فارس يواكيم يُعرّب «عيون إلزا» ويقرأ مقاصد العاشق لويس أراغون

ترجمة جديدة استحقت نصف قرن

أراغون وإلزا
أراغون وإلزا
TT

فارس يواكيم يُعرّب «عيون إلزا» ويقرأ مقاصد العاشق لويس أراغون

أراغون وإلزا
أراغون وإلزا

أول ما يتبادر إلى الذهن عندما تقع عيناك على كتاب معرّب، وله سابق ترجمة، هو: ما جدوى الجهد المبذول لمرة جديدة؟ هذا أول ما تطرحه على نفسك، حين تمسك بديوان «عيون إلزا» للشاعر الفرنسي الشهير لويس أراغون، وهو يصدر طازجاً بقلم فارس يواكيم، عن «دار أطلس للنشر والتوزيع» في دمشق.

تسارع إلى القراءة لترى أهم ما أضاف، وما حذف، لتكتشف أنه جاء من الديوان بنسخة عربية جديدة، أهم ما فيها سلاسة اللغة، وجمالية الموسيقى والإيقاع، وتلك الدقة في متابعة وشرح الكلمات التي يصعب على القارئ معرفة خلفياتها. أضف إلى ذلك، المقدمة الوافية، وشروحات تتصدر غالبية القصائد، واضعة القارئ في أجواء الأبيات، ومناسبتها، مع إيضاح لأهم عناصرها، هذا عدا الهوامش. كل ذلك يجعل القارئ العربي ليس فقط مستمتعاً بقراءة قصائد منسابة، لكنه أيضاً يجعله مكتسباً زاداً تاريخياً مهمّاً، حول الظروف السياسية التي كانت تعيشها فرنسا، في ذلك الوقت، والحالة الشعورية العصيبة لصاحب الديوان، الذي أكثر ما يعرف عنه بين قراء العربية هو عشقه لإلزا تريوليه، تلك المرأة التي كتب فيها قصائده، واقترن اسمها بعناوين أربعة من دواوينه: «عيون إلسا»، و«إلسا»، و«ما كانت باريس لولا إلسا»، و«مجنون إلسا». وليس غريباً بعد ذلك أن يُعرف أراغون بـ«مجنون إلسا»، وتَنصبُّ غالبية الكتابات على تمجيد هذا الحب الخالد الذي يستحق أن يُسال من أجله كثير من الحبر.

لكنَّ فارس يواكيم في ترجمته لـ«عيون إلزا» من خلال مقدمته والشروحات، لا يميل إلى اعتبار أراغون شاعر حب وعشق وغزل، بقدر ما يُظهر روحه الوطنية المناضلة، المستبسلة في سبيل حرية فرنسا. ويقول يواكيم لـ«الشرق الأوسط»: «غير صحيح أنه كان شاعر حب وغزل أولاً. لقد عاش أراغون مناضلاً انضم إلى الحزب الشيوعي عام 1927، وبقي فيه فاعلاً، ملتزماً، ومنتمياً كعضو في الحزب لغاية وفاته. علماً بأن عديداً من زملائه الشيوعيين، كانوا قد انسحبوا، في تلك الفترة على اعتبار أن ستالين كان ديكتاتوراً، وهو ما لا يتناسب مع توجهاتهم. بعد سنة من انخراطه في الحزب التقى إلزا، ونشأت بينهما صداقة فعلاقة حب، فزواج عام 1939. «واحدة من ميزات أراغون الأدبية، هو أنه استطاع أن يستفيد من الغزل الذي يحبه الناس، ليمزجه بروح المقاومة، ويجعلها قريبة من الذائقة العامة، وهذا نلحظه في كثير من قصائده»، حسبما يقول يواكيم. فغاية أراغون، على ما يشرح نفسه، أن يكون شاعر الشعب وليس شاعر النخبة، ولربما ليس أفضل من الغزل للوصول إلى قلوب الجماهير، ليتمكن من تحميسهم للحاق بركب المقاومة، وطرد المحتلين.

عاش لويس أراغون خمسة وثمانين عاماً (1897 - 1982)، إضافةً إلى كونه شاعراً مبدعاً وناقداً وقاصّاً وصحافياً، كان مناضلاً وصاحب مواقف ومبادئ، وهو ما يُظهره الديوان بوضوح، ويركزّ عليه المترجم في شروحاته الجليلة.

