غازي القصيبي... صيغة مركبة

شكل استثناءً في الكم والنوع

غازي القصيبي
غازي القصيبي
TT

غازي القصيبي... صيغة مركبة

غازي القصيبي
غازي القصيبي

حين سمعت به وتعرفت إليه، كانت المنطقة العربية تصطخب بغبار الصراعات السياسية، واختلاف التجارب الإبداعية في كتابة الشعر والقصة، وقد انعكست عليها آثار هزيمة 1967 المدوية... هذه التي عبَّر عنها الشاعر غازي القصيبي في ديوانه المدوي -هو الآخر- «معركة بلا راية» الذي شكل، بمعركته المبكرة ضد المحافظة التعبيرية والسائد الاجتماعي، بداية احتكاك مواهبه الأدبية والأكاديمية والإدارية بالمجتمع السعودي، وهو يخرج من عزلته التاريخية بقيام الدولة الثالثة، وسط مبادرات اجتماعية وثقافية، حاولت التعبير عن قسمات المجتمع الجديد، المتشكل بين الحربين العالميتين.

غير أن مبادرة غازي القصيبي امتازت بين تلك المبادرات عن غيرها بما أسميه «الإبداع المركب»، فهل بسبب كونه شاعراً، اصطبغت محاضراته في التدريس الجامعي أستاذاً في العلاقات الدولية والعلوم السياسية بجامعة الملك سعود بحيوية الدرس وانبهار الطلاب... وتجربته الإدارية وزيراً للصناعة والكهرباء، عبر إنشائه شركة «سابك»، ومأسسة شركة الكهرباء، وكهربة الريف... فوزيراً للصحة ثائراً على تخلف الخدمات وفساد الذمم، ثم وزيراً للمياه وأخيراً وزيراً للعمل مصراً على السعودة، ومحارباً بطالة العمالة الوطنية، وتجارة الفيز... بشجاعة غير مسبوقة في الانتصار لحق المواطن.

نعم، هل بسبب كونه شاعراً صافي المشاعر، نبيل المعاني، عميق التدين، وطني المنبت، قومي الانتماء، إنساني الرؤية اصطبغت تجربته بالبعد المضاف؟ فلم يكن أسير تنظيراته الأكاديمية المجردة في قضايا التنمية، وقضايا الحراك الاجتماعي والثقافي، وإنما كسر بمواهبه العديدة وجرأته الأدبية، وقبل ذلك بوطنيته الفذة، جمود النمطية وبلادة البيروقراطية، فإذا بغازي القصيبي الشاعر الرومانسي القومي، يبدو وزيراً ناجحاً، ومفكراً تفاعلياً، وروائياً طليعياً.

فروايته «شقة الحرية» وكذلك «العصفورية» شكلتا منعطفاً مفصلياً في تاريخ الأدب الروائي السعودي، وهو ما شجع قوافل كتاب القصة وكاتباتها نحو الانطلاق، بعد ملامسته المسكوت عنه في نفسية جيله المنفتح في عقد الستينات، على التجارب السياسية والأفكار الآيديولوجية، قبل أن يعود ورفاقه من القاهرة وبيروت والولايات المتحدة الأميركية؛ لمواصلة مسار التنظيم في مؤسسات الدولة والمجتمع، والتحديث في حركة الثقافة والتعليم الجامعي في المملكة.

هنا أتوقف عند تجربة غازي الروائية التي ابتدأها برواية «شقة الحرية»، وقد أخضع مجمل قضايا المجتمع المتغيرة في المملكة والخليج للنقد التحليلي، بأسلوب روائي، زاوج فيه كاتبها بين أشكال التعبير المختلفة، مزاوجته للتناقضات التي عاشها جيله في الخمسينات والستينات، باحثاً عن قيمة الحرية على مفترق طرق آيديولوجية متباينة، بل قل متصارعة، هي ما جعلت ذلك الجيل يعيش الحرية تارة في الانغماس الوجودي بلذائذ الشهوة الأبيقورية، وتارة مقتحماً الثالوث المحرّم، بحثاً عن الحرية في مظاهرة قومية، أو موقف آيديولوجي، تأكيداً لتحرر ذات مثقلة بتركات الماضي.

