إسماعيل كاداريه وكوابيس ألبانيا

رحل في منفاه الاختياري بفرنسا عن 88 عاماً

إسماعيل كاداريه وكوابيس ألبانيا
TT

إسماعيل كاداريه وكوابيس ألبانيا

إسماعيل كاداريه وكوابيس ألبانيا

برحيل الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه عن سن تناهز 88 تكون الرواية العالمية قد فقدت أحد رمزها الكبيرة إذ إنه تمكن منذ روايته الأولى «جنرال الجيش الميت» من أن يفرض نفسه ككاتب يتمتع بموهبة عالية، وبفكر نيّر يستمد قوته من فلاسفة الإغريق الذين كان يعود إليهم دائماً وأبداً.

وأما الجانب المهم الآخر فهو أنه حرص دائماً على أن تكون جلّ رواياته وقصصه القصيرة عاكسة لتاريخ وواقع بلاده الصغيرة التي تكاد تكون ضائعة في خريطة القارة العجوز، والتي عمل الديكتاتور الشيوعي أنور خوجة على عزلها عن العالم منذ الحرب الكونية الثانية وحتى انهيار جدار برلين في خريف عام 1989.

ورغم أنه عاش في ظل نظام شيوعي دوغمائي ومتحجر، ولم يغادر بلاده إلا بعد انهيار هذا النظام، فإنه تمكن من الإفلات من فخاخ «الواقعية الاشتراكية»، وأساليبها السطحية مستفيداً من الابتكارات العظيمة التي جاء بها كبار الروائيين في القرن العشرين.

كنت قد التقيت إسماعيل كاداريه في ميونيخ أواخر عام 1987. وكان ذلك خلال تقديمه لروايته: «الشتاء الكبير» التي تطرق فيها إلى علاقات بلاده مع ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، ومع صين ماوتسي تونغ. وأذكر أنني كنت سعيداً بلقائه إذ إنني كنت قد قرأت آنذاك أغلب رواياته المترجمة إلى اللغة الفرنسية، وبها أعجبتُ أشد الإعجاب. وأمام دهشة الجميع، تجنب إسماعيل كاداريه الإجابة عن الأسئلة المطروحة والتي تركزت جلها على علاقته بالنظام الشيوعي، وعن أوضاع حقوق الإنسان في بلاده. فإن فعل ذلك فإنه كان يوجز، أو يتلفظ بكلام عام، ثم يغرق في الصمت فكما لو أن القاعة فارغة.

ثم تلاحقت الأحداث بعد ذلك بسرعة عجيبة. فقد سقط جدار برلين، ومعه أنظمة الكتلة الاشتراكية. وصعد إلى كرسي الرئاسة في براغ الكاتب والمثقف المنشق فاتيسلاف هافل الذي أمضى سنوات طويلة في السجن بسبب معارضته للنظام الشيوعي. ومرّغ الرومانيون رأس الديكتاتور تشاوسيسكو في الوحل، وشرعت وكالات الأنباء تتحدث عن صدوع وعن شقوق في السور الحديدي الذي أقامه أنور خوجة حول بلاده.

بعدئذ شرع الألبان يفرون بالآلاف إلى السفارات الغربية في تيرانا. مع ذلك، ظل إسماعيل كاداريه الذي وصفه البعض بـ«ضمير ألبانيا» صامتاً. الشيء الإيجابي الوحيد الذي قام به هو أنه تدخل لدى السلطات الرسمية لكي تسمح بنشر رواية صديقه أنشت توزاج التي بعنوان «السكين»، والتي تُدين المخابرات الألبانية، وقمعها الوحشي للحريات.

إلا أن إسماعيل كاداريه فاجأ العالم في خريف عام 1990 بقرار طلب اللجوء في فرنسا التي يتقن لغتها. وفي التصريحات القليلة التي أدلى بها، أدان بشدة نظام أنور خوجة. ولتوضيح قراره العيش في المنفى، قال: «لقد حاولت حتى اليوم المساهمة في جعل النظام أكثر ليونة، مع مراعاة الظروف الخاصة بألبانيا. وخلال لقاءاتي برموز النظام، وأيضاً عبر الرسائل التي أرسلتها إليهم، عبّرتُ عن الضرورة المُلحة لديمقراطية سريعة وعميقة. إلاّ أن جميع الوعود التي قطعت لم تحترم إطلاقاً. لذا كانت خيبتي شديدة». 

