أحمد ولد إسلم: كتابة الخيال العلمي تقتضي السير على حافة شائكة

الكاتب الموريتاني يرى أن الإنتاج النثري في بلاده يوازي نظيره الشعري

الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم
الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم
TT

أحمد ولد إسلم: كتابة الخيال العلمي تقتضي السير على حافة شائكة

الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم
الكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم

يطرح الكاتب والروائي الموريتاني أحمد ولد إسلم في روايته الأخيرة «البراني» أسئلة إشكالية تتعلق بالمستقبل الإنساني، يختبرها في سياقات عالمه المُتخيّل الذي تُسيطر عليه الرقمية وتتغوّل فيه الآلة. وقد حاز أحمد ولد إسلم أخيراً على جائزة «شنقيط للآداب والفنون» بموريتانيا، ومن أعماله رواية «حياة مثقوبة» ومجموعة «انتظار الماضي».

هنا حوار معه عبر الإنترنت حول روايته الجديدة، وملامح الحركة الأدبية الموريتانية، وعلاقتها بمحيطها الثقافي العربي...

* في روايتك الأخيرة «البراني» نلتقي بجزيرة وهمية، وروبوتات، وفيروسات آلية، ما التحديات التي واجهتها في بناء وتطوير هذا العالم الروائي؟

- التحدي الأكبر في الكتابة الخيالية العلمية هو الجمع بين المتناقضين، ما هو خيالي، وما هو علمي، وذلك يقتضي السير على حافة رفيعة وهشة تضمن تقديم ما لا يستحيل علمياً حدوثه، ولكنه لم يحدث بعد. وهذه هي المساحة التي تتسابق فيها العقول الأدبية بخيالاتها المجنحة، والعقول الهندسية بأعمالها التجريبية. وهذا السباق الدائم بتحويل الخيال الأدبي إلى منتجات هندسية أو توظيف المنتجات الهندسية العلمية في خلق خيال أكثر طموحاً، هو ما أنتج وسينتج كل التطور التقني الذي تشهده البشرية حالياً ومستقبلاً.

* أيضاً، يبدو عالمك السردي في «البراني» مُنقسماً بين حنين تراثي وإنساني، وآخر غارق في الاستهلاك والاصطناعية، حتى إنك طرحت فيها نبوءة بنهاية العالم... حدثنا عن تلك المسافة.

- في حياة كل منا، أقصد من عاش في المجتمعات العربية، حنين دفين للبساطة والعلاقات الاجتماعية المترابطة، وأحياناً البداوة لمن ينحدر من بيئة بدوية أو ريفية، فنرغب أن نبدأ يومنا برائحة خبز الفرن وكاسات الشاي في لمة عائلية، وأن نتبادل التحيات صباحاً، ونعرف أخبار الجيران، ونختم اليوم بجلسة العصر الجماعية، وكاسات الشاي أو بسمر عائلي يخوض في الذكريات. لكننا في الوقت نفسه، بحكم الواقع الذي نعيشه، نرغب أن نكون أكثر تطوراً، وأن تكون حياتنا أسرع وقعاً، ونتمنى أن تكون لدينا قدرات على مطّ الوقت لتحقيق الإنجازات الصغيرة اليومية الأكثر مما يسمح به وقتنا. ويفرض علينا الواقع أن نكون أكثر فردانية، وتغرينا الإعلانات بثقافة استهلاكية تجعل كثيراً منا ينفق ما لا يملك لشراء ما لا يحتاج فعلاً، على احتمال أنه قد يحتاجه يوماً ما.

هذا المشهد الذي يقرّ كلّ منا في قرارة نفسه بتناقضه هو ما يشكل الحياة، الحياة التي تحدث حقيقة في صراعاتنا بين ما نرغبه من استعادة نفسية للماضي، وما نطمح إليه من القفز ذهنياً إلى المستقبل. وهذا الصراع النفسي الدائم هو ما سلّطت رواية «البراني» الضوء عليه من زوايا مختلفة عبر شخصيات أبطالها اللاهثين بين قطبي هذه الثنائية، يخافون من خسارة الهدوء والسكينة، ويخشون فقدان السيطرة على مستقبلهم.

