميلة عبر رسوماته في الصحف، بعد أن كانت حكراً على النخبة والصفوة في بيوتهم الأنيقة، ثم اجتذب هؤلاء الصفوة من جهة أخرى إلى الفنون الشعبية؛ ليستمتعوا بروائعها وتفاصيلها، بعد أن كانت تمتع وتثري ذائقة أبناء الريف والحواري والأزقة الضيقة وحدهم، وكأنه حقق ما يمكن أن نطلق عليه (العدالة الفنية) في مصر»، وفق بيكاسو.

جمال ودلال (غاليري بيكاسو)

ويرى مدير الغاليري، الذي احتضن أعمال حلمي التوني عبر الكثير من المعارض الفنية، أن «ذلك الاحتفاء بالفن الشعبي جاء انطلاقاً من رؤية تقوم على اعتباره بمنزلة ملتقى أو حاضنة لجميع الحضارات المصرية؛ لذلك حرص على التعمق فيه، والتزود منه إلى أن صنع لنفسه مفردات وعناصر وموتيفات خاصة به، بل خلق دنيا لها شخوصها وقوانينها وتجلياتها».

الموت يغيّب الفنان المصري حلمي التوني (الشرق الأوسط)

وشكلت المرأة مكانة بارزة وخصوصاً في هذا العالم الذي رسمه لنا حلمي التوني، ناضل من أجل حريتها، وخاف على مستقبلها الذي كان يصفه بأنه «هو ذاته مستقبل مصر»؛ لذلك مثلما اهتم بها من الناحية الفنية في لوحاته كمنطق للبناء البصري، والنقطة المركزية في أعماله، فإنها كانت من الناحية الفكرية هي قضيته الكبرى.

وازداد خوف التوني الذي خلّف رحيله حالة من الحزن بالوسط التشكيلي والثقافي بمصر على المرأة، وبرز ذلك في معرضه قبل الأخير «أنا حرة»، حتى إنه قال لـ«الشرق الأوسط»، في حوار سابق: «طوال مشواري الفني من وقت إلى آخر كنت أقيم معارض تحمل بين ثناياها دعوة إلى حرية المرأة، لكن يحمل هذا المعرض صيحة أكثر إلحاحاً؛ لأن المرأة باتت كالطائر المحبوس في القفص الذهبي، المصنوع من حديد صدئ»، وتابع: «في الماضي كانت القوانين هي التي تقف أمام حرية المرأة، الآن القوانين تعدّلت، لكن للأسف الشديد ظهر لها عدو جديد؛ هو المجتمع المغلق ومحاولة غرس الإرث الاجتماعي البالي داخلها».

استكشف الموروث والعناصر الشعبية المستلهمة من البيئة والتاريخ المصري (الشرق الأوسط)

وفي آخر معارضه، الذي حمل عنوان «يحيا الحب»، جسّد التوني الحب بجميع صوره، فعلى مسطح لوحاته طالعتنا المرأة بجمالها ودلالها مثلما كان يحلو له تجسيدها، وجذبتنا طاقات من العاطفة عبر صياغات شعبية مفعمة بالأحاسيس الإنسانية والروح الفلكلورية.

وعلق التوني على معرضه هذا: «طوال حياتي أرسم عالم المرأة، وهو عالم لا ينفصل عن عالم الحب، وعندما أتذكر المرأة فإننا نتذكر الحب على الفور؛ ومن ثمّ فإن الحب حاضر بقوة في كل معارضي، وليس من المستغرب إذن أن يكون هذا المعرض الذي ربما يكون الأخير عن الحب أيضاً».



«الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

«الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية
TT

«الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

«الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة حديثة من كتاب «الأفكار هي الأشياء» للفيلسوف الأميركي برنتيس مالفورد، والذي يطرح فيه تساؤلاً مركزياً: «ما الهدف من الحياة؟»، ثم يجيب بأنه بلا شك يتمثل في أن نحظى بأكبر قدر من السعادة فيها، وأن نتعلم من خلال ذلك أن نحيا على يقين من أن كل يوم جديد سيصبح حافلاً بالمباهج كاليوم الذي نعيشه الآن وأكثر، وأن نصرف عن أذهاننا مجرد تذكر أن الوقت قد يمر ببطء شديد لانعدام ما يثير حماسنا إلى أن نشعر بالامتنان.