«شقة الحرية» و«العصفورية»

لقد شكلت «شقة الحرية» بانفتاحها غير المسبوق على المسكوت عنه في حياتنا نقطة انطلاق لمحاولات روائية أخرى، تجرأت على ملامسة تجارب المجتمع، وتفاعل الأجيال بما يجري حولنا. صحيح أن الدكتور تركي الحمد، وهو تلميذ للقصيبي بالمصطلح التعليمي والمعنى الأدبي، افتقر إلى المهارة الفنية في صياغة قصصه، إلا أنه وضع يده على جروح عدة، ما كان له أن يقوم بذلك، لو لم يجد أمامه معلماً ملهماً ونموذجاً طازجاً بالقضايا، ومفعماً بالتعبير الحر المؤثر.

لم يكتف غازي بهذه التجربة، فقد كثفها في رواية «العصفورية» بأداء نوعي فائق، مفجراً طاقته السردية، عبر «وحش النوع الأدبي» حسب وصف الناقد الأميركي روبرت همفري، بسخرية مرّة عبرت عن اغتراب المثقف العربي، وقد أصيب بصدمة الاحتكاك مع الآخر، وبين الجنون والعقل. هذه المرة الثنائية تأتي من الداخل، يستخدم غازي عبر روايته حيلاً فنية بارعة في بناء شخصياته، مستفيداً من نظرية فرويد في التحليل النفسي، مازجاً بين معاناة أخيه الراحل المتفلسف نبيل، ومعاناة الأديبة اللبنانية مي زيادة، التي انتهت بها ظروف الحجر النفسي والاجتماعي والسياسي إلى مستشفى «العصفورية» في محاولة يائسة للعلاج من هذه الأمراض، المستحكمة بالنفسية العربية.

هذا، وقد استفاد غازي من تجربة جويس الآيرلندي في تيار الوعي، عبر روايته الشهيرة «يولسيس» في التداعي الحر الذي اكتشفه عالم النفس الأميركي وليم جيمس، بوصف أن الذكريات والأفكار والمشاعر توجد خارج الوعي الظاهر، إذ تظهر الإنسان، لا على أنها سلسلة منتظمة، بل على أنها تيار... فيضان يتدفق على الوعي الداخلي.. غير أن غازي في رائعته «العصفوية» التيارية المتدفقة لم يتخلص من شاعريته، بل سيطرت عليه في قصه هذا، حتى إنني وجدت شباباً يافعاً يستظهر مقاطع طويلة من «العصفورية»، أتذكر حينما أنهيت قراءتها، هاتفت مؤلفها في لندن، وقد بلغ بي الافتتان حداً طالباً منه استكمال الجزء الثالث، وبذكائه المعهود قال لي: أراك تشبهني بنجيب محفوظ، وكأن كل روائي عيال عليه؟ هل تريد أن تسحب البساط من تحتي؟

أجبته: «إن ثلاثية محفوظ هي رواية أجيال... بينما (شقة الحرية) و(العصفورية) هما روايتا قضايا، فإذا كانت الأولى تدور أحداثها حول بحث جيلك عن الحرية، فإن الثانية تتمحور حول قيمة الذات العربية المهشمة، وهي تعيش مصادمة حضارة القرن العشرين، وحروب أممه وصراعاته الآيدولوجية، والمطلوب الآن أن تكتب شيئاً عن عودة الطيور المهاجرة إلى أوطانها. لِمَ لا تكتب يا غازي عن قضية التحول الاجتماعي بعد عودتك وزملائك في السبعينات، إذ قدتم التغيير من مدرجات الجامعة، إلى أعمدة الصحف، وبين أروقة الوزارة». فوجئت وهو يجيبني: «إن المشروع جاهز في رأسي، لكنه ليس على شكل رواية، وإنما سرد لتجربتي الإدارية».

بعد ذلك بقليل قرأ السعوديون والعرب أجمعين نادرته العجيبة «حياة في الإدارة». لم تكن قصة بالمعنى الفني، لكنها لم تخل من هيكلها الأساسي (السرد)، وإلا ما الذي يجعلك ويجعلني، نقدم على التهام أوراق هذا الكتاب البيروقراطي في موضوعه بلذة جمالية، لو لم يكن السرد مستغرقاً في أسلوبه ومسيطراً على مبناه. إذ «حياة في الإدارة» نص واحد متدفق كتيار، من ألف الكتاب إلى يائه، من بدايته إلى منتهاه، بلا توقف ولا فواصل.

