فارس يواكيم يُعرّب «عيون إلزا» ويقرأ مقاصد العاشق لويس أراغون

ترجمة جديدة استحقت نصف قرن

أراغون وإلزا
أراغون وإلزا
TT

فارس يواكيم يُعرّب «عيون إلزا» ويقرأ مقاصد العاشق لويس أراغون

أراغون وإلزا
أراغون وإلزا

أول ما يتبادر إلى الذهن عندما تقع عيناك على كتاب معرّب، وله سابق ترجمة، هو: ما جدوى الجهد المبذول لمرة جديدة؟ هذا أول ما تطرحه على نفسك، حين تمسك بديوان «عيون إلزا» للشاعر الفرنسي الشهير لويس أراغون، وهو يصدر طازجاً بقلم فارس يواكيم، عن «دار أطلس للنشر والتوزيع» في دمشق.

تسارع إلى القراءة لترى أهم ما أضاف، وما حذف، لتكتشف أنه جاء من الديوان بنسخة عربية جديدة، أهم ما فيها سلاسة اللغة، وجمالية الموسيقى والإيقاع، وتلك الدقة في متابعة وشرح الكلمات التي يصعب على القارئ معرفة خلفياتها. أضف إلى ذلك، المقدمة الوافية، وشروحات تتصدر غالبية القصائد، واضعة القارئ في أجواء الأبيات، ومناسبتها، مع إيضاح لأهم عناصرها، هذا عدا الهوامش. كل ذلك يجعل القارئ العربي ليس فقط مستمتعاً بقراءة قصائد منسابة، لكنه أيضاً يجعله مكتسباً زاداً تاريخياً مهمّاً، حول الظروف السياسية التي كانت تعيشها فرنسا، في ذلك الوقت، والحالة الشعورية العصيبة لصاحب الديوان، الذي أكثر ما يعرف عنه بين قراء العربية هو عشقه لإلزا تريوليه، تلك المرأة التي كتب فيها قصائده، واقترن اسمها بعناوين أربعة من دواوينه: «عيون إلسا»، و«إلسا»، و«ما كانت باريس لولا إلسا»، و«مجنون إلسا». وليس غريباً بعد ذلك أن يُعرف أراغون بـ«مجنون إلسا»، وتَنصبُّ غالبية الكتابات على تمجيد هذا الحب الخالد الذي يستحق أن يُسال من أجله كثير من الحبر.

لكنَّ فارس يواكيم في ترجمته لـ«عيون إلزا» من خلال مقدمته والشروحات، لا يميل إلى اعتبار أراغون شاعر حب وعشق وغزل، بقدر ما يُظهر روحه الوطنية المناضلة، المستبسلة في سبيل حرية فرنسا. ويقول يواكيم لـ«الشرق الأوسط»: «غير صحيح أنه كان شاعر حب وغزل أولاً. لقد عاش أراغون مناضلاً انضم إلى الحزب الشيوعي عام 1927، وبقي فيه فاعلاً، ملتزماً، ومنتمياً كعضو في الحزب لغاية وفاته. علماً بأن عديداً من زملائه الشيوعيين، كانوا قد انسحبوا، في تلك الفترة على اعتبار أن ستالين كان ديكتاتوراً، وهو ما لا يتناسب مع توجهاتهم. بعد سنة من انخراطه في الحزب التقى إلزا، ونشأت بينهما صداقة فعلاقة حب، فزواج عام 1939. «واحدة من ميزات أراغون الأدبية، هو أنه استطاع أن يستفيد من الغزل الذي يحبه الناس، ليمزجه بروح المقاومة، ويجعلها قريبة من الذائقة العامة، وهذا نلحظه في كثير من قصائده»، حسبما يقول يواكيم. فغاية أراغون، على ما يشرح نفسه، أن يكون شاعر الشعب وليس شاعر النخبة، ولربما ليس أفضل من الغزل للوصول إلى قلوب الجماهير، ليتمكن من تحميسهم للحاق بركب المقاومة، وطرد المحتلين.

