دولوز... انحاز إلى المقهورين ووقف مع الشعب الفلسطيني

مئوية الفيلسوف الفرنسي وثلاثة عقود على رحيله

دولوز
دولوز
TT

دولوز... انحاز إلى المقهورين ووقف مع الشعب الفلسطيني

دولوز
دولوز

لم يكن جيل دولوز، الفيلسوف الفرنسي الشهير (1925 – 1995)، ممن يرجون فائدة من الكتابة عن حياة المؤلفين الشخصيّة، إذ كان يعتقد بأهمية أن تستحوذ على اهتمامنا أفكارُهم حصراً، وما يمكن أن ينشأ عن تلك الأفكار حين نشتبك معها.

دولوز في ذلك ربما كان يسير على نهج فلاسفة القارة الأوروبيّة، من الألماني مارتن هايدغر -الذي لخّص يوماً لتلامذته سيرة أرسطو، فيلسوف اليونان العظيم، بقوله: «لقد ولد، وأَعملَ فكره، ثم مات»- إلى رولان بارت صاحب فكرة موت المؤلف، مروراً بموقف صديقه ومعاصره جاك دريدا الذي رأى أن «حياة المؤلف ما هي إلا تراكم سلسلة من التجارب - الحوادث»، على أنَّ مَن يدرس نهجه الفلسفي سرعان ما يرى أن موقفه ذاك نتاج نظرة كليّة للحياة والعالم وموقع الإنسان فيها، مما يجعل سرد سيرة شخصية ما نوعاً من إيداع لتلك الحياة في سجن قالب محدود، يفرض عليها شكلاً نهائياً غير قابل للتغيير، مما يحرمنا من فرصة إعادة التفاوض مع تلك الشخصية وتجديد قراءتها في ظل التحولات المستمرة للفكر. هذا، إلى جانب تصوره الذي رافق مساره المهني كفيلسوف، وهو لا محدودية الإنسان، واستحالة انفصاله بوصفه هوية فريدة عن محيطه الكلي في نقطة تقاطع الزمان والمكان (أو التاريخ - الجغرافيا)، إذ يظل دائماً مجرد جزء من كلٍّ تكون العلاقات في إطاره سائلة، ودائمة التحرك، ومتغيّرة، وفي طور التكوّن.

ومع ذلك، ويتفق كثيرون معي، إن ثمّة ما يغري دائماً باستعادة محطات أساسيّة في حياة قادة الفكر –والفلاسفة تحديداً– واستنطاقها توازياً مع الإبحار في المنتج الفكري الذي أنجزه أولئك القادة، إذ قد يسعفنا الحظ ونعثر على مفاتيح هنا قد تعين على فك مستغلقات هناك، أو مواقف هناك تفسّر خيارات هنا، وبالعكس، فكأننا نفكك الجدليّة التي هي مجمل الحياة، ونعيدها إلى مكوناتها الأساسيّة.

في حالة دولوز، هناك ما يلحّ على الجيل المعاصر الذي لم يلحق به، أن يُقْدم على قراءة جديدة للفيلسوف سيرةَ وفكراً. إذ إننا على وَشَك أن نشهد مئوية ولادته وأيضاً مرور ثلاثة عقود على غيابه، وتلك مناسبات صارت تجد صدى واسعاً ربما بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ناهيك بسعي الحكومات والدول إلى تكريم الشخصيات الفكرية البارزة في تاريخها بوصف ذلك نوعاً من تدعيم مصادر قوتها الناعمة في عالم ديدنه تنافس البرجوازيات. لكن الأهم، أن إعادة قراءة دولوز لعصرنا، والاشتباك مع نصوصه، وتجديد تأويلها هو أعلى أشكال الوفاء للرجل الذي قال عنه ميشيل فوكو: «ذات يوم، ربما، سيُعرَف هذا القرن بالدولوزيّ».

كان العهد بدولوز دائماً صرفه النظر عن طفولته بوصفها غير ذات قيمة. لكننا نعثر في حياته قبل تفلسفه على نقاط ارتكاز تساعد القارئ على رسم مخطط يستند إليه في عبور فكر الفيلسوف. أولاها، أنّه وُلد في باريس، وعاش فيها معظم أيّام حياته باستثناء فترات قصيرة خلال شبابه، واختار أيضاً أن تكون مكان موته، فكان مخلوقاً باريسياً بامتياز -إن جاز التعبير- بكل ما يعنيه ذلك من تأثيرات دامغة لا يمكن تجاهلها في التاريخ، والمجال الحضري، ونظم العيش، والتقلبات الحادة في المناخ الثقافي والفكري والسياسي الاستثنائي الذي حفلت به العاصمة الفرنسية في موازاة عمر دولوز. أما ثانيتها فإنه وُلد لأسرة محافظة، برجوازية الأهواء، يمينية التوجهات السياسيّة، الأمر الذي ترك بصمات على طريقته في التحدث والسلوك واختيار الكلمات، لكن لعله كان محفزاً مستفزاً قاد إلى انحياز فلسفته وأدائه كمفكر إلى المقهورين ضد كل أشكال السلطة. وثالثتها أن الحرب العالمية الثانية أنهت طفولته ونقلته إلى مرحلة جديدة بعيداً عن أهله الذين فضّلوا، بعد سقوط باريس عام 1940، أن يبقى وشقيقه جورج في النورماندي ويرتادا المدرسة هناك، ومن ثم التحاق جورج بالمقاومة الفرنسيّة قبل وقوعه في الأسر، ومن ثم مقتله على يد آسريه النازيين. لقد كانت تلك تجربة قاسية دون شك، وتركت، سوى جروح الفقدان، نوعاً من ثقل العيش الدائم في ظل الأخ البطل الغائب -الذي لا يمكن للأخ الباقي أن يبزّه في القيمة عند الأبوين. كل ذلك، كان خلفيّة لبُعدٍ دائم في فلسفته، حيث تفتقر كل الأشياء، والأشخاص، والمجتمعات إلى الثبات، وتستمر أبداً في الانتقال، والتحوّل، والتكوّن.