أخلص من هذه الإلمامة العجلى على تجربة غازي الواسعة، المتعددة والمثيرة، إلى أنه شكل بـ«إبداعه المركب» استثناءً في الكم والنوع كما وصفته بحق صحيفة «الجزيرة» في كتابها التكريمي، حتى اخترق مقاسه حدود المحلية الوطنية إلى آفاق أخرى، فإذا هو وزير مصلح ومفكر إصلاحي، شاعر متمرد على النسق وتقاليد العائلة... وروائي أشد تمرداً على الأوضاع والأشكال. هكذا يشار إلى اسم غازي القصيبي اليوم في العالم العربي وخارجه.

وهكذا تقرأ تجربته الفريدة التي اختزلت تجارب أجيال بلده الاجتماعية والثقافية، مثلما اختزل تجارب العرب ماضياً وحاضراً في الشعر والأدب والثقافة، وكذلك الرؤى العالمية في قضايا التحليل السياسي وأدبيات التنمية. كل هذه العوامل تقف وراء جملة النجاحات -أدبية وإدارية- التي تحققت لغازي، يدفعه نحوها حبه العميق لوطنه وأمته، المنزه من نوازع الإقليمية والقبلية والمذهبية. يا ترى، هل كان لمولده في الأحساء من أب نجدي وأم حجازية، وتربيته في مجتمع البحرين المختلط المكونات، دور رئيس وراء هذا التميز والنجاح في تجربة غازي؟

هذا ما ينبغي أن يكون مثار اهتمام الدارسين لظاهرة غازي القصيبي، وقد أصبح ملء السمع والبصر. مالئ الدنيا وشاغل الناس، كعمه أو أبيه أبي الطيب المتنبي صيغة مركبة من الطموح والزهد، السلطة والحرية، الحنين والاغتراب، الإبداع والتجاوز ويا لها من صيغة، يا أبا يارا.



لماذا انتحر إرنست همنغواي؟

همنغواي في مكتبه
همنغواي في مكتبه
TT

لماذا انتحر إرنست همنغواي؟

همنغواي في مكتبه
همنغواي في مكتبه

كان الكاتب الأميركي إرنست همنغواي قد نشر ثلاث أو أربع روايات متتالية أمّنت له المجد الأدبي من كل أبوابه. وكانت أولاها: «الشمس تشرق أيضاً» (1926). وقد نالت شهرة واسعة وحظيت بأفضل المبيعات. وهي تعدُّ إحدى أعظم روايات اللغة الإنجليزية في القرن العشرين. وفيها يصور لنا الكاتب أجواء باريس بكل دقة في فترة ما بين الحربين العالميتين. إنه يتحدث لنا عن ذلك الجيل الضائع، جيل الاحتراق والعبور، الذي عاش أهوال الحرب العالمية الأولى ولم يستطع نسيانها.

ثم في عام 1929 نشر همنغواي رائعته الثانية «وداعاً أيها السلاح». وقد بيع منها خلال أربعة أشهر فقط ما لا يقل عن ثمانين ألف نسخة. ثم تحولت بسرعة إلى مسرحية تمثيلية، ثم إلى فيلم سينمائي، وانهالت عليه الشهرة العريضة من كل حدب وصوب. وكذلك الأموال والفلوس. وراح يدلي بالمقابلات الصحافية للجرائد الأميركية والعالمية وتحول إلى نجم النجوم. وقد صرح لأحد الصحافيين بأنه كتب الصفحة الأخيرة من روايته 39 مرة. وفي كل مرة كان يشطبها قبل أن تعجبه أخيراً في المرة الأربعين... وهي تشبه السيرة الذاتية. وفيها يتحدث عن الحب والحرب والممرضة الإيطالية التي عالجته وشفته من جرح خطير كان قد أصيب به على الجبهة في نواحي ميلان أثناء الحرب العالمية الأولى. ولكن المشكلة هي أنها جرحته جرحاً خطيراً من نوع آخر: لقد لوعته حباً وغراماً. وهذا الجرح الثاني لا علاج له ولا شفاء منه.