عاش لويس أراغون خمسة وثمانين عاماً (1897 - 1982)، إضافةً إلى كونه شاعراً مبدعاً وناقداً وقاصّاً وصحافياً، كان مناضلاً وصاحب مواقف ومبادئ، وهو ما يُظهره الديوان بوضوح، ويركزّ عليه المترجم في شروحاته الجليلة.

بعد زواجه من إلزا نشبت الحرب العالمية الثانية، وانخرط أراغون مقاتلاً متطوعاً ومحارباً ضد النازية، وقد اعتُقل وسُجن ولاذَ بالفرار وأمضى النصف الثاني من سنوات الحرب في جنوب فرنسا، حيث استولت حكومة فيشي على الشمال، والمقاومة الشعبية على جنوب البلاد.

وشاءت الظروف قبل ذلك أن يقاتِل كمجند في الجيش الفرنسي، وكان لا يزال في السابعة عشرة من العمر، خلال الحرب العالمية الأولى. «لقد كان منخرطاً كعسكري، خاض الحروب من أجل تحرير بلاده. ومن الظلم أن نتجاهل كل هذا التاريخ، والقتال في ساحات المعارك، والتضحية بالنفس، ونعدّه مجرد عاشق إلزا». يضيف يواكيم: «إن شعر أراغون فيه حب فظيع لفرنسا، وكمٌّ هائل من الوطنية، وحسٌّ عالٍ بالتضحية والإباء».

شاعر وطني ملتزم الفكر اليساري، اتخذ من الحب ركيزة جميلة ليدخل إلى هدفه الأساسي، وهو مقاومة المحتل النازي. ومما هو معروف عنه كحزبيّ أنه كان يحرص سنوياً على أن يكون حاضراً في عيد الحزب الشيوعي السنوي الكبير، الذي يقام في باريس، ويجمع اليساريين، وذلك كنوع من الدعم الشخصي من أراغون للحزب.

ديوان «عيون إلزا» أو «عينا إليزا» أو «إلسا» كما يكتبها البعض، سبق وتُرجم بعض قصائده متفرقةً إلى العربية، أما ترجمته الكاملة فقد قام بها شاعر العامية المصري فؤاد حداد، ولا توجد ترجمة أخرى. لكنَّ التعريب لم يرُقْ لفارس يواكيم، حين اطلع عليه، لذلك لم يتردد في أن يُقبل على ترجمة جديدة بكل ما أوتي من حماسة. فهو يرى أن حدّاد «وقع في مطبات كثيرة، ووقف في أحيان عدة عند المعنى الأول أكثر مما اهتم بالمجاز، مع أنه شاعر رائع، ويجيد الفرنسية بشكل ممتاز».

وبالفعل بالمقارنة بين الترجمتين، تشعر كم أن ما وضعه حدّاد قد ضيّع كل شعرية وانسيابية في شعر أراغون، حتى إنك تفقد الرغبة في استكمال القراءة. ثمة معانٍ غامضة وغير مفهومة، وأخرى تُرجمت حرفياً، وفقدت أي رابط بما قبلها أو بعدها. فيما حرص يواكيم، رغم أنه تخلى عن الوزن في ترجمته، على سلاسة، وشاعرية، وموسيقى داخلية عذبة. وازن يواكيم بشكل لافت بين المعنى البسيط والواضح الذي يحترم الأصل والأسلوب العذب الدفاق الذي لا يعكّر ذهن القارئ ويربكه، وهذا يُكتب له. فليس شائعاً أن تقع على ترجمة شعرية عربية فيها هذا الكم من احترام المعنى الأصلي مع الحرص على إبقاء الشعرية نابضة في القصائد.

