أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

ليلى المطوع تربك مسلمات القارئ في روايتها الجديدة

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن
TT

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

لم أحسب، وأنا أقلب الصفحات الأولى من رواية ليلى المطوّع «المنسيون بين ماءيْن»، الصادرة عن «دار رشم» للنشر والتوزيع (2024 )، أنني سأقضي أياماً حافلةً بالدهشة والمتعة والذهول، وأنا مأسور بهذا الكتاب، بصفحاته الـ430، وهو الأسر الذي لا يشتهي المرء التحرّر منه... تماماً كالحب، كالصداقة، كالكتابة.

لم أحسب ذلك لأن ليلى المطوّع كاتبة بحرينية تنتمي إلى الجيل الجديد من كتّاب الرواية الذين ما زالوا يتحسسون طريق الإبداع للوصول إلى موضع التميّز والفرادة. لقد سبق للكاتبة أن أصدرت روايتها الأولى والوحيدة «قلبي ليس للبيع» في عام 2012 ثم توقفت سنوات عن الكتابة.

إزاء الكتابات الشابة، يتوقع المرء أن يقرأ عملاً عادياً أو جيداً، لكن أحياناً يأتي عمل شاب ويخرّب بقوة وفاعلية مثل هذا التوقّع الأرعن. هذا ما حدث لي وأنا أحسب أنني سأقرأ عملاً عادياً لأتفاجأ بوقوعي في شرَك (وهو شرك جميل وفاتن) نصٍ قوي، ناضج، مدهش، سوف يأسرني أياماً وأنا أنتقل من صفحة إلى أخرى، من شخصية إلى أخرى، من حدث إلى آخر، من صورة بديعة إلى أخرى لا تقل عنها فتنةً.

كيف نجحت ليلى المطوّع في فعل ذلك، في أن تجعل ساعات القراءة متخمةً بما هو آسر ومذهل، في انتزاعي من بلادة اليقين وقذفي في لجّ السؤال والغموض.

مونتاج بارع

الكاتبة هنا تتقن ببراعة عملية التلاعب بالقارئ، ليس بالمفهوم السلبي، لكن بالمعنى الدقيق للإثارة والتشويق. هي لا تسرد الحدث كحكاية تقليدية ذات بداية ووسط ونهاية، بل تلجأ إلى تقطيع الحدث وبعثرته، عبر مونتاج بارع، لكي يتولى القارئ بنفسه تركيب أجزاء الحكاية وتوصيلها، واستنباط المغزى والمعنى. وهي لا تعتمد البناء السردي التقليدي، وإنما تلجأ إلى التشظي والانتقالات المفاجئة، معتمدةً - كمراجع ومصادر - على كمٍّ هائل من الوثائق والكتب التاريخية والأساطير القديمة والحكايات والمعتقدات الشعبية والمقابلات المعاصرة والدراسات في علم البيئة والإنسان والميثولوجيا.

بين الوثائقي والسردي، الواقعي والتاريخي أو الأسطوري، اليومي والسحري، العادي والشعائري، العقلاني والغيبي، التقريري والغرائبي، المباشر والمتخيّل، تنقلنا الكاتبة، بمهارة وبراعة، من موضع إلى آخر، فتأخذنا إلى البعيد القديم ثم تعيدنا إلى الحاضر القريب، لتأخذنا ثانيةً... هكذا ذهاباً وإياباً، وتدعنا نتأرجح بين الأزمنة، بين الماضي والحاضر، مأخوذين باللغة الجميلة والسلسة، بالصور النابضة الحيّة، بالسرد الشيّق، بالوصف الباهر، بالانتقالات الرشيقة، بالمخيّلة الخصبة، بالحساسية الشعرية العالية.

بفعل ذلك، الكاتبة لا تدع القارئ في وضع الاسترخاء والاطمئنان، والثقة بقدراته الخاصة في التقييم والتحليل والحكم، بل تربك مسلّماته وترجّ ما استقر عليه من فهم وإدراك، ليجد نفسه مرغماً على استجواب أفكاره ومفاهيمه وتصوراته بشأن رؤيته للتاريخ والماضي، ولعلاقة الإنسان ببيئته ومحيطه وعالمه، ولدور المعتقدات في تشكيل وعيه.

والكاتبة لا تكتفي بهذا وإنما تمعن في إثارة القارئ وتحفيزه، واقتحام المواضع المستقرة في وعيه وإدراكه بما يستفزّه ويحثّه على البحث والمساءلة والجدل، إذ كلما ظن أنه اكتفى ورأى ما يكفي ليستوعب، فاجأته بما هو أكثر إثارةً وغموضاً.

