أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

ليلى المطوع تربك مسلمات القارئ في روايتها الجديدة

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن
TT

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

لم أحسب، وأنا أقلب الصفحات الأولى من رواية ليلى المطوّع «المنسيون بين ماءيْن»، الصادرة عن «دار رشم» للنشر والتوزيع (2024 )، أنني سأقضي أياماً حافلةً بالدهشة والمتعة والذهول، وأنا مأسور بهذا الكتاب، بصفحاته الـ430، وهو الأسر الذي لا يشتهي المرء التحرّر منه... تماماً كالحب، كالصداقة، كالكتابة.

لم أحسب ذلك لأن ليلى المطوّع كاتبة بحرينية تنتمي إلى الجيل الجديد من كتّاب الرواية الذين ما زالوا يتحسسون طريق الإبداع للوصول إلى موضع التميّز والفرادة. لقد سبق للكاتبة أن أصدرت روايتها الأولى والوحيدة «قلبي ليس للبيع» في عام 2012 ثم توقفت سنوات عن الكتابة.

إزاء الكتابات الشابة، يتوقع المرء أن يقرأ عملاً عادياً أو جيداً، لكن أحياناً يأتي عمل شاب ويخرّب بقوة وفاعلية مثل هذا التوقّع الأرعن. هذا ما حدث لي وأنا أحسب أنني سأقرأ عملاً عادياً لأتفاجأ بوقوعي في شرَك (وهو شرك جميل وفاتن) نصٍ قوي، ناضج، مدهش، سوف يأسرني أياماً وأنا أنتقل من صفحة إلى أخرى، من شخصية إلى أخرى، من حدث إلى آخر، من صورة بديعة إلى أخرى لا تقل عنها فتنةً.

كيف نجحت ليلى المطوّع في فعل ذلك، في أن تجعل ساعات القراءة متخمةً بما هو آسر ومذهل، في انتزاعي من بلادة اليقين وقذفي في لجّ السؤال والغموض.

مونتاج بارع

الكاتبة هنا تتقن ببراعة عملية التلاعب بالقارئ، ليس بالمفهوم السلبي، لكن بالمعنى الدقيق للإثارة والتشويق. هي لا تسرد الحدث كحكاية تقليدية ذات بداية ووسط ونهاية، بل تلجأ إلى تقطيع الحدث وبعثرته، عبر مونتاج بارع، لكي يتولى القارئ بنفسه تركيب أجزاء الحكاية وتوصيلها، واستنباط المغزى والمعنى. وهي لا تعتمد البناء السردي التقليدي، وإنما تلجأ إلى التشظي والانتقالات المفاجئة، معتمدةً - كمراجع ومصادر - على كمٍّ هائل من الوثائق والكتب التاريخية والأساطير القديمة والحكايات والمعتقدات الشعبية والمقابلات المعاصرة والدراسات في علم البيئة والإنسان والميثولوجيا.

بين الوثائقي والسردي، الواقعي والتاريخي أو الأسطوري، اليومي والسحري، العادي والشعائري، العقلاني والغيبي، التقريري والغرائبي، المباشر والمتخيّل، تنقلنا الكاتبة، بمهارة وبراعة، من موضع إلى آخر، فتأخذنا إلى البعيد القديم ثم تعيدنا إلى الحاضر القريب، لتأخذنا ثانيةً... هكذا ذهاباً وإياباً، وتدعنا نتأرجح بين الأزمنة، بين الماضي والحاضر، مأخوذين باللغة الجميلة والسلسة، بالصور النابضة الحيّة، بالسرد الشيّق، بالوصف الباهر، بالانتقالات الرشيقة، بالمخيّلة الخصبة، بالحساسية الشعرية العالية.

بفعل ذلك، الكاتبة لا تدع القارئ في وضع الاسترخاء والاطمئنان، والثقة بقدراته الخاصة في التقييم والتحليل والحكم، بل تربك مسلّماته وترجّ ما استقر عليه من فهم وإدراك، ليجد نفسه مرغماً على استجواب أفكاره ومفاهيمه وتصوراته بشأن رؤيته للتاريخ والماضي، ولعلاقة الإنسان ببيئته ومحيطه وعالمه، ولدور المعتقدات في تشكيل وعيه.

والكاتبة لا تكتفي بهذا وإنما تمعن في إثارة القارئ وتحفيزه، واقتحام المواضع المستقرة في وعيه وإدراكه بما يستفزّه ويحثّه على البحث والمساءلة والجدل، إذ كلما ظن أنه اكتفى ورأى ما يكفي ليستوعب، فاجأته بما هو أكثر إثارةً وغموضاً.