في أثناء حديثنا معه، يعطي فارس يواكيم أمثلة عدة، على السقطات التي وقع فيها حداد، من بينها أنه ترجم تعبير «رأس عصفور» بالفرنسية حرفياً، مما جعل الجملة تفقد معناها، مع أنه تعبير معروف لدى الفرنسيين يعني «الطائش» أو «الهائج». هذا عدا أن حداد لم يصدّر ترجمته بمقدمة توضح رؤيته للديوان، وهناك قصيدة تركها بلا عنوان، وثمة أخطاء لغوية، كان يمكن تلافيها بسهولة، بمراجعة النص.

يُعيد يواكيم بعض الأخطاء التي ارتُكبت إلى خيار فؤاد حداد أن يُعرّب الديوان كله على التفعيلة. هذا ضَيَّق أمامه خيارات الترجمة. ففي إحدى القصائد ترجم (النبيذ الأبيض) بأنه (نبيذ أحمر) مع أنه غير مضطر إلى ذلك. وفي أحد المواقع استخدم عبارة (قبعات مثل الأرز) متأثراً بعبارة (زي الرز) المصرية التي تعني الكثرة، فيما ارتأى يواكيم أثناء ترجمته أن يبسّط الأمر ويلجأ لعبارة (قبعات لا حصر لها) للدلالة على كثرتها. هذا عدا أن الترجمة لم تلقَ العناية الكافية بعد الطباعة وقبل النشر، ولم تخضع للتدقيق اللازم.

تستغرب حين تعرف أن فارس يواكيم الذي أصدر عديداً من الكتب في السنوات الأخيرة، كان قد عكف على ترجمة ديوان «عيون إلزا» عام 1976، أي بعد عام واحد على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. ترجمه حينها ووضعه جانباً، وهو لا يزال ينقّحه إلى أن وصل إلى الصيغة التي بين أيدينا اليوم. ويحتفظ اليوم بالدفتر الأول الذي سجل عليه ترجماته، وعليه التعديلات والتبديلات التي كانت تطرأ تباعاً، كلما اختمرت.

يكاد يكون نصف قرن قد مرّ على بدء الترجمة. أيُّ صبر؟ وأيُّ انتظار؟ هل يغيِّر الكثيرَ مرورُ زمن يساوي عقوداً على نص؟

تستغرب حين تعرف أن فارس يواكيم الذي أصدر عديداً من الكتب في السنوات الأخيرة، كان قد عكف على ترجمة ديوان «عيون إلزا» عام 1976 أي بعد عام واحد على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية

يروي لنا يواكيم أنه حار طويلاً كيف يترجم مطلع القصيدة الأولى في الديوان. في البدء ترجمها «عيناك عميقتان جداً». احتاج الأمر إلى تأمل طويل ليقرر أن يجعلها «عيناك ما أعمقهما» ويكمل: «حين انحنيت لأشرب، رأيت فيهما الشموس جميعاً جاءت تتمرى، وكل اليائسين يرتمون فيها منتحرين. عيناك ما أعمقهما... فيهما أفقد الذاكرة». تحرّره من التفعيلة سمح له بالتحرك في المفردات والجمل، ومنحه حرية.

يضرب يواكيم مثلاً قصيدة «البحيرة» للشاعر الفرنسي لامارتين. يقول إن نقولا فياض عرَّبها على أنها شعر عمودي ونجح أيّما نجاح، حتى كاد ما كتبه بالعربية يضاهي جمال نص لامارتين بالفرنسية، وذلك لأنه وجد مخرجاً ليمنح نفسه حيوية الحركة اللغوية، حين قال إنه ترجم القصيدة بتصرف.

كُتب عديدة لفارس يواكيم، كان قد تركها سنوات طوال لتختمر، بينها أنطولوجيا لقصائد ألمانية مترجمة إلى العربية، من لسينغ إلى بريخت، ستبصر النور قريباً. واللطيف أن يواكيم الذي كتب في مختلف الأصناف الأدبية، من المسرحية إلى السيناريو، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، لم يكتب الشعر، ومع ذلك كانت له جرأة ترجمة كبار الشعراء، وها هو يُصدر ديواناً للويس أراغون، ومن بعده سنقرأ له قصائد لكبار الشعر الألماني.