غير أن البعض من الكتاب الألبان لم يقتنعوا بالتفاسير التي قدمها صاحب «الشتاء الكبير» لتبرير قراره ترك بلاده. وقال الشاعر رودولف ماركو: «أنا لا أستطيع تفسير هذا القرار... لقد كان إسماعيل كاداريه يُحدثني عن الغثيان الذي يُصيبه حين يسمع أن كاتباً غادر بلاده. وكان يُردد دائماً أن الكاتب الكبير والحقيقي لا بد أن يظل بين مواطنيه».

كان مولد إسماعيل كاداريه في عام 1936 في مدينة غجيرو كاسترا التي سيخلدها في روايته البديعة: «حوليات المدينة الحجرية» من خلال طفل صغير كان يترصّد كل حركة وكل صوت. وفي هذه المدينة التي احتلها على التوالي الطليان ثم اليونانيون، ثم الألمان، أمضى طفولته. وهو ينتمي إلى عائلة مسلمة. وفي البعض من رواياته الأخرى، تطرق إلى أوضاع بلاده في ظل الإمبراطورية العثمانية، منتقداً الاستبداد والتزمت الديني.

في سن العاشرة اكتشف إسماعيل كاداريه شكسبير. وفيما بعد سيقول: «كنت أعشق ماكبث وقصص الأشباح».

وعند بلوغه السابعة عشرة من عمره، أصدر مجموعة شعرية أحرزت تقدير وإعجاب الأوساط الأدبية في بلاده. وبعد تخرجه من الجامعة سنة 1958، سافر إلى موسكو ليمضي سنتين في معهد «غوركي» خلالهما اكتسب اطلاعاً واسعاً على أهم الأعمال الروائية والشعرية في بلاد بوشكين، وتورغينييف، وتولستوي، ودستويفسكي، وغوغول، وتشيكوف... وعن تلك المرحلة أشار إسماعيل كاداريه إلى أنه استفاد منها كطالب، غير أنه لم يكن راضياً عن وضعه ككاتب. وربما يعود ذلك إلى أنه لم يستسغْ أبداً «الواقعية الاشتراكية».

وفي عام 1960، تمرد إسماعيل كاداريه على النظام الشيوعي في موسكو واصفاً خروتشيف بـ«البورجوازي التحريفي». وعند انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين بلاده وما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي عاد إلى تيرانا.

ومنذ تلك الفترة، أصبح إسماعيل كاداريه «كاتباً رسمياً» رغم أن رواياته لم تكنْ تعكس بأي حال من الأحوال توجهات الحزب الحاكم، وتعاليم أنور خوجة، وزوجته نجمية. كما أنه انتخب عضواً في مجلس الشعب، ونائباً لرئيس «الجمعية الديمقراطية».

مع ذلك واجه العديد من المضايقات. ففي عام 1982، منع جهاز الرقابة بعض رواياته، وقصصه القصيرة. في الفترة نفسها، وجّه له كتّاب وشعراء ونقاد مُقربون من الحزب الحاكم انتقادات لاذعة، مُعتبرين أعماله مُعادية للماركسية، وللطبقة العاملة.

غير أن كاداريه كان يثق كثيراً فيما يكتب. وكان يعلم جيداً أنه بإمكان قرائه في ألبانيا، وفي جميع أنحاء العالم، إدراك ما توحي به أعماله الروائية والقصصية. ومرة كتب يقول: «إن الكاتب العظيم الذي يعيش معزولاً ليس له سوى أن ينتظر الساعة التي يُرسل فيها إلى القبر. وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً وهو على قيْد الحياة سوى أن يتخيّل الموت الذي سوف يختاره له جلادوه: السمّ في القهوة، حادث سيارة، أو طعنة بسكين مُختلّ عقلياً في مدرج عمارة مظلمة». ويضيف إسماعيل كاداريه قائلاً: «في صراع كهذا بين الطاغية والشاعر، يكون الانتصار دائماً للشاعر حتى وإن ظل هذا الأخير مهزوماً لفترة طويلة».

