مباخر أنثوية من فيلكا والبحرين

تحمل طابعاً يونانياً صرفاً

مبخرتان أنثويتان من فيلكا تقابلهما مبخرتان من قلعة البحرين
مبخرتان أنثويتان من فيلكا تقابلهما مبخرتان من قلعة البحرين
TT

مباخر أنثوية من فيلكا والبحرين

مبخرتان أنثويتان من فيلكا تقابلهما مبخرتان من قلعة البحرين
مبخرتان أنثويتان من فيلكا تقابلهما مبخرتان من قلعة البحرين

من جزيرة فيلكا الكويتية خرجت مجموعة صغيرة من المجسمات الطينية التي تحمل طابعاً يونانياً صرفاً؛ منها رأسان أنثويان تعلو كلاً منهما سلّة ضخمة تُعرف باسم «كالاثوس»، خُصّصت كما يبدو لإحراق الطيب الذي يُستعمل بخوراً. يتبنّى هذا المجسّم طرازاً فنياً شاع في العالم اليوناني متعدّد الأقاليم، وبلغ هذه الناحية من ساحل الخليج العربي؛ كما تشهد قطعتان أثريتان مماثلتان تتبعان هذا النسق، عُثر عليهما أخيراً في منطقة مجاورة لقلعة البحرين.

اكتُشفت مبخرتا فيلكا خلال أعمال المسح والتنقيب التي قامت بها بعثة دنماركية بين عامي 1961 و1962. فوق التل المعروف باسم «تل سعيد»، ظهرت أسس قلعة يونانية ترجع إلى القرن الثالث ما قبل الميلاد، يحيط بها خندق دفاعي. وتبيّن أن هذه القلعة بُنيت على شكل مربّع، طول كل من جوانبه 60 متراً، يحدّ كل زاوية من زواياه برج مربّع. كما تبيّن أن لهذه القلعة بوابتين؛ واحدة شمالية، والأخرى جنوبية، وكانت تضمّ في محيطها الداخلي معبدين. بين أطلال هذا الموقع الهلنستي، عُثر على عملات فضيّة يونانية وجرار فخارية، إضافة إلى بعض المجسمّات المصنوعة بطريقة الطين المحروق؛ منها المبخرتان الأنثويتان.

تتشابه هاتان المبخرتان بشكل كبير، غير أنهما لا تتماثلان. يبلغ طول القطعة نحو 13 سنتيمتراً، وهي على شكل رأس امرأة صبيّة تعتمر سلّة طويلة مجوّفة. تبدو هذه السلة ضيّقة عند القاعدة، وأكثر اتساعاً في جزئها العلوي، وتُعرف في معجم الفن اليوناني باسم «كالاثوس»، أي «سلة على شكل زنبقة»، وهي من العناصر المعروفة في هذا الميدان، وترمز إلى القوة والخصوبة الأنثوية. ارتبط هذا العنصر الرمزي بكثير من المعبودات اليونانيات؛ أشهرهن «أثينا» سيدة الحكمة والزراعة ومانحة الزيتون إلى البشر، و«ديميتر» سيدة الطبيعة والنبات والفلاحة. وعُرف هذا العنصر بشكل واسع من خلال المجسمات التي جمعت بيت أفروديت اليونانية؛ سيدة الحب والجمال والإخصاب بسائر أنواعه، وإيزيس المصرية؛ سيدة السماوات وحاكمة العالم الطبيعي. في فيلكا، اتّخذت هذه السلة الزنبقية شكل مبخرة مخصّصة لإحراق الطيب، وهذا التقليد معروف ومتوارث في العالم القديم، وشواهده الأدبية كثيرة؛ منها قول توراتي ورد في سفر أرميا، وفيه يُقال لصدقيا، آخر ملوك مملكة يهوذا من سلالة داود: «إنك لا تموت بالسيف، بل تموت بسلام. والأطياب التي أُحرقت لآبائك الملوك الأوّلين، يُحرق لك مثلها، ويندبونك» (34: 4 ـ 5).