مقالات ذات صلة

نعوم تشومسكي... عدة شخصيات تحمل اسماً واحداً

ثقافة وفنون تشومسكي

نعوم تشومسكي... عدة شخصيات تحمل اسماً واحداً

قُوبلت الأنباء التي تم تداولها عن نقل البروفيسور إفرام نعوم تشومسكي إلى المستشفى في ساوباولو (البرازيل)، بينما كان يتعافى من إصابته بجلطة دماغيّة شديدة ....

ندى حطيط
ثقافة وفنون أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

لم أحسب، وأنا أقلب الصفحات الأولى من رواية ليلى المطوّع «المنسيون بين ماءيْن»، أنني سأقضي أياماً حافلةً بالدهشة والمتعة والذهول، وأنا مأسور بهذا الكتاب.

أمين صالح
ثقافة وفنون غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في  العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"

تجليات الحب العذري في حياة الجاهليين وأشعارهم

إذا كانت ظاهرة الحب العذري في الحقبتين الراشدية والأموية قد أثارت الكثير من اللبس والغبار النقدي في أوساط الباحثين وأهل الاختصاص، فإن هذَين اللبس والغبار .....

شوقي بزيع
ثقافة وفنون ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين

شواهد قبور أنثوية من البحرين

كشفت حملات التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن فن جنائزي عريق يتجلّى بنوع خاص في شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون قصص من بلاد سومر

قصص من بلاد سومر

صدر حديثاً عن منشورات «رامينا» بلندن كتاب «مدن الكلمات الصادقة» للقاصّ السوريّ عبد الرزّاق دحنون الذي يروي فيه قصصاً من بلاد سومر.

«الشرق الأوسط» (لندن)

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن
TT

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

لم أحسب، وأنا أقلب الصفحات الأولى من رواية ليلى المطوّع «المنسيون بين ماءيْن»، الصادرة عن «دار رشم» للنشر والتوزيع (2024 )، أنني سأقضي أياماً حافلةً بالدهشة والمتعة والذهول، وأنا مأسور بهذا الكتاب، بصفحاته الـ430، وهو الأسر الذي لا يشتهي المرء التحرّر منه... تماماً كالحب، كالصداقة، كالكتابة.

لم أحسب ذلك لأن ليلى المطوّع كاتبة بحرينية تنتمي إلى الجيل الجديد من كتّاب الرواية الذين ما زالوا يتحسسون طريق الإبداع للوصول إلى موضع التميّز والفرادة. لقد سبق للكاتبة أن أصدرت روايتها الأولى والوحيدة «قلبي ليس للبيع» في عام 2012 ثم توقفت سنوات عن الكتابة.

إزاء الكتابات الشابة، يتوقع المرء أن يقرأ عملاً عادياً أو جيداً، لكن أحياناً يأتي عمل شاب ويخرّب بقوة وفاعلية مثل هذا التوقّع الأرعن. هذا ما حدث لي وأنا أحسب أنني سأقرأ عملاً عادياً لأتفاجأ بوقوعي في شرَك (وهو شرك جميل وفاتن) نصٍ قوي، ناضج، مدهش، سوف يأسرني أياماً وأنا أنتقل من صفحة إلى أخرى، من شخصية إلى أخرى، من حدث إلى آخر، من صورة بديعة إلى أخرى لا تقل عنها فتنةً.

كيف نجحت ليلى المطوّع في فعل ذلك، في أن تجعل ساعات القراءة متخمةً بما هو آسر ومذهل، في انتزاعي من بلادة اليقين وقذفي في لجّ السؤال والغموض.