بعد زواجه من إلزا نشبت الحرب العالمية الثانية، وانخرط أراغون مقاتلاً متطوعاً ومحارباً ضد النازية، وقد اعتُقل وسُجن ولاذَ بالفرار وأمضى النصف الثاني من سنوات الحرب في جنوب فرنسا، حيث استولت حكومة فيشي على الشمال، والمقاومة الشعبية على جنوب البلاد.

وشاءت الظروف قبل ذلك أن يقاتِل كمجند في الجيش الفرنسي، وكان لا يزال في السابعة عشرة من العمر، خلال الحرب العالمية الأولى. «لقد كان منخرطاً كعسكري، خاض الحروب من أجل تحرير بلاده. ومن الظلم أن نتجاهل كل هذا التاريخ، والقتال في ساحات المعارك، والتضحية بالنفس، ونعدّه مجرد عاشق إلزا». يضيف يواكيم: «إن شعر أراغون فيه حب فظيع لفرنسا، وكمٌّ هائل من الوطنية، وحسٌّ عالٍ بالتضحية والإباء».

شاعر وطني ملتزم الفكر اليساري، اتخذ من الحب ركيزة جميلة ليدخل إلى هدفه الأساسي، وهو مقاومة المحتل النازي. ومما هو معروف عنه كحزبيّ أنه كان يحرص سنوياً على أن يكون حاضراً في عيد الحزب الشيوعي السنوي الكبير، الذي يقام في باريس، ويجمع اليساريين، وذلك كنوع من الدعم الشخصي من أراغون للحزب.

ديوان «عيون إلزا» أو «عينا إليزا» أو «إلسا» كما يكتبها البعض، سبق وتُرجم بعض قصائده متفرقةً إلى العربية، أما ترجمته الكاملة فقد قام بها شاعر العامية المصري فؤاد حداد، ولا توجد ترجمة أخرى. لكنَّ التعريب لم يرُقْ لفارس يواكيم، حين اطلع عليه، لذلك لم يتردد في أن يُقبل على ترجمة جديدة بكل ما أوتي من حماسة. فهو يرى أن حدّاد «وقع في مطبات كثيرة، ووقف في أحيان عدة عند المعنى الأول أكثر مما اهتم بالمجاز، مع أنه شاعر رائع، ويجيد الفرنسية بشكل ممتاز».

وبالفعل بالمقارنة بين الترجمتين، تشعر كم أن ما وضعه حدّاد قد ضيّع كل شعرية وانسيابية في شعر أراغون، حتى إنك تفقد الرغبة في استكمال القراءة. ثمة معانٍ غامضة وغير مفهومة، وأخرى تُرجمت حرفياً، وفقدت أي رابط بما قبلها أو بعدها. فيما حرص يواكيم، رغم أنه تخلى عن الوزن في ترجمته، على سلاسة، وشاعرية، وموسيقى داخلية عذبة. وازن يواكيم بشكل لافت بين المعنى البسيط والواضح الذي يحترم الأصل والأسلوب العذب الدفاق الذي لا يعكّر ذهن القارئ ويربكه، وهذا يُكتب له. فليس شائعاً أن تقع على ترجمة شعرية عربية فيها هذا الكم من احترام المعنى الأصلي مع الحرص على إبقاء الشعرية نابضة في القصائد.

في أثناء حديثنا معه، يعطي فارس يواكيم أمثلة عدة، على السقطات التي وقع فيها حداد، من بينها أنه ترجم تعبير «رأس عصفور» بالفرنسية حرفياً، مما جعل الجملة تفقد معناها، مع أنه تعبير معروف لدى الفرنسيين يعني «الطائش» أو «الهائج». هذا عدا أن حداد لم يصدّر ترجمته بمقدمة توضح رؤيته للديوان، وهناك قصيدة تركها بلا عنوان، وثمة أخطاء لغوية، كان يمكن تلافيها بسهولة، بمراجعة النص.