وأنت تقرأ من الأفضل أن تؤجل البحث عن أجوبة لأسئلتك الوفيرة، وأن تكبح رغبتك المعتادة في فك شفرات النص والحفر في الرموز والمجازات، حتى تنتهي من قراءة الكتاب كله. بين الصفحة والأخرى يمكنك أن تتوقف قليلاً وتتأمل في ما قرأت، ثم تواصل. لكن تجنّب إطلاق الأحكام السريعة، التي تعتقد أنها ذكية وحاسمة، بشأن ما تقرأه في كل صفحة. ثق بالكاتبة، ستكون دليلك الأمين. سرْ معها على مهل وبرويّة. من دونها تضيع. ستأخذك في رحلة طويلة إلى أقاليم لم ترها ولم تختبرها من قبل، وسوف تتمنى ألا تنتهي هذه الرحلة.

ستأخذك الرواية إلى عوالم بعيدة وأخرى قريبة عبْر ذاكرة المكان، ذاكرة الماء، ذاكرة النوارس، ذاكرة بشر يتأرجحون بين حاضر يتآكل وماضٍ يزداد غموضاً.

سوف ترتاد مناطق يحرص سكانها على قراءة البحر والريح والنجوم والنخيل، وسوف يطلبون منك أن تتبع الماء والشمس والطيور والأسماك... حتى تصل ولا تضيع، حتى يكتشف الأشخاص ذواتهم، هوياتهم.

حضور مائي طاغ ومقدس

طوال الرحلة سيكون البحر حاضراً بكل تناقضاته وصوره المتباينة المتنوعة. بكل وداعته وجبروته، طيبته ووحشيته، كرمه وجشعه، حنانه وغدره.

وللماء، في الرواية، حضوره المتعدّد والكلّي.. وله قدسيته «لا تطأ الماء إلا بنيّة صافية». مياه عذبة ومياه مالحة.. يلتقيان لكن لا يختلطان.

وأنت تقرأ، تحس بالماء يحيط بك، يتحسسك، يغمر حواسك، يدخل فيك، من فمك وأنفك وأذنيك، لكنه لا يغرقك مثلما يفعل مع من يقطن النص. الماء في كل مكان. تسمع، وأنت تقرأ، خريره، انسيابه، ارتطامه الوديع بك.

لكن الماء يعاقب أيضاً. إنه يجلد من يرتكب إثماً أو خطيئة. يخطف، يخنق.

البحر لا أمان له. يلبس جلد الأرض ليخدع البشر ويبتلعهم، ثم يخلع الجلد. أحياناً يتداخل الكائن والبحر، يتمازجان، يتحدان. وأحياناً يتحوّل الكائن إلى شبيه، أو إلى آخر. وقد يصبح مسخاً.

طوال الرواية نشهد الصراع العنيف بين عناصر تعايشت لآلاف السنين حتى وقع الشر وحدث الشقاق نتيجة جشع وجهل وقسوة قوى خارجية، دخيلة. صراع بين بحر يدافع عن وجوده بعد أن تمت محاصرته وتطويقه، ثم خنقه بالرمال عبْر الردم والدفن، حيث تسبّب ذلك في جفاف العيون والينابيع، وموت الشجر، وهجرة الطيور.. وأرض، يابسة، تريد التوسّع أكثر، لإقامة المشاريع العمرانية والطرق العامة، فتقرض البحر جزءاً جزءاً حتى تدفنه.

عنف وقرابين

العنف ملمح بارز في الرواية. يمارسه الإنسان في دفاعه عن نفسه وأهله وموطنه، وفي محاولته للامتلاك ملبياً غريزة الجشع والشهوة والجوع والحاجة والسلطة. وتمارسه الطبيعة عندما تغضب وتهيج ويتلاعب بها الناس.

الرواية حافلة بالقرابين، الأضاحي، البشرية والحيوانية والنباتية... وفي كل قربان عنف... بصورة أو بأخرى.

ثمة شخوص تظهر وتختفي، بعد أن تترك أثراً غائراً في متن النص، وفي وعي القارئ وذاكرته. إذ حتى في غيابها تظل حاضرة. ولكل شخصية سماتها المتميزة، أبعادها الخاصة، همومها، طموحها، أسرارها:

ناديا هي الشخصية المحورية، المعاصرة، التي تمسك بكل الخيوط، بالشخوص والأحداث. إنها تشهد حوادث عديدة مبهمة ولا تفسير لها. وهي تسعى إلى الكشف عن غموض الظواهر الغريبة التي تحدث من حولها. تبحث في أوراق جدها، وجدتها التي كانت متيّمة بالنخيل والينابيع، ودافعت بشراسة عن حق البحر في الوجود. ناديا ممسوسة بفكرة من سيكتب سيرة الماء. يوماً ما تنفجر فجأة العيون والينابيع في الجزيرة، ويختفي الأطفال، ومن بينهم ابنتها.