مونتاج بارع

الكاتبة هنا تتقن ببراعة عملية التلاعب بالقارئ، ليس بالمفهوم السلبي، لكن بالمعنى الدقيق للإثارة والتشويق. هي لا تسرد الحدث كحكاية تقليدية ذات بداية ووسط ونهاية، بل تلجأ إلى تقطيع الحدث وبعثرته، عبر مونتاج بارع، لكي يتولى القارئ بنفسه تركيب أجزاء الحكاية وتوصيلها، واستنباط المغزى والمعنى. وهي لا تعتمد البناء السردي التقليدي، وإنما تلجأ إلى التشظي والانتقالات المفاجئة، معتمدةً - كمراجع ومصادر - على كمٍّ هائل من الوثائق والكتب التاريخية والأساطير القديمة والحكايات والمعتقدات الشعبية والمقابلات المعاصرة والدراسات في علم البيئة والإنسان والميثولوجيا.

بين الوثائقي والسردي، الواقعي والتاريخي أو الأسطوري، اليومي والسحري، العادي والشعائري، العقلاني والغيبي، التقريري والغرائبي، المباشر والمتخيّل، تنقلنا الكاتبة، بمهارة وبراعة، من موضع إلى آخر، فتأخذنا إلى البعيد القديم ثم تعيدنا إلى الحاضر القريب، لتأخذنا ثانيةً... هكذا ذهاباً وإياباً، وتدعنا نتأرجح بين الأزمنة، بين الماضي والحاضر، مأخوذين باللغة الجميلة والسلسة، بالصور النابضة الحيّة، بالسرد الشيّق، بالوصف الباهر، بالانتقالات الرشيقة، بالمخيّلة الخصبة، بالحساسية الشعرية العالية.

بفعل ذلك، الكاتبة لا تدع القارئ في وضع الاسترخاء والاطمئنان، والثقة بقدراته الخاصة في التقييم والتحليل والحكم، بل تربك مسلّماته وترجّ ما استقر عليه من فهم وإدراك، ليجد نفسه مرغماً على استجواب أفكاره ومفاهيمه وتصوراته بشأن رؤيته للتاريخ والماضي، ولعلاقة الإنسان ببيئته ومحيطه وعالمه، ولدور المعتقدات في تشكيل وعيه.

والكاتبة لا تكتفي بهذا وإنما تمعن في إثارة القارئ وتحفيزه، واقتحام المواضع المستقرة في وعيه وإدراكه بما يستفزّه ويحثّه على البحث والمساءلة والجدل، إذ كلما ظن أنه اكتفى ورأى ما يكفي ليستوعب، فاجأته بما هو أكثر إثارةً وغموضاً.

وأنت تقرأ من الأفضل أن تؤجل البحث عن أجوبة لأسئلتك الوفيرة، وأن تكبح رغبتك المعتادة في فك شفرات النص والحفر في الرموز والمجازات، حتى تنتهي من قراءة الكتاب كله. بين الصفحة والأخرى يمكنك أن تتوقف قليلاً وتتأمل في ما قرأت، ثم تواصل. لكن تجنّب إطلاق الأحكام السريعة، التي تعتقد أنها ذكية وحاسمة، بشأن ما تقرأه في كل صفحة. ثق بالكاتبة، ستكون دليلك الأمين. سرْ معها على مهل وبرويّة. من دونها تضيع. ستأخذك في رحلة طويلة إلى أقاليم لم ترها ولم تختبرها من قبل، وسوف تتمنى ألا تنتهي هذه الرحلة.

ستأخذك الرواية إلى عوالم بعيدة وأخرى قريبة عبْر ذاكرة المكان، ذاكرة الماء، ذاكرة النوارس، ذاكرة بشر يتأرجحون بين حاضر يتآكل وماضٍ يزداد غموضاً.

سوف ترتاد مناطق يحرص سكانها على قراءة البحر والريح والنجوم والنخيل، وسوف يطلبون منك أن تتبع الماء والشمس والطيور والأسماك... حتى تصل ولا تضيع، حتى يكتشف الأشخاص ذواتهم، هوياتهم.