ويبدو الكتاب الذي ترجمته شيرين أشرف، في لغة رصينة ورشيقة، وكأنه محاولة متفائلة للإقبال على الحياة ورؤية ما بها من جمال؛ إذ يؤكد مالفورد أن السعادة تأتينا حين نتغافل عن المرض أو الألم، وأن نسيطر على الجسد من خلال قوة الروح، فلا يتألم ولا يعاني، وأن نتحكم في أفكارنا فنزداد قوة تمكنها من العمل منفردة وبمعزل عن جسدنا دون التأثير فيه، لكي تمكننا من توفير كل احتياجاتنا دون سلب أي شخص حقه أو ظلمه.

لكنه يبدو أن المؤلف مغرق في مثاليته حين يؤكد أن السعادة تركض باتجاه من يتجنب خلق أعداء له ويصبح صديقاً للجميع من خلال رؤية صافية وروح مشرقة تسمو عن توافه الصراع الدنيوي.

وتنتمي فلسفة مالفورد إلى ما يُعرف بحركة «الفكر الجديد»، وهي حركة روحانية معنية بـ«شفاء العقل» ذات جذور ميتافيزيقية منذ نشأتها في الولايات المتحدة الأميركية في مطلع القرن التاسع عشر. ويرجع كثيرون العديد من السمات الجوهرية لحركة «الفكر الجديد» إلى الفلسفة المثالية، خاصة في تجلياتها لدى رالف والدو إمرسون (1803 - 1882)، ومثالية أفلاطون في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد التي تفترض أن عالم المُثل؛ أي الأفكار، أكثر واقعية من العالم المادي، وأن الطريقة المثلى للوصول إلى الحقيقة هي عن طريق العقل المجرد لا الحواس.

كما تبدو تلك الحركة متأثرة بفلسفة مانول سفيدنبوري (1688 – 1772)، وتحديداً وجهة نظره التي تقول إن العالم المادي هو إحدى النتائج التي لها مردود روحي ومقصد إلهي، وكذلك مثالية هيغل المطلقة التي تقوم على اعتبار الوعي سابقاً للمادة.

لقد وُصف برنتيس مالفورد بـ«أغرب الرجال»، وأنه مفكر بطبيعته، استمد بصيرته بما يحيط الجنس البشري من غموض وأسرار جديرة بالتأمل والخبرة المباشرة وليس من الكتب، فهو رجل من الشمال الشرقي للولايات المتحدة، عاش في الفترة من 1834 – 1891 حياة متسكعة مضطربة، لا يجد مسلكاً مهنياً يرضي شغفه، فاستجاب لنداء المحيط تاركاً اليابسة خلفه على متن سفن تجارية، وصولاً إلى الساحل الغربي.

واكتفى مالفورد هناك بالطهو وصيد الحيتان والتعدين والتعليم المدرسي، ثم حاول الخوض في الحياة السياسية، ولكن ما لبثت محاولته أن باءت بالفشل، ثم انتهى به المطاف إلى عالم الإبداع الأدبي والصحافة.

ازداد اهتمام مالفورد منذ عام 1865 بالظواهر الروحانية والقوانين العقلية، واتخذت مقالاته ومؤلفاته بعداً فلسفياً يجسد شكلاً لا مثيل له من الحكمة والنظرة الثاقبة للمعضلات التي يواجهها الإنسان، وكيفية التصدي لها باستخدام قواه الفردية الكامنة في العقل بأسلوب إبداعي شائق. وتوالت محاولاته لفهم طبيعتنا الجسدية المجردة عند التطرق إلى موضوعات أزلية كالزواج والذكريات والعدالة وقوة العقل، وحتى ضرورة جمع الثروة، مع رؤية جديدة تعتمد على الحدس والمشاركة الوجدانية، لا العقل.

ومن ثم، بدا مالفورد جريئاً في تفاؤله الشديد وتوسم الخير في الجنس البشري؛ لذلك قد تبدو أفكاره للكثيرين درباً من دروب الأحلام والخيال، في حين أن هذه الصفات الإنسانية بالذات هي ما أسبغت على أعماله التي هي ترجمان أفكاره، الحداثة وخفة الروح، على نحو جعلها سابقة لعصره.