في الصراع بين الطاغية والشاعر يكون الانتصار دائماً للشاعر حتى وإن ظل هذا الأخير مهزوماً لفترة طويلة

كادريه


مقالات ذات صلة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

ثقافة وفنون الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة.

ندى حطيط
ثقافة وفنون سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام.

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك

مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

كرّم وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي، مساء اليوم في الدوحة، المفكّر والأكاديمي السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)

بساطة عميقة تُنتِجُ تعقيداً مدهشاً

بساطة عميقة تُنتِجُ تعقيداً مدهشاً
TT

بساطة عميقة تُنتِجُ تعقيداً مدهشاً

بساطة عميقة تُنتِجُ تعقيداً مدهشاً

كنتُ تناولتُ في موضوع سابق نُشِر في ثقافية «الشرق الأوسط» التعليق على روايتين مترابطتين ببعضهما، نُشِرتا للكاتب الأميركي الراحل كورماك ماكّارثي قبل وفاته بقليل. قدّمتُ في ذلك الموضوع تلخيصاً سريعاً لحياة ماكارثي وشغفه الفكري الذي كان أحدَ تمثّلاته هو تبرّعه بمبلغ ربع مليون دولار لمعهد سانتا في Santa Fe Institute الأميركي - الذي يشارُ له اختصاراً «SFI» -، وظلّ مقيماً فيه كعضو دائمي حتى وفاته في يونيو (حزيران) من العام الماضي (2023). تساءلت حينها: ما الذي يجذبُ كاتباً روائياً مكرّساً للإبداع الأدبي للإقامة الدائمية في معهد أراده مؤسسوه أن يكون مركزاً بحثياً لدراسات التعقيد Complexity والنظم المعقدة Complex Systems. يمكن للمرء أن يقول بثقة كاملة إنّ تجربة ماكارثي شاهدة إضافية على التداخل العضوي بين العلم والأدب وسائر المناشط الإنسانية. على المستوى الشخصي دفعتني تجربة ماكارثي للاستزادة في دراسة تجربة معهد «سانتا في» المميزة، فعرفت أنّه مؤسسة بحثية لها منصة تعليمية تنشر باستمرار وانتظام فيديوهات تعليمية وكتباً تختصُّ بدراسة ظاهرة التعقيد والنظم التكيفية المعقدة، وتختصّ بطيف واسع من الموضوعات المشتبكة في الرياضيات والفيزياء وعلوم الحاسوب والبيولوجيا والاقتصاد والسياسة والبيئة. إنها منصّة ثمينة متاحة للجميع، وأظنها ستكون تجربة في غاية المتعة والفائدة - وأتمنّاها تتحقق لأكبر عدد ممكن - لو حاولنا ولوج هذه المنصّة وتحصّلَ الفائدة من موادها المتاحة.

ربما تكون لعبة الشطرنج مثالاً أفضل من سواه لتمثيل فكرة التعقيد. لوحة الشطرنج ثابتة من حيث موضعة القطع عند لحظة الشروع باللعب، وقواعد الشطرنج بسيطة للغاية؛ لكنّما احتمالات تحريك القطع والحصول على مواضع متباينة للقطع كبيرة للغاية. ربما المثال الآخر هو مكتبة بابل البورخسية التي هي في النهاية تمثّلٌ للكون وإمكانات تطوّره اللانهائية؛ لذا قيل إنّ بورخس أراد بمكتبته أن تكون كناية عن الكون: باثنين وعشرين حرفاً فقط مع نقطة وفارزة وفاصلة يمكن الحصول على ترتيبات مختلفة هائلة الأعداد (تدرسها الرياضيات في الفرع المسمّى Combinatorics). من الطبيعي والبديهي أن نتساءل: كيف تقود تلك المواد الأولية المحدودة في العدد إلى تشكّلات شديدة التعقيد (بمعنى مساءلة ميكانيكيات التشكّل)؟ والأكثر أهمية هو: كيف تقود التشكّلات المعقّدة إلى نشوء خواص انبثاقية Emergent متمايزة نوعياً عن الأطوار السابقة. مثالُ ذلك: ظاهرة الوعي consciousness التي هي خاصية انبثاقية لتعقيد الدماغ البشري. اللغة هي خاصية انبثاقية أخرى للتعقيد الدماغي كما يرى بحّاثة كثيرون.