حضور مائي طاغ ومقدس

طوال الرحلة سيكون البحر حاضراً بكل تناقضاته وصوره المتباينة المتنوعة. بكل وداعته وجبروته، طيبته ووحشيته، كرمه وجشعه، حنانه وغدره.

وللماء، في الرواية، حضوره المتعدّد والكلّي.. وله قدسيته «لا تطأ الماء إلا بنيّة صافية». مياه عذبة ومياه مالحة.. يلتقيان لكن لا يختلطان.

وأنت تقرأ، تحس بالماء يحيط بك، يتحسسك، يغمر حواسك، يدخل فيك، من فمك وأنفك وأذنيك، لكنه لا يغرقك مثلما يفعل مع من يقطن النص. الماء في كل مكان. تسمع، وأنت تقرأ، خريره، انسيابه، ارتطامه الوديع بك.

لكن الماء يعاقب أيضاً. إنه يجلد من يرتكب إثماً أو خطيئة. يخطف، يخنق.

البحر لا أمان له. يلبس جلد الأرض ليخدع البشر ويبتلعهم، ثم يخلع الجلد. أحياناً يتداخل الكائن والبحر، يتمازجان، يتحدان. وأحياناً يتحوّل الكائن إلى شبيه، أو إلى آخر. وقد يصبح مسخاً.

طوال الرواية نشهد الصراع العنيف بين عناصر تعايشت لآلاف السنين حتى وقع الشر وحدث الشقاق نتيجة جشع وجهل وقسوة قوى خارجية، دخيلة. صراع بين بحر يدافع عن وجوده بعد أن تمت محاصرته وتطويقه، ثم خنقه بالرمال عبْر الردم والدفن، حيث تسبّب ذلك في جفاف العيون والينابيع، وموت الشجر، وهجرة الطيور.. وأرض، يابسة، تريد التوسّع أكثر، لإقامة المشاريع العمرانية والطرق العامة، فتقرض البحر جزءاً جزءاً حتى تدفنه.

عنف وقرابين

العنف ملمح بارز في الرواية. يمارسه الإنسان في دفاعه عن نفسه وأهله وموطنه، وفي محاولته للامتلاك ملبياً غريزة الجشع والشهوة والجوع والحاجة والسلطة. وتمارسه الطبيعة عندما تغضب وتهيج ويتلاعب بها الناس.

الرواية حافلة بالقرابين، الأضاحي، البشرية والحيوانية والنباتية... وفي كل قربان عنف... بصورة أو بأخرى.

ثمة شخوص تظهر وتختفي، بعد أن تترك أثراً غائراً في متن النص، وفي وعي القارئ وذاكرته. إذ حتى في غيابها تظل حاضرة. ولكل شخصية سماتها المتميزة، أبعادها الخاصة، همومها، طموحها، أسرارها:

ناديا هي الشخصية المحورية، المعاصرة، التي تمسك بكل الخيوط، بالشخوص والأحداث. إنها تشهد حوادث عديدة مبهمة ولا تفسير لها. وهي تسعى إلى الكشف عن غموض الظواهر الغريبة التي تحدث من حولها. تبحث في أوراق جدها، وجدتها التي كانت متيّمة بالنخيل والينابيع، ودافعت بشراسة عن حق البحر في الوجود. ناديا ممسوسة بفكرة من سيكتب سيرة الماء. يوماً ما تنفجر فجأة العيون والينابيع في الجزيرة، ويختفي الأطفال، ومن بينهم ابنتها.

سليمة الحبلى، الثكلى بعد تقديم ابنتها الصغيرة، الوحيدة، قرباناً لنبع ماء آخذ في الزوال، وبعد مقتل زوجها بوحشية على يد الوالي. إنها تلاحق شخصاً معيّناً من أشراف أهل الجزيرة وأشجعهم وأشعرهم، هو طرفة بن العبد. من أجل أن يرى جنينها النور ولا يموت مثل بقية أولادها، يتوجب عليها أن تنتظر مقتل طرفة، فتقفز على جسده المحتضر يميناً ويساراً حتى تتبارك بآخر أنفاسه. وهذا ما يحدث بالفعل، لكن الوالي يأمر بقتلها فتهرب، ولكي تنجو عليها أن تتبع الماء.