وأنت تقرأ من الأفضل أن تؤجل البحث عن أجوبة لأسئلتك الوفيرة، وأن تكبح رغبتك المعتادة في فك شفرات النص والحفر في الرموز والمجازات، حتى تنتهي من قراءة الكتاب كله. بين الصفحة والأخرى يمكنك أن تتوقف قليلاً وتتأمل في ما قرأت، ثم تواصل. لكن تجنّب إطلاق الأحكام السريعة، التي تعتقد أنها ذكية وحاسمة، بشأن ما تقرأه في كل صفحة. ثق بالكاتبة، ستكون دليلك الأمين. سرْ معها على مهل وبرويّة. من دونها تضيع. ستأخذك في رحلة طويلة إلى أقاليم لم ترها ولم تختبرها من قبل، وسوف تتمنى ألا تنتهي هذه الرحلة.

ستأخذك الرواية إلى عوالم بعيدة وأخرى قريبة عبْر ذاكرة المكان، ذاكرة الماء، ذاكرة النوارس، ذاكرة بشر يتأرجحون بين حاضر يتآكل وماضٍ يزداد غموضاً.

سوف ترتاد مناطق يحرص سكانها على قراءة البحر والريح والنجوم والنخيل، وسوف يطلبون منك أن تتبع الماء والشمس والطيور والأسماك... حتى تصل ولا تضيع، حتى يكتشف الأشخاص ذواتهم، هوياتهم.

حضور مائي طاغ ومقدس

طوال الرحلة سيكون البحر حاضراً بكل تناقضاته وصوره المتباينة المتنوعة. بكل وداعته وجبروته، طيبته ووحشيته، كرمه وجشعه، حنانه وغدره.

وللماء، في الرواية، حضوره المتعدّد والكلّي.. وله قدسيته «لا تطأ الماء إلا بنيّة صافية». مياه عذبة ومياه مالحة.. يلتقيان لكن لا يختلطان.

وأنت تقرأ، تحس بالماء يحيط بك، يتحسسك، يغمر حواسك، يدخل فيك، من فمك وأنفك وأذنيك، لكنه لا يغرقك مثلما يفعل مع من يقطن النص. الماء في كل مكان. تسمع، وأنت تقرأ، خريره، انسيابه، ارتطامه الوديع بك.

لكن الماء يعاقب أيضاً. إنه يجلد من يرتكب إثماً أو خطيئة. يخطف، يخنق.

البحر لا أمان له. يلبس جلد الأرض ليخدع البشر ويبتلعهم، ثم يخلع الجلد. أحياناً يتداخل الكائن والبحر، يتمازجان، يتحدان. وأحياناً يتحوّل الكائن إلى شبيه، أو إلى آخر. وقد يصبح مسخاً.

طوال الرواية نشهد الصراع العنيف بين عناصر تعايشت لآلاف السنين حتى وقع الشر وحدث الشقاق نتيجة جشع وجهل وقسوة قوى خارجية، دخيلة. صراع بين بحر يدافع عن وجوده بعد أن تمت محاصرته وتطويقه، ثم خنقه بالرمال عبْر الردم والدفن، حيث تسبّب ذلك في جفاف العيون والينابيع، وموت الشجر، وهجرة الطيور.. وأرض، يابسة، تريد التوسّع أكثر، لإقامة المشاريع العمرانية والطرق العامة، فتقرض البحر جزءاً جزءاً حتى تدفنه.

عنف وقرابين

العنف ملمح بارز في الرواية. يمارسه الإنسان في دفاعه عن نفسه وأهله وموطنه، وفي محاولته للامتلاك ملبياً غريزة الجشع والشهوة والجوع والحاجة والسلطة. وتمارسه الطبيعة عندما تغضب وتهيج ويتلاعب بها الناس.

الرواية حافلة بالقرابين، الأضاحي، البشرية والحيوانية والنباتية... وفي كل قربان عنف... بصورة أو بأخرى.

ثمة شخوص تظهر وتختفي، بعد أن تترك أثراً غائراً في متن النص، وفي وعي القارئ وذاكرته. إذ حتى في غيابها تظل حاضرة. ولكل شخصية سماتها المتميزة، أبعادها الخاصة، همومها، طموحها، أسرارها:

ناديا هي الشخصية المحورية، المعاصرة، التي تمسك بكل الخيوط، بالشخوص والأحداث. إنها تشهد حوادث عديدة مبهمة ولا تفسير لها. وهي تسعى إلى الكشف عن غموض الظواهر الغريبة التي تحدث من حولها. تبحث في أوراق جدها، وجدتها التي كانت متيّمة بالنخيل والينابيع، ودافعت بشراسة عن حق البحر في الوجود. ناديا ممسوسة بفكرة من سيكتب سيرة الماء. يوماً ما تنفجر فجأة العيون والينابيع في الجزيرة، ويختفي الأطفال، ومن بينهم ابنتها.