جاء دولوز إلى الفلسفة من بوابة الأدب، إذ سحرته قدرة الروائيين على خلق العوالم وتصوّر الحيوات الممكنة، وسرعان ما وجد في تاريخ الفلسفة وأعمال أسلافه المفكرين فضاءً شحذ همته للمعرفة، وفتح له مسارات لتوظيف دهشته الدائمة وبراءته الصافية في مساءلة القائم من التركيبات والنظم والأفكار، في وقت كان الناس قد انصرفوا عن ذلك التاريخ، وطفقوا يأتون إلى الفلسفة من بوابات أخرى: الهيغلية وهايدغر، أو هسرل والفينومولوجيا (الظاهراتية)، أو مادية ماركس التاريخيّة، أو المناهج اللغوية والتفكيكيّة.

يمكن قطعاً التعامل مع تاريخ انخراط دولوز مع الفلسفة عبر مراحل ثلاث متباينة: بداية في قراءة تفاعليّة مشتبكة مع كتابات السابقين: سبينوزا، وكانط ونيتشه وبرغسون، وتالياً في شراكات فكرية وكتابيّة وأكاديميّة مع عدد من الفلاسفة والمفكرين والفنانين والطلاب مجايليه: فيليكس غوتاري، وميشيل فوكو، وجاك دريدا، وكلير بارنيت، وآلان باديو، وغيرهم –وهي شراكات أخذت أشكالاً متنوعة تراوحت بين الحوار المكثف والكتابة المشتركة، وبين النقد المتبادل للنصوص والمراسلات، وبين العمل الأكاديمي والنشاط السياسي، وأيضاً بين الصداقات العميقة والجدل العدائي. وأخيراً، كفيلسوف ممارس: يختبر مفاهيمه الفلسفية والعالم عبر التَّماس مع الفّنون –الرسم، والعمارة والسينما– وأيضاً مع الألم، والمرض، وخيبات الأمل.

لا أحد يجرؤ على نفي وعود دولوز للإنسانية: البراءة والإصرار على حتمية الممكنات في مواجهة فلاسفة الانغلاق ومشعوذي نهاية التاريخ

لقد كانت بحق حياة ثرية تليق بفلسفة عميقة، والتي مع أهميتها لم تنل ما تستحقه مقارنةً بما انتهت إليه أعمال مفكرين أقل شأناً منه. جزء من ذلك يعود إلى أن الثقافة الأميركيّة مالت إلى الهيغليين والهايدغرية، ودولوز كان على مستوى ما نقيضاً فلسفياً لهما، فتجاهله العالم الأنغلوساكسوني طويلاً، كما أنّه شنّ هجوماً لا يرحم على من سمَّاهم تيار «الفلاسفة الجدد»، تلك المجموعة من الراديكاليين المرتدين بعد ثورة الطلاب في 1968 ممن انقلبوا على الماركسيّة وقيم نصرة المضطهدين، لينتهوا إلى ثلة من أنبياء كَذَبَة، تدعو إلى الليبرالية، والصهيونية، وثقافة السوق. وكان أن تولى هؤلاء تحديداً قيادة الإنتاج الثقافي عبر المؤسسات الثقافية، والأكاديمية، والصحف، والمجلات الثقافية، ودور النشر واستوديوهات التلفزيون. وفوق ذلك كله، فإن هذا الفيلسوف المترفع عن الثرثرة، ذي العقل المبدع، والنزاهة الفكرية اتخذ مواقف سياسية خالفت التيار السائد وأفقدته صداقات كثيرة لا سيما مع رفيقه المقرّب فوكو: ضد الحرب على فيتنام، ومع الشعب الفلسطيني. لقد آلمه احتلال أراضي الفلسطينيين والمعاملة التي تلقوها على يد المحتل الصهيوني، وأصابته مذبحة صبرا وشاتيلا (1982) بالصدمة والاكتئاب، فكتب لشريكه الفكري، غوتاري، شاكياً: «لقد عمّ الظلامُ العالمَ. لا يمكنني احتمال هذا الذي يجري (للفلسطينيين) في لبنان»، كما نشر في غير مناسبة نصوصاً ومقابلات نظّر فيها للمقاومة الفلسطينية، مؤكداً دائماً أن أساس المسألة الفلسطينية يكمن في تجاهل من أقاموا دولة عبرية واقع وجود شعب فلسطيني يعيش بالفعل على أرض تلك الدّولة الملفقة.

التركة الدولوزية ظلت موضع خلاف بين النقاد والمفكرين. باديو مثلاً رأى أنّها ليست ذات فائدة للمنخرطين في العمل السياسي، واتهمه سلافوج جيجيك بأنه «صانع آيديولوجيا الرأسماليّة المتأخرة»، فيما رآه أنطونيو نيغري ومايكل هاردت مصدراً لإلهامها في وضع ثلاثية «الإمبراطورية» -مساهمتهما الفكرية المشتركة الأهم في البحث عن عالم بديل- ووصفه البعض برائد للبيبوليتيك (السياسة الحيوية)، وفيلسوفٍ للراديكالية. ومهما مال الرأي، فإنه لا أحد يجرؤ على نفي وعود دولوز للإنسانية: البراءة والإصرار على حتمية الممكنات في مواجهة فلاسفة الانغلاق ومشعوذي نهاية التاريخ.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.