إيا ناصر، البذرة الطالعة من رحم ما يعدّه المعبد خطيئة، فيحكمون على أبيه بالموت غرقاً، وتنتحر أمه حزناً. رضع إيا من ثدي امرأة مسكونة بالأرواح وتعيش مثل البهيمة. يكبر ويبرع في نقش الأختام. يرسله المعبد مع آخرين في بعثة للدراسة. أثناء الرحلة يقتل تلميذاً، وصديقه يتحوّل إلى وحش بحري. عندما يختارون حبيبته لتكون قرباناً، يحاول إنقاذها فيعصي بذلك تعاليم المعبد.

إزاء الكتابات الشابة يتوقع المرء أن يقرأ عملاً عادياً أو جيداً لكن أحياناً يأتي عملٌ ويخرّب بقوة وفاعلية مثل هذا التوقّع

تأرجح بين المتناقضات

في حكاية أخرى، نجد مراهقاً يعشق امرأة ليكتشف أنها مجرد نبع يتجسد في هيئة امرأة جميلة تختطف الرجال والأطفال. هي تبادله العشق وتريد امتلاكه. عندما توشك على ابتلاعه، يتخلص منها. يتزوج ابنة عمه. هي تتمكن من اختطاف ابنه. ينتقم منها بدفن العين، بخنقها. غير أنها تنطلق من أسرها وتأخذه معها إلى باطن الأرض، في عناق طويل وأبدي.

يعقوب، الطويل والقوي، يكرّس نفسه للآلهة. يعمل في الدير خادماً للرب. طموحه أن يتقدّس ويسير على الماء. يعشق امرأة وهبت نفسها للدير، فقد جاءت إلى هنا لتكفّر عن ذنبها، إذ أغرقت أبناءها الصغار في البحر نذراً له. هي تبادل يعقوب العشق. تحبل منه. وعندما يحين المخاض لا تجد القابلة في الرحم غير الماء. فيما يعومان ليلاً، يغافله البحر ويغرقها. يغضب يعقوب ويمارس شعائر طرد البحر. عقاباً له على فعلته، يدفنونه في الرمل لكي يغرقه البحر.

درويش، البارع في نقش أبيات الشعر والآيات على الحجر والأجساد والجدران وشواهد القبور، لا يشعر بالانتماء إلى المكان والناس. يسمونه عاشق أو عابد الحجر. في النهاية يذهب صاغراً إلى البحر ليبتلعه.

ومع مهنا ننتقل إلى فترة الغوص. هو ابن غواص. ينتزعه النوخذة وهو صغير من أمه ليسدّد ديون أبيه، الذي تسبب النوخذة في موته. يكبر مهنا ويصير غواصاً. في هذا الفصل، تكشف الكاتبة عن معرفة غزيرة وعميقة بعالم البحر، في مستوييه السطحي والعمقي. في الواقع، نلمس هذه المعرفة العميقة في كل فصول الكتاب.

نلاحظ أن أغلب الشخوص تتأرجح بين البراءة والخطيئة، الخوف والجسارة، العفة والشبق، الوداعة والعنف، المقدّس والمدنّس، الولادة والموت.

تنتهي الرواية برؤيا غريبة، مخيفة، إذ يتحوّل سكان الجزر إلى بحر.. بالأحرى، إلى موجة واحدة عالية تلتهم كل شيء.

بهذا النص الفاتن، تخلق ليلى المطوّع أسطورتها الخاصة، معلنةً بثقة أنها واحدة من أهم كتّاب الرواية العربية.

* كاتب وناقد بحريني