* هذا الحِسّ في التعامل مع تغوّل الذكاء الاصطناعي والرقمية يبدو له صدى «ديستوبي» في الرواية، هل يمكن فهم مدلول آخر لعنوان «البراني»، بمعنى النبذ واستبدال الإنسانية، أو بتعبيرك في الرواية «الزوائد البشرية»؟

- لا نكون متشائمين إن قلنا إن الواقع العربي الذي نعيشه ديستوبي بطبيعته، ولا يحتاج خيالاً لتصوّر عالم أكثر فساداً وانحداراً مما عليه الحال في عالمنا العربي. ما كشفته الرواية هو جزء من واقع نتجاهله، أو نجمله بإضفاء مسحة من المصطلحات كالعصرنة والرقمنة والتفاعل، نعوض بها نفسياً شعورنا العميق بخسارة أواصرنا الاجتماعية البشرية الحقيقية. ما سيحصل، وقد بدأ بالفعل، ليس إحلال الذكاء الاصطناعي محل البشر، بقدر ما هو إحلال أشخاص يجيدون التعامل مع الذكاء الاصطناعي ويحسنون توظيفه، أو يسيئونه، محل أشخاص لا يجيدون ذلك.

وبالتالي، فإن الخوف من تغوّل الذكاء الاصطناعي هو في الحقيقة خوف من تغوّل المسيطرين عليه، فالآلة في النهاية لا تعرف إلا ما أدخل إليها من إنتاج بشري خالص. وما وصفته الرواية بالزوائد البشرية سيكونون في وقت ما أولئك الذين يتوهمون أن المسيطرين على الذكاء الاصطناعي سيكونون أكثر رحمة بهم إذا انكفأوا على أنفسهم واكتفوا بدور المتفرج أو المستهلك.

* كيف تعاملت مع تعقيدات وأبعاد شخصية بطلك في «حياة مثقوبة»، خصوصاً مع تقييد حركته ومكانه؟ كيف وظّفت تقاطعات ذاكرة البطل كآلية سردية في الرواية؟

- بناء شخصية بطل رواية «حياة مثقوبة» كان أصعب تحدٍّ خضته مع نفسي في مجال الكتابة الإبداعية، فأن تخلق شخصية واضحة المعالم النفسية من غير تحديد مكان أو زمان حتى منحها اسماً تنادى به ليس بالأمر الهين. لكني أردت تقديم شخصية الإنسان المُجرد من كل دواعي التحيز، الإنسان العادي في أشد لحظات حياته ضعفاً وأكثرها صفاء، ولأن فقدان الذاكرة هو الخاتمة الحزينة للقصة كان الأمر مبرراً. فالإنسان في ماهية هويته ليس إلا ما يتذكر عن نفسه ومحيطه؛ فلولا معرفتنا أسماءنا ودوائر انتمائنا لما شكل أي منا هويته كما يراها. ونظرة الآخرين إلينا قائمة على ما تحتفظ به ذاكرتهم من معلومات عنا، ولذلك يمكن القول إن فقدان أي معلومة من الذاكرة هو فقدان لجزء من هوية ما، وهذا ما جعل خلق شخصية بطل «حياة مثقوبة» صعباً، لأنه يفقد في كل فصل جزءاً من هويته.

* علاقتك بالموسيقى تبدو أصيلة، ولا تخفى عمن يقرأ أعمالك، فتتوقف عند وصف مقام، أو مقطوعة، أو أصل تاريخي لنوع موسيقي، هل تتعامل معها بمنطق جمالي أو وظيفي داخل السرد؟

- نشأت في منطقة الحوض الشرقي في موريتانيا، وهي المنطقة التي شهدت قبل قرون نشأة الموسيقى التقليدية الموريتانية، خاصة ما يعزف منها على آلتي «التيدنيت وآردين» وهما الآلتان الخاصتان بالرجال والنساء، على التوالي، في الثقافة الموسيقية التقليدية. النشأة في بيئة كهذه تجعل علاقة أي فرد من المنطقة بالموسيقى علاقة انتماء واحتفاء وارتباط، ويعد أي فرد من المنطقة لا يعرف أساسيات الموسيقى التقليدية ومقاماتها ناقصاً معرفياً في التقييم المجتمعي، ولذلك وجدت توظيف الموسيقى في إطار سردي يكسر جمود النص في رواية «حياة مثقوبة»، ويفتح أفقاً للتعريف بالموروث الثقافي الموريتاني في رواية «البراني».