*****

موراي غيلمان Murray Gell - mann (1929 - 2019) هو أحد الآباء المؤسسين لمعهد «سانتا في»، وتجربته العلمية والبحثية والفكرية تستحقّ دراسة معمّقة. يُعرَفُ عن غيلمان حصولُهُ على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969 لمساهمته في اكتشاف الجسيم الأوّلي المسمّى كوارك Quark؛ وبذا فهو أحد كبار الفيزيائيين الذين عملوا في البحث عن الجسيمات الأساسية المشكّلة للكون. ثمة حقيقة يمكن حدسها عند كلّ المشتغلين بالفيزياء الأساسية تتمثلُ في أنّهم مشغوفون دوماً بظاهرة التعقيد مثل شغفهم بالقوانين الأساسية التي تحكمُ العالم الصغير Microcosmos والعالم الكبير Macrocosmos على مستوى الكون والفرد معاً. ثم إنهم يميلون كذلك لرؤية الصورة الشاملة Big Picture بدلاً من الاكتفاء بالصورة المجتزئة.

نشر «معهد سانتا في» أواخر عام 2023 كتاب المؤسس الراحل غيلمان الذي اختار له عنوان «الكوارك والنمر»، مع عنوان ثانوي: مغامرات في البسيط والمعقّد. تأسرني الكتب التي تضمّ عناوينها مفردة «المغامرة». أليست حياتنا سلسلة مغامرات تتفاوت في الكم والنوع؟ نحن جميعاً نتشارك مغامرة العيش حتى من لم يشأ أن يجعل حياته مغامرة وفضّل عليها عيشاً مستكيناً ومرتهناً بشروط اللحظة الراهنة.

يؤكّدُ المؤلف في مقدّمته للكتاب أنّ كتابه هذا ليس بالسيرة الذاتية، رغم أنّه يضمُّ حكايات من طفولته وإشارات إلى مجايليه في مناشط علمية مختلفة، كما أنّ الكتاب ليس حكاية تفصيلية لكيفية بلوغه اكتشافه المثير للجسيم الأساسي (الكوارك) رغم أنّه يتناول حكاية المسعى البشري لمعرفة القوانين الأساسية والعناصر الأساسية المكوّنة للكون والكائنات البيولوجية.

وضع المؤلف كتابه في أربعة أجزاء. في بداية الجزء الأوّل منها قدّم وصفاً للتجارب الشخصية التي قادته لكتابة كتابه هذا:

«... كنتُ أمضي ساعات وساعات في جولات المشي الطويلة في الغابات الاستوائية وأنا أدرسُ الطيور وأنشغلُ بالخطط الممكنة للحفاظ على الطبيعة، وحينها أصبحتُ مأسوراً بفكرة مشاركة القرّاء بالإدراك المتنامي للروابط الجوهرية بين القوانين الأساسية للفيزياء والعالم الذي نراه حولنا.....»

ثم يمضي في الكشف عن أصل تسمية عنوان كتابه:

«... عندما قرأتْ لي زوجتي قصيدة آرثر زي Arthur Sze التي أشار فيها إلى الكوارك والنمر أصابتني صدمة مباشرة للكيفية التي تمكّن فيها الشاعر من توظيف صورتين شعريتين تتماهيان تماماً مع موضوعي. الكواركات من جانب هي العناصر البنائية الأساسية لكلّ المادة في الكون (ومنها أجسادنا)..... والنمور من جانب آخر هي الرمز القديم للقوة والسلطة، وهي وإن كانت كتلة من مليارات الكواركات؛ لكن أي كتلة عجيبة هي! إنها نتاجُ مليارات السنوات من التطوّر البيولوجي...».