وفي عام 1940 نشر رائعته الكبرى الثالثة «لمن تقرع الأجراس؟»، وهي عن الحرب الأهلية الإسبانية. وقد نالت نجاحاً فورياً مدوياً. وبيعت منها مليون نسخة بعد عام واحد فقط من ظهورها. مليون نسخة! ثم قبض مبلغ مائة وخمسين ألف دولار على تحويلها إلى فيلم سينمائي. وهذا رقم قياسي في ذلك الزمان. ولم يسبق أن ناله أي كاتب آخر أميركي أو غير أميركي. وهو الذي اختار الممثل غاري كوبر والممثلة أنغريد بيرغمان لكي يلعبا دور بطل الرواية وبطلتها.

وفي عام 1952 تصدر رائعته الكبرى الرابعة «الشيخ والبحر». وقد نالت نجاحاً هائلاً وفورياً. وربما كانت هذه آخر ضربة عبقرية وأكبر ضربة حققها همنغواي في ساحة العمل الروائي. وقد توج همنغواي عام 1954 بجائزة «نوبل للآداب». لكنه لم يكلف نفسه عناء السفر إلى استوكهولم لتسلمها. فأرسل لهم كلمة قصيرة جداً قُرئت بالنيابة عنه. وكان مما قاله فيها: «إن حياة الكاتب هي حياة متوحدة أو وحيدة. إنه يشتغل ضمن أجواء مطبقة من الوحدة والعزلة والصمت. وإذا كان كاتباً جيداً بما فيه الكفاية فإن عليه أن يواجه كل يوم مسألة وجود الأبدية أو عدم وجودها. بمعنى آخر فإن سؤال الموت وما بعد الموت، سؤال الخلود أو الفناء الكامل سوف يظل يلاحقه باستمرار».

هكذا نكون قد عدنا إلى مسألة السر الأعظم أو اللغز الأكبر الذي لا يعطي نفسه لمخلوق على وجه الأرض.

سؤال بلا جواب؟

ولكن يبقى السؤال مطروحاً: لماذا ينتحر كاتب حقق كل هذا النجاح الأدبي غير المسبوق؟ لماذا ينتحر بعد أن نال «جائزة نوبل» ووصل إلى قمة الأدب الأميركي والعالمي؟ لماذا ينتحر بعد أن حققت رواياته مبيعات خيالية ودرت عليه الملايين؟ لماذا ينتحر وهو في عز الشباب: ستون سنة! كان يمكن أن يعيش منعماً مرفهاً عشرين سنة أخرى أو حتى خمساً وعشرين. وهي أجمل سنوات العمر، سنوات التقاعد، خصوصاً إذا كنت تمتلك كل هذه الملايين من الدولارات المتراكمة على حسابك البنكي. إنه تقاعد من ذهب...

ولكن إذا عرف السبب بطل العجب.

في عام 2011 وفي يوم 2 يوليو (تموز)، أي بعد خمسين سنة بالضبط من انتحاره نشرت جريدة «النيويورك تايمز» خبراً مثيراً سرعان ما انفجر كالقنبلة الموقوتة. مفاده أن الرجل لم ينتحر اختياراً وإنما اضطراراً. فقد كان ملاحقاً من قبل عملاء المخابرات الأميركية (إف بي آي)، وذلك بتهمة التعامل مع النظام الكوبي. وللتدليل على هذا نشرت الجريدة الأميركية الشهيرة رسالة لصديقه هارون إدوارد هوتشنير. وهي رسالة ألقت أضواء جديدة على المراحل الأخيرة من حياة إرنست همنغواي. ماذا يقول صديقه الشخصي في هذه الرسالة التي قلبت الأمور رأساً على عقب. إنه يقول ما معناه: في أحد الأيام اتصل بي همنغواي وهو في حالة من الاضطراب لا تُوصف. وقال لي بأنه متعب جداً من الناحية النفسية والجسدية. وفهمت منه أنه يعيش حالة هلع وأنه بحاجة لأن يراني. فذهبت فوراً للقياه وعندئذ كشف لي السر الخطير الذي يؤرقه ويقض مضجعه. قال لي: أنتم لا تعرفون ماذا يحصل لي؟ أنا في خطر يا جماعة. أنا ملاحق من قبل المخابرات ليلاً نهاراً فقط. تليفوني مراقب وبريدي مراقب وحياتي كلها تحت الرقابة. أكاد أجن!