* تبدو علاقة موريتانيا بالشِعر وثيقة، فيما لا تزال الرواية الموريتانية تقطع خطوات وئيدة في المشهد العربي. هل تتفق مع هذا؟ ولماذا برأيك؟

- هذه «المُسلمة» بأن علاقة موريتانيا بالشعر أوثق من علاقتها بغيره تحتاج إعادة نظر، فهي عند تحليلها بشيء من التفصيل ليست أكثر من صورة نمطية، مثل أي صورة نمطية أخرى رسخها الإعلام والتداول الشعبي. فحين أطلقت مجلة «العربي» الكويتي لقب بلاد المليون شاعر على موريتانيا أواخر الستينات كان هناك احتفاء كبير من الموريتانيين بهذا اللقب، وهو احتفاء مبرر ومتفهم في سياقه التاريخي، فموريتانيا كانت حينها تخوض معركة سياسية وثقافية لإثبات انتمائها للفضاء العربي سياسياً، فلم تكن حينها قد انضمت إلى مؤسسة الجامعة العربية. واستمر لاحقاً الاحتفاء بهذا اللقب وما يعنيه من قيمة معنوية، لأنه يسهل على الموريتاني تقديم نفسه بكلمتين كانتا عنواناً في مجلة. لكن الواقع أن الإنتاج النثري في موريتانيا لا يقلّ عن الإنتاج الشعري، إن لم يربُ عليه. ومع تقلص مساحات البداوة وتمدد الفضاء الحضري أفقياً على امتداد البلاد الشاسعة تقلصت الحاجة إلى الشعر بوصفه حاملاً للثقافة الشفوية، وتعززت مكانة النثر مع انتشار الكتب المرتبطة بالمدنية بطبيعتها.

صحيح أن فنّ الرواية تأخر ظهوره بضعة عقود في موريتانيا عنه في المشرق العربي، لكن الأعمال الروائية الموريتانية التي ظهرت لاقت احتفاء ومكانة كبيرة، ومنها ما صنف ضمن الأعمال العربية الخالدة. ويكفي النظر إلى السنوات الأخيرة لنجد عدداً من الروايات الموريتانية ارتقت منصات تتويج عربية في السعودية، ومصر، وقطر، والإمارات، وربما صار روائيو موريتانيا أكثر شهرة من شعرائها.

* هل ترى أن الجوائز الأدبية ساهمت ولو قليلاً في كسر مركزية القراءة والنشر في العالم العربي؟

- هناك كثير مما يمكن قوله عن الجوائز الأدبية العربية فيما يتعلق بآلية اختيار الأعمال الفائزة وتسليع الأدب وتحويل الكاتب إلى منتج تحت الطلب، لكن لا يمكن إنكار أنها فعلاً فتحت آفاقاً جديدة لكتب ما كانت لتصل لولاها إلى القارئ، خاصة الكتب الواردة من دول الأطراف العربية بعيداً عن المركزية المشرقية.

* قطع الأدب في العالم مسافة طويلة مع الخيال العلمي منذ «فرانكشتاين» ماري شيلي إلى اليوم، برأيك إلى أي مدى واكب الأدب العربي فلسفة هذا النوع الأدبي؟

- لا أستطيع تقييم مدى مواكبة أدب الخيال العلمي في العالم العربي للتطورات، لكن لا شك أنه مجال مفتوح للإبداع وليس قريباً من الاكتفاء الذاتي عالمياً وأحرى عربياً. ربما هناك نقطة مؤثرة على الأديب العربي تجعل إنتاجه في مجال الخيال العلمي لا يحظى بالاحتفاء المناسب، وهي ضعف المناهج التعليمية وأدوات الإنتاج المرئي التي ساهمت في شهرة كثير من الأعمال غير العربية، وأوصلتها إلى مجال أرحب بتحويلها إلى أفلام أو مسلسلات، وهو أمر تفتقر إليه الكتب العربية الصادرة في هذا المجال.

* حصلت أخيراً على جائزة «شنقيط للآداب والفنون» التقديرية الموريتانية، ما صدى هذا التتويج لديك؟ وهل تكتب عملاً جديداً حالياً؟

- لا شك أن الحصول على جائزة الدولة التقديرية، وهي أرفع جائزة أدبية، في مرحلة مُبكرة من العمر، أمر يدعو إلى الفخر والتشجيع، ومن المؤكد أنه منح للعمل فرصة للوصول إلى القراء المهتمين بأدب الجوائز. كما أنه عرّف النخبة الثقافية بنمط من الأدب الموريتاني لم يحظَ بعد بإنتاج غزير، وهذا أيضاً أمر مهم. وحالياً، أعكف على كتابة رواية تستشرف آفاق عالمنا، وتسعى للتفوق على ما قدّمته «البراني»، وآمل أن تكون في المكتبات العربية قبل نهاية هذا العام.