سليمة الحبلى، الثكلى بعد تقديم ابنتها الصغيرة، الوحيدة، قرباناً لنبع ماء آخذ في الزوال، وبعد مقتل زوجها بوحشية على يد الوالي. إنها تلاحق شخصاً معيّناً من أشراف أهل الجزيرة وأشجعهم وأشعرهم، هو طرفة بن العبد. من أجل أن يرى جنينها النور ولا يموت مثل بقية أولادها، يتوجب عليها أن تنتظر مقتل طرفة، فتقفز على جسده المحتضر يميناً ويساراً حتى تتبارك بآخر أنفاسه. وهذا ما يحدث بالفعل، لكن الوالي يأمر بقتلها فتهرب، ولكي تنجو عليها أن تتبع الماء.

إيا ناصر، البذرة الطالعة من رحم ما يعدّه المعبد خطيئة، فيحكمون على أبيه بالموت غرقاً، وتنتحر أمه حزناً. رضع إيا من ثدي امرأة مسكونة بالأرواح وتعيش مثل البهيمة. يكبر ويبرع في نقش الأختام. يرسله المعبد مع آخرين في بعثة للدراسة. أثناء الرحلة يقتل تلميذاً، وصديقه يتحوّل إلى وحش بحري. عندما يختارون حبيبته لتكون قرباناً، يحاول إنقاذها فيعصي بذلك تعاليم المعبد.

إزاء الكتابات الشابة يتوقع المرء أن يقرأ عملاً عادياً أو جيداً لكن أحياناً يأتي عملٌ ويخرّب بقوة وفاعلية مثل هذا التوقّع

تأرجح بين المتناقضات

في حكاية أخرى، نجد مراهقاً يعشق امرأة ليكتشف أنها مجرد نبع يتجسد في هيئة امرأة جميلة تختطف الرجال والأطفال. هي تبادله العشق وتريد امتلاكه. عندما توشك على ابتلاعه، يتخلص منها. يتزوج ابنة عمه. هي تتمكن من اختطاف ابنه. ينتقم منها بدفن العين، بخنقها. غير أنها تنطلق من أسرها وتأخذه معها إلى باطن الأرض، في عناق طويل وأبدي.

يعقوب، الطويل والقوي، يكرّس نفسه للآلهة. يعمل في الدير خادماً للرب. طموحه أن يتقدّس ويسير على الماء. يعشق امرأة وهبت نفسها للدير، فقد جاءت إلى هنا لتكفّر عن ذنبها، إذ أغرقت أبناءها الصغار في البحر نذراً له. هي تبادل يعقوب العشق. تحبل منه. وعندما يحين المخاض لا تجد القابلة في الرحم غير الماء. فيما يعومان ليلاً، يغافله البحر ويغرقها. يغضب يعقوب ويمارس شعائر طرد البحر. عقاباً له على فعلته، يدفنونه في الرمل لكي يغرقه البحر.

درويش، البارع في نقش أبيات الشعر والآيات على الحجر والأجساد والجدران وشواهد القبور، لا يشعر بالانتماء إلى المكان والناس. يسمونه عاشق أو عابد الحجر. في النهاية يذهب صاغراً إلى البحر ليبتلعه.

ومع مهنا ننتقل إلى فترة الغوص. هو ابن غواص. ينتزعه النوخذة وهو صغير من أمه ليسدّد ديون أبيه، الذي تسبب النوخذة في موته. يكبر مهنا ويصير غواصاً. في هذا الفصل، تكشف الكاتبة عن معرفة غزيرة وعميقة بعالم البحر، في مستوييه السطحي والعمقي. في الواقع، نلمس هذه المعرفة العميقة في كل فصول الكتاب.

نلاحظ أن أغلب الشخوص تتأرجح بين البراءة والخطيئة، الخوف والجسارة، العفة والشبق، الوداعة والعنف، المقدّس والمدنّس، الولادة والموت.

تنتهي الرواية برؤيا غريبة، مخيفة، إذ يتحوّل سكان الجزر إلى بحر.. بالأحرى، إلى موجة واحدة عالية تلتهم كل شيء.

بهذا النص الفاتن، تخلق ليلى المطوّع أسطورتها الخاصة، معلنةً بثقة أنها واحدة من أهم كتّاب الرواية العربية.

* كاتب وناقد بحريني


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.