عُثر على هاتين المبخرتين أمام معبد من معبَدَي القلعة الهلنستية، ممّا يوحي أنهما شكّلتا في الأصل جزءاً من أواني العبادة الخاصة بهذا المعبد. وكانتا في الأصل موشّحَتين بحلّة متعدّدة الألوان، امّحت وبقيت منها آثار طفيفة بالأصفر والأحمر والزهري. الوجه الأنثوي مُنجز بحرفية عالية، والأسلوب المتبع في تجسيم ملامحه كلاسيكي يحاكي المثال الحسّي الواقعي، كما يشهد تجسيم العينين والأنف والفم. الوجنتان مكتنزتان، والذقن مستدير، والأنف معقوف بشكل طفيف، والعنق عريض، ويتميّز بعضل أفقي ناتئ، يوازي في استدارته استدارة الذقن. تحضر امرأة ذات بشرة نضرة وصافية، ترتسم على محياها ابتسامة خفرة. يتوّج هذا الوجه المشرق «كالاثوس» كبيرة يزيّنها مثلث ناتئ، يعلوه شريط أفقي عريض يشكّل إطاراً لطرف هذا الإناء.

عُثر على المبخرتين أمام معبد من معبَدَي القلعة الهلنستية... مما يوحي أنهما شكّلتا في الأصل جزءاً من أواني العبادة الخاصة بهذا المعبد

في خريف 2021، أعلن فريق التنقيبات الأثرية الخاص بإدارة الآثار والمتاحف في البحرين اكتشاف «قطعتين أثريتين فريدتين من نوعهما» في منطقة تقع على بعد 600 متر جنوب قلعة البحرين، وهي القلعة التي تقع في منطقة السيف المطلة على شاطئ البحر، وتُعدّ أهمّ معالم البحرين الأثرية وأشهرها. ونوّه الفريق بأن هاتين القطعتين المصنوعتين من الطين المحروق متطابقتان، وتمّثل كل منهما رأس أنثى يعلو شعرها إناء «استُخدم لوضع الفحم النباتي وإحراق البخور»، كما جاء في هذا الإعلان. وصلت إحدى هاتين المبخرتين كما تبدو بشكل سليم، مع كسر بسيط في أسفل الرقبة، وكسر مشابه في أعلى الإناء. في المقابل، فقدت القطعة الأخرى المماثلة السلّة التي تشكل القسم الأعلى من تكوينها، غير أنها حافظت على وجهها الأنثوي بشكل كامل.

تشابه هاتان المبخرتان المتطابقتان في تكوينهما العام مبخرتَي فيلكا بشكل لافت، مع اختلاف في بعض التفاصيل. يأخذ وجه الصبيّة شكلاً دائرياً، ويبرز العنق فوق الطرف الأعلى من الصدر الذي يشكّل هنا قاعدة للمبخرة. تؤلّف خصل الشعر المقوّسة إطاراً يلتفّ بتناسق حول الجبين والوجنتين، كاشفاً جزئياً عن أذنين صغيرتين متوازيتين. العينان بارزتان، وأهدابهما محدّدة بعناية. تتحوّل الابتسامة الخفرة إلى ابتسامة جليّة ترتسم فوق ثغر عريض يتميز بحضور الحديبة في وسط الشفة العليا. يعلو هذا الرأس «كالاثوس» ضخمة يزينها قوس ناتئ يحضر على شكل إكليل فوق خصل الشعر. فوق هذا الإكليل يظهر مثلّث مسطّح يعلوه الشريط التقليدي الذي يشكّل إطاراً لجوف الإناء.

كما في فيلكا، تشكل القطع يونانية الطابع التي عُثر عليها في البحرين مجموعة صغيرة تتمثّل بعدد محدود من المجسّمات، أنجزت بين القرنين الثالث والثاني للميلاد، خلال الحقبة التي عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس، واشتهرت بمزارعها الغنية بشجر القطن؛ كما تؤكد المصادر اليونانية التي تعود إلى تلك الفترة. دخل اليونانيون هذه الناحية من ساحل الخليج العربي، كما تؤكد عمليات المسح والتنقيب المتواصلة، غير أن حضورهم الفني ظلّ محدوداً كما يبدو، ولم يتحوّل إلى تقليد محلي جامع كما حدث في أقاليم متعددة من الشرق الأوسط والأدنى.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.