مقالات ذات صلة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

ثقافة وفنون دانيال دينيكولا

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة.

ندى حطيط
ثقافة وفنون سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام.

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك

مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

كرّم وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي، مساء اليوم في الدوحة، المفكّر والأكاديمي السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)

في كلّية الطب

في كلّية الطب
TT

في كلّية الطب

في كلّية الطب

باستثناء عبق الذكريات، لديّ القليل مما أفكر فيه الآن كي أصير مثلما تشاء نفسي، وإنني أتساءل أحياناً: بماذا تُفيدُني الذكريات، وأنا أرويها مثل حكاية مهدّئة للنفس؟ إننا نستدعي الأدب لإحياء ما فات من سنيننا، فاللغة ليست أداةً للتواصل فحسب، وإنما هي فضاء حيّ للتذكّر. سأحظى وفق هذا المفهوم بمتعةِ تخيّلِ لوحةٍ فيها رفاقي في أيام الدراسة، وأخشى أن يرسم اليراع أخيلةً بائسةً لا غير، إذا ما قُورنت بالحقيقة.

يقول صاحب المثل القديم: «بغداد أكبر من العالم». نحن في حيّ باب المعظّم، نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، حيث يُناهزُ ارتفاع الأشجار علوّ صوتِ المؤذّن من الجوامع السبعة القريبة؛ جامع الأزبك والمُراديّة والأحمديّة والحِيدرخانة والسليمانيّة والسراي والعاقولي، وجميعها بُنيت عندما كانت بغداد ولاية عثمانيّة. على شاطئ نهر دجلة القريب قامت الكلّيّة التي حصلتُ فيها على شهادة الطبّ، وأسّسها الإنجليز الذين حكموا العراق عقب الحرب العالميّة الأولى، وكان أوّل عميد لها سندرسن باشا، طبيب العائلة المالكة في العراق، وهذا الكلام لا أقصد به التباهي ولا التأسّي، ولا منزلة بين منزلتين، وربما خلص قارئ المقال إلى فحوى لم تكن في البال، ووظيفة الأدب هي السير به في هذا القصد.

في مبنى الكليّة يُطالعُ الزائرُ أولاً سلّماً حلزونيّاً يرتفع برشاقة إلى هيكل شبه دائريّ، هي المكتبة التي تُشرفُ على حديقة حافلة بالورود. يا لجلالة من يجلس عند طاولة هناك، ويُذاكرُ علوم الطبّ! في ذلك اليوم البعيد مرّ بالمكان شيخٌ، وأشار إلى المبنى قائلاً:

- هذا من صُنعِ يدي.

كان الشيخ يقصد المشفى القريب من الكليّة لغرض العلاج، وزار المكان ربما ليتأكّد أن البناء سوف يظلّ حيّاً بعد موته. بعد أن دخلتُ المكتبة واسترحتُ، ومن النافذة القريبة ظلّت آثار خطوات الشيخ على الدرب ماثلة أمامي. لهذه الذكرى من القوّة أنّها تبدو الآن حقيقيّة، وأشاءُ أن أنتسبُ إلى البنّاء البغدادي هذا، في طريقي في العلم والأدب والمعيشة، والأهمّ من ذلك، سماع صوت الوطن في أيّ مكان أحلّ به. ثم تمضي خطوات الزائر إلى الكليّة في ساحات وأبنية وحدائق تناهز مساحتها ثلاثة كيلومترات مربّعة، وتبدو مثل قطعة حرير موشّاة بجواهر قديمة وجديدة. في تلك السنين كان هناك جوّ من النهوض العامّ في البلاد، فالرئيس الشابّ صدام حسين متحمّس لنقل البلد بخطوات واسعة إلى دولة متقدّمة ومزدهرة، وفي الوقت نفسه كانت الحرب العراقيّة الإيرانيّة تقرع الأبواب بقوّة، وكانت فاتحة لسلسلة من الحروب، وهذا ليس موضوعنا.