كلُّ كتابٍ يختصّ بظاهرة التعقيد من الطبيعي أن نتوقّع في موضوعاته التنوّع والتوزّع على طيف بحثي شاسع يتخالف مع قراءاتنا الكلاسيكية؛ لذا يتوجب أن نكيّف بدورنا ذائقتنا المعرفية لهذا اللون من البحث الاستكشافي. يخصّص غيلمان الجزء الأوّل من كتابه لدراسة العلاقات بين المفاهيم المتعددة للبساطة والتعقيد والنظم التكيفية المعقدة في مجالات متعددة: طفل يتعلّم لغة، بكتريا تطوّرُ مقاومة لنوع معيّن من المضادات الحيوية، يفرِدُ المؤلف حيزاً مهمّاً من هذا الفصل لدراسة الإشكاليات الخاصة بالمقاربة الاختزالية Reductionism في دراسة النظم المعقدة. الجزء الثاني يتناول القوانين الأساسية للفيزياء والتي تحكم كلاً من الكون والجسيمات الأساسية. هنا يظهر الكوارك لاعباً أساسياً في الكتاب. الجزء الثالث يتناول تنويعات (جوانب) محدّدة من النظم التكيفية المعقدة؛ أما الجزء الرابع فيتناول موضوعات التنوّع Diversity والاستدامة Sustainability. يشير المؤلف إلى إمكانية إسقاط بعض الأجزاء المكتنفة بتفاصيل تقنية غير معهودة لمعظم القرّاء (مثل الأسس المفاهيمية لميكانيك الكم)؛ لكني أرى من الأفضل تعويد النفس على قراءات جديدة وعدم المكوث في فضاء القراءات السهلة المتسمة بالمتون المكرّرة والمفاهيم المستعادة من غير تطوير مفاهيمي حقيقي وصارم.

يشير المؤلف إلى ملاحظة غاية في الأهمية حول نمط التفكير العابر للمباحث الضيقة؛ فيكتب بهذا الشأن:

«... النجاح في إحداث تلك الانتقالة (نحو الفكر العابر للتخصصات) يقترن في العادة مع نمط محدّد للتفكير. قدّم الفيلسوف (فون شيلينغ Von Schilling) تمييزاً (صار شهيراً بواسطة نيتشه) بين الأبولينيين Apollonians (الذين يفضّلون المنطق والمقاربة التحليلية وعدم الارتكان إلى الشواهد) والديونيسيين Dionysians الذين يميلون تجاه الحدس والتركيب والشغف الفكري، لكن ثمّة من هو بيننا ويبدو أنّه ينتمي لطائفة ثالثة أرغب في توصيفها بالأوديسيين Odyssians الذين يتشاركون صفات الأبولينيين والديونيسيين معاً. مثل هؤلاء يشعرون بوحدة طاغية وبالعزلة في المؤسسات التعليمية والبحثية الشائعة في العالم؛ لكنهم يجدون في (معهد سانتا في) بيئة ملائمة لمشاربهم الفكرية وشغفهم البحثي».

*****

أعترف بأنّ كتاب غيلمان قراءة شاقة غير سائدة في أوساطنا؛ لكنّ المتعة على قدر المشقة، والأفضل أن نتذكّر دوماً أنّ الشغف كفيل بتذليل الكثير من المشقات الخاصة بالقراءات المخالفة للقراءات السائدة. من المفيد دوماً أن نجرّب مغادرة منطقة الراحة Comfort Zone الخاصة بقراءاتنا الكلاسيكية. لنجرّبْ في الأقل؛ فربّ عالم خفي مكتنفٍ بأنماط غير معهودة من الدهشة ينفتح أمامنا مثلما انفتح لكورماك ماكّارثي قبلنا.