يُعيد يواكيم بعض الأخطاء التي ارتُكبت إلى خيار فؤاد حداد أن يُعرّب الديوان كله على التفعيلة. هذا ضَيَّق أمامه خيارات الترجمة. ففي إحدى القصائد ترجم (النبيذ الأبيض) بأنه (نبيذ أحمر) مع أنه غير مضطر إلى ذلك. وفي أحد المواقع استخدم عبارة (قبعات مثل الأرز) متأثراً بعبارة (زي الرز) المصرية التي تعني الكثرة، فيما ارتأى يواكيم أثناء ترجمته أن يبسّط الأمر ويلجأ لعبارة (قبعات لا حصر لها) للدلالة على كثرتها. هذا عدا أن الترجمة لم تلقَ العناية الكافية بعد الطباعة وقبل النشر، ولم تخضع للتدقيق اللازم.

تستغرب حين تعرف أن فارس يواكيم الذي أصدر عديداً من الكتب في السنوات الأخيرة، كان قد عكف على ترجمة ديوان «عيون إلزا» عام 1976، أي بعد عام واحد على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. ترجمه حينها ووضعه جانباً، وهو لا يزال ينقّحه إلى أن وصل إلى الصيغة التي بين أيدينا اليوم. ويحتفظ اليوم بالدفتر الأول الذي سجل عليه ترجماته، وعليه التعديلات والتبديلات التي كانت تطرأ تباعاً، كلما اختمرت.

يكاد يكون نصف قرن قد مرّ على بدء الترجمة. أيُّ صبر؟ وأيُّ انتظار؟ هل يغيِّر الكثيرَ مرورُ زمن يساوي عقوداً على نص؟

تستغرب حين تعرف أن فارس يواكيم الذي أصدر عديداً من الكتب في السنوات الأخيرة، كان قد عكف على ترجمة ديوان «عيون إلزا» عام 1976 أي بعد عام واحد على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية

يروي لنا يواكيم أنه حار طويلاً كيف يترجم مطلع القصيدة الأولى في الديوان. في البدء ترجمها «عيناك عميقتان جداً». احتاج الأمر إلى تأمل طويل ليقرر أن يجعلها «عيناك ما أعمقهما» ويكمل: «حين انحنيت لأشرب، رأيت فيهما الشموس جميعاً جاءت تتمرى، وكل اليائسين يرتمون فيها منتحرين. عيناك ما أعمقهما... فيهما أفقد الذاكرة». تحرّره من التفعيلة سمح له بالتحرك في المفردات والجمل، ومنحه حرية.

يضرب يواكيم مثلاً قصيدة «البحيرة» للشاعر الفرنسي لامارتين. يقول إن نقولا فياض عرَّبها على أنها شعر عمودي ونجح أيّما نجاح، حتى كاد ما كتبه بالعربية يضاهي جمال نص لامارتين بالفرنسية، وذلك لأنه وجد مخرجاً ليمنح نفسه حيوية الحركة اللغوية، حين قال إنه ترجم القصيدة بتصرف.

كُتب عديدة لفارس يواكيم، كان قد تركها سنوات طوال لتختمر، بينها أنطولوجيا لقصائد ألمانية مترجمة إلى العربية، من لسينغ إلى بريخت، ستبصر النور قريباً. واللطيف أن يواكيم الذي كتب في مختلف الأصناف الأدبية، من المسرحية إلى السيناريو، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، لم يكتب الشعر، ومع ذلك كانت له جرأة ترجمة كبار الشعراء، وها هو يُصدر ديواناً للويس أراغون، ومن بعده سنقرأ له قصائد لكبار الشعر الألماني.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري... الراسخ في «مقدمة ابن خلدون»

يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
TT

رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري... الراسخ في «مقدمة ابن خلدون»

يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)
يُعد الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين والخليج عموماً (الشرق الأوسط)

فقدت البحرين ودول الخليج العربية، اليوم الخميس، المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري، مستشارَ ملك البحرين للشؤون الثقافية والعلمية، أستاذ دراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، عميد كلية الدراسات العليا الأسبق بجامعة الخليج العربي، الذي وافته المنية بعد مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والعلمي.

يُعدُّ الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم رواد الحركة الفكرية والثقافية في البحرين، والخليج عموماً، وباحثاً مرموقاً في دراسات ونقد الفكر العربي، وقدَّم إسهامات نوعية في مجالات الفكر، والأدب، والثقافة. وتميزت أعماله «باتساق الرؤية الفكرية في إطار مشروع نقدي للفكر العربي السائد تطلعاً إلى تجديد المشروع النهضوي، كما تميزت رؤيته الفكرية بالتشخيص العيني للواقع العربي في أبعاده السياسية والاجتماعية والحضارية في حقلَي التراث العربي الإسلامي وفكر عصر النهضة».

المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري (الشرق الأوسط)

الأنصاري وابن خلدون

كتبُه تكشف عن مشروع فكري عربي، فقد كتب عن «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930-1970»، و«العالم والعرب سنة 2000»، و«لمحات من الخليج العربي»، و«الحساسية المغربية والثقافة المشرقية»، و«التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق»، و«تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، و«رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية وشواغل الفكر بين الإسلام والعصر».

كما أصدر كتاباً بعنوان «انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية»، و«الفكر العربي وصراع الأضداد»، و«التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، لماذا يخشى الإسلاميون علم الاجتماع»، وكذلك «التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، مكونات الحالة المزمنة»، وكتاب «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية: مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي»، وكتابه المهمّ «العرب والسياسة: أين الخلل؟ جذر العطل العميق»، وكتاب «مساءلة الهزيمة، جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية»، وكتابه «الناصرية بمنظور نقدي، أي دروس للمستقبل؟»، وكتاب «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل».

وعند المرور بابن خلدون، تجدر الإشارة إلى أن الدكتور الأنصاري كان أحد أهم الدارسين لتراث ابن خلدون ومتأثراً به إلى حد لا يخلو من مبالغة، وهو القائل في كتابه «لقاء التاريخ بالعصر»: «كل عربي لن يتجاوز مرحلة الأمية الحضارية المتعلقة بجوهر فهمه لحقيقة أمته... إلا بعد أن يقرأ مراراً مقدمة ابن خلدون! (ص 63)».

في هذا الكتاب، كما في كتاب «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، يستعيد الأنصاري فكر ابن خلدون داعياً لتحويله إلى منهج للمثقفين العرب، مركّزاً بنحو خاص على تميّز ابن خلدون في الدعوة لثقافة نثر تتجاوز لغة الشعر، داعياً لإيجاد نثر عقلاني يتجاوز مفهوم الخطابة.

ويقول في كتابه «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»: «مطلوب - إذن - علم اجتماع عربي إسلامي مستمد من واقع تاريخنا؛ لفهم التاريخ ومحاولة إعادته للخط السليم... ومطلوب قبل ذلك شجاعة الكشف عن حقيقة الذات الجماعية العربية في واقعها التاريخي الاجتماعي بلا رتوش... بلا مكياج... بلا أقنعة... وبلا أوهام تعظيمية للذات».

كتابه «لقاء التاريخ بالعصر، دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل» طبعة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، رغم حجمه الصغير (120 صفحة) وكونه عبارة عن مجموعة مقالات جمعها المؤلف، لكنه يقدم صورة نقدية تدعو لتحرر الرؤية من الماضي وتأسيس ثقافة عربية تعتمد منهج ابن خلدون في مقاربته للتاريخ، وخاصة تجاوزه «الفهم الرومانسي العجائبي، الذي ما زال يطبع العقلية العربية»، هذه المقاربة توضح أن «إطار العقلية الخلدونية يعني اكتساب قدرة أفضل على فهم العالم الجديد، الذي لم يتكيف العرب معه بعد، فما زالوا يتعاملون، كارثياً، مع واقع العالم شعراً»، وهي «دعوة إلى إعادة التوازن في ثقافتنا بين الوجدان والعقل، حيث لم تعدم العربية نثراً فكرياً راقياً تعد (مقدمة ابن خلدون) من أبرز نماذجه، إلى جانب كتابات الجاحظ والتوحيدي والفارابي وابن طفيل وابن حزم».

سيرة

وُلد الأنصاري، في البحرين عام 1939؛ درس في الجامعة الأمريكية ببيروت وحصل فيها على درجة البكالوريوس في الأدب العربي عام 1963، ودبلوم في التربية عام 1963، وماجستير في الأدب الأندلسي عام 1966، ودكتوراه في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر سنة 1979. كما حضر دورة الدراسات العليا في جامعة كامبريدج عام 1971، وحصل على شهادة في الثقافة واللغة الفرنسية من جامعة السوربون الفرنسية سنة 1982.

في عام 2019، داهمه المرض العضال الذي منعه من مواصلة إنتاجه الفكري، ليرحل، اليوم، بعد مسيرة عامرة بالعطاء، وزاخرة بالدراسات المهمة التي أثرى بها المكتبة العربية.