سليمة الحبلى، الثكلى بعد تقديم ابنتها الصغيرة، الوحيدة، قرباناً لنبع ماء آخذ في الزوال، وبعد مقتل زوجها بوحشية على يد الوالي. إنها تلاحق شخصاً معيّناً من أشراف أهل الجزيرة وأشجعهم وأشعرهم، هو طرفة بن العبد. من أجل أن يرى جنينها النور ولا يموت مثل بقية أولادها، يتوجب عليها أن تنتظر مقتل طرفة، فتقفز على جسده المحتضر يميناً ويساراً حتى تتبارك بآخر أنفاسه. وهذا ما يحدث بالفعل، لكن الوالي يأمر بقتلها فتهرب، ولكي تنجو عليها أن تتبع الماء.

إيا ناصر، البذرة الطالعة من رحم ما يعدّه المعبد خطيئة، فيحكمون على أبيه بالموت غرقاً، وتنتحر أمه حزناً. رضع إيا من ثدي امرأة مسكونة بالأرواح وتعيش مثل البهيمة. يكبر ويبرع في نقش الأختام. يرسله المعبد مع آخرين في بعثة للدراسة. أثناء الرحلة يقتل تلميذاً، وصديقه يتحوّل إلى وحش بحري. عندما يختارون حبيبته لتكون قرباناً، يحاول إنقاذها فيعصي بذلك تعاليم المعبد.

إزاء الكتابات الشابة يتوقع المرء أن يقرأ عملاً عادياً أو جيداً لكن أحياناً يأتي عملٌ ويخرّب بقوة وفاعلية مثل هذا التوقّع

تأرجح بين المتناقضات

في حكاية أخرى، نجد مراهقاً يعشق امرأة ليكتشف أنها مجرد نبع يتجسد في هيئة امرأة جميلة تختطف الرجال والأطفال. هي تبادله العشق وتريد امتلاكه. عندما توشك على ابتلاعه، يتخلص منها. يتزوج ابنة عمه. هي تتمكن من اختطاف ابنه. ينتقم منها بدفن العين، بخنقها. غير أنها تنطلق من أسرها وتأخذه معها إلى باطن الأرض، في عناق طويل وأبدي.

يعقوب، الطويل والقوي، يكرّس نفسه للآلهة. يعمل في الدير خادماً للرب. طموحه أن يتقدّس ويسير على الماء. يعشق امرأة وهبت نفسها للدير، فقد جاءت إلى هنا لتكفّر عن ذنبها، إذ أغرقت أبناءها الصغار في البحر نذراً له. هي تبادل يعقوب العشق. تحبل منه. وعندما يحين المخاض لا تجد القابلة في الرحم غير الماء. فيما يعومان ليلاً، يغافله البحر ويغرقها. يغضب يعقوب ويمارس شعائر طرد البحر. عقاباً له على فعلته، يدفنونه في الرمل لكي يغرقه البحر.

درويش، البارع في نقش أبيات الشعر والآيات على الحجر والأجساد والجدران وشواهد القبور، لا يشعر بالانتماء إلى المكان والناس. يسمونه عاشق أو عابد الحجر. في النهاية يذهب صاغراً إلى البحر ليبتلعه.

ومع مهنا ننتقل إلى فترة الغوص. هو ابن غواص. ينتزعه النوخذة وهو صغير من أمه ليسدّد ديون أبيه، الذي تسبب النوخذة في موته. يكبر مهنا ويصير غواصاً. في هذا الفصل، تكشف الكاتبة عن معرفة غزيرة وعميقة بعالم البحر، في مستوييه السطحي والعمقي. في الواقع، نلمس هذه المعرفة العميقة في كل فصول الكتاب.

نلاحظ أن أغلب الشخوص تتأرجح بين البراءة والخطيئة، الخوف والجسارة، العفة والشبق، الوداعة والعنف، المقدّس والمدنّس، الولادة والموت.

تنتهي الرواية برؤيا غريبة، مخيفة، إذ يتحوّل سكان الجزر إلى بحر.. بالأحرى، إلى موجة واحدة عالية تلتهم كل شيء.

بهذا النص الفاتن، تخلق ليلى المطوّع أسطورتها الخاصة، معلنةً بثقة أنها واحدة من أهم كتّاب الرواية العربية.

* كاتب وناقد بحريني


مقالات ذات صلة

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

ثقافة وفنون هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً.

ميرزا الخويلدي (الدمام)
ثقافة وفنون «ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».