ثم يضيف صديقه في الرسالة قائلاً:

ولكن المقربين منه لم يلحظوا وجود أي برهان عملي على ذلك. ولذلك اعتقدوا أنه أصيب بمرض البارونايا: أي الذُهان الهذياني أو الهلوسات الجنونية. لقد غرق الكاتب الشهير في هوس الإحساس الوهمي بأنه ملاحق من قبل أجهزة المخابرات. فأين هي الحقيقة إذن؟ هل كان ملاحقاً فعلاً أم أنه كان موسوساً عقلياً ومتوهماً بأنه ملاحق؟ ومعلوم أن أحد النقاد كان قد اتهمه سابقاً بعد أن تعرف عليه بأنه مصاب بمرض العُصاب الجنوني والهستيريا الشخصية. وإلا من أين جاءت كل هذا الإبداعات العبقرية؟

فيما بعد كشفت الأرشيفات أن رئيس المخابرات إدغار هوفر الذي كان يرعب حتى رؤساء أميركا كان قد وضع بالفعل همنغواي تحت المراقبة والتنصت بتهمة التعامل مع جهة أجنبية معادية. ولذلك لاحقته المخابرات في كل مكان حتى في مستشفى الأمراض العقلية، بل وحتى على شواطئ البحار حيث كان يعشق التنزه. لقد أرهقوه فعلاً بالملاحقات حتى جننوه ودفعوه دفعاً إلى الانتحار. والأنكى من ذلك أنهم اتهموه بأشياء لا علاقة له بها. ماذا تستطيع أن تفعل إذا غلطت بك إحدى الجهات ولعنت أسلافك وأنت بريء كلياً مما يظنون أو يتوهمون؟ هذا ما حصل لإرنست همنغواي على ما يبدو. وبالتالي فقد ذهب ضحية عبث الأقدار الاعتباطية أو غلطات الوجود. لقد غلطوا به مكان شخص آخر. المجرم الحقيقي نجا بجلده والبريء دفع الثمن!

ضريبة العبقرية والشهرة غالية جداً. فالكثيرون جنوا أو عانوا أو نُحروا أو انتحروا بسببها

ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج ما يلي: أن تكون عبقرياً مشهوراً فهذا يعني أنك قد دخلت فوراً في الدائرة الحمراء للخطر. سوف تنزل على رأسك النوازل غصباً عن أبيك. يقول الفيلسوف الفرنسي المعروف ميشيل سير: لقد درست سيرة حياة مشاهير علماء فرنسا وفلاسفتها على مدار 400 سنة متواصلة ولم أجد واحداً منهم عاش مرتاح البال. كلهم كانوا معرضين للخطر بشكل أو بآخر وأحياناً لخطر الاغتيال. نستنتج أيضاً أن ضريبة العبقرية والشهرة غالية جداً. فالكثيرون جنوا أو عانوا أو نُحروا أو انتحروا بسببها. لقد احترقوا لكي يضيئوا لنا الطريق. وبالتالي فإذا كنا نريد أن نعيش مرتاحي البال فمن الأفضل أن نكون أشخاصاً عاديين كبقية البشر لا أكثر ولا أقل. كنا نعتقد أن العبقرية أو الشهرة نعمة فإذا بها نقمة حقيقية. تقريباً لا يوجد عبقري واحد إلا ودفع ثمن شهرته عداً ونقداً بشكل أو بآخر: المتنبي قُتل في الخمسين، ابن سينا مات على الأرجح مسموماً في السابعة والخمسين، جمال الدين الأفغاني مات مسموماً في الآستانة عند الباب العالي وهو لما يبلغ الستين، عبد الرحمن الكواكبي قتله الباب العالي أيضاً في القاهرة عن طريق فنجان قهوة صغير وهو في السابعة والأربعين. ديكارت مات مسموماً في السويد وهو في الرابعة والخمسين، وذلك على يد كاهن أصولي كاثوليكي دس له السم في القربان المقدس! الدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق وأحد أساطين القانون السوري والعالمي سقط مضرجاً بدمائه تحت وابل من رصاص الطليعة المقاتلة لـ«الإخوان المسلمين» وهو في الثامنة والخمسين. والقائمة طويلة... عندما نكتشف كل ذلك نتنفس الصعداء ونحمد الله ألف مرة على أننا لسنا عباقرة!