إذا أردتَ السؤال عن مستوى جامعة ما، عليك بفحص قاعة الدرس فيها، وكانت عبارة عن صرح فخم يشبه ما في أروقة الأمم المتحّدة، فيه جناحان يفصل بينهما مدرج عالٍ، الأيمن يضمّ طالبات وطلّاب العاصمة، والجانب الأيسر خُصّص للوافدين من المحافظات، والفروق بين شاغلي الجناحين عديدة، رغم أن المستوى المعيشيّ متساوٍ تقريباً، وهي الطبقة المتوسّطة العليا، أو دونها بقليل. يعود التباين بالدرجة الرئيسيّة إلى اختلاف البيئة في القرية عنها في المدينة، والتشدّد الديني لدى بعض العائلات الحضريّة. من هذه الفروق اختلاط الجنسين في الجانب الأيمن من القاعة، بينما انقسم الذكور والإناث في جهة اليسار بحدّ قاطع مثل شفرة السكّين، الطالبات في الصفوف الأماميّة فحسب، كأنهن يشغلن القسم الخاصّ بالحريم في البيوت الشرقيّة، كما أن الحجاب والجبّة الإسلاميّة هما اللباس السائد، وبألوان كامدة بين السواد والرمادي والبُنّي الغامق، كأن عتمة رماديّة حزينة تسود الجوّ في هذا الجانب، في الوقت الذي انشغلت طالبات القسم الأيمن بالأناقة والشياكة اللتين مصدرهما أسواق بغداد ذلك الزمان، وكانت تضاهي بيروت وباريس ولندن، والمشهد هنا يشبه غماماً سديميّاً يتخلله شعاع ذهبيّ، مصدره، بالإضافة إلى الثياب القشيبة، حديث الطالبات والطلّاب باللهجة البغداديّة الغنيّة بالتوافقات النغميّة الساحرة. الفتيات، بقمصانهنّ البيض، كأنهنّ أزهار بيضاء مزهرة، وبمناديلهنّ المعطّرة وابتساماتهنّ الرقيقة الرضيّة، يبدين مثل أيقونات سعيدة تُثبت للعالم بنورها وهدوئها أن الفعل «تبغدد» لا يزال حيّاً، رغم جور الزمان على مدينة بغداد. قُلْ هي حياة من نوع آخر كانت تسود هذا الجانب من الصرح الدراسي، وكنتُ موزّعاً في الحقيقة بين الجانبَين، لأني وُلدتُ في مدينة العمارة، وأسكن العاصمة، لكنّ قلبي كان يميل إلى جهة اليمين، فصار مقعدي الدائم، تقريباً، هناك.

حميَتْ بمرور سنين الدراسة ضراوة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وكانت البلاد تسير بخطى ثابتة باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب، بما فيهم رفاقه وأصدقاؤه وأهل بيته، وكانت لنا، نحن الدارسين، حصّة منها، على نوعين في جانبي قاعة الدرس، عذابات مضيئة، وأخرى مُرّة. دار الزمان منذ ذلك التاريخ أربعة عقود عشناها بصورة شاقّة وصعبة، أخشى أنني لست في حاجة إلى أن أصفها بأنها صراع يستدعي قوّة وشجاعة هائلتين كي نجتاز أربع حروب كُبرى: حرب الخليج الأولى والثانية والغزو الأمريكي والحرب الأهليّة، وتفرّقنا شتاتاً في الأرض، ثم اجتمعنا ثانية في منصّتين على «الواتساب» من الغريب أنهما تشبهان نصفي القاعة التي تلقّينا فيها العلم في سنين الدراسة. من يستطيع أن يقرأ هذه المعادلة بوضوح، ويؤمن بنتائجها؟ منصّة «واتساب» تضمّ من كان يجلس في جهة اليمين، وأخرى تجمع جماعة الميسرة، وهم القادمون من خارج العاصمة، الغالبيّة منهم ينحدرون من بيئات ريفيّة، أو مدنيّة تسود عوائلها أفكار دينيّة متشدّدة، والملاحظ أنها البيئة ذاتها التي نشأت فيها أحزاب اليسار في السابق، والأحزاب الإسلاميّة فيما بعد، مثل «حزب الدعوة» الذي كان نشطاً في تلك السنين.

كأن تاريخ العراق الحديث يمثّله الصَّرح الدراسي في كليّة الطبّ بطوبوغرافيته التي ذكرتُها، حيث يشتدّ الصراع غالباً بين قوى اليمين واليسار، أو بين السنّة والشيعة، أو العرب والعجم، أو الغربيّة والشرقيّة... إلى آخر التسميات التي فرّقت بلد الرافدين منذ القدم. دائماً وأبداً، وهذا الكلام يقوله علماء الأنثروبولوجيا، يؤدي لقاء الحضارات إلى كارثة، إن لم يكن هناك استعداد ومناعة للحضارتين المتداخلتين في تقبّل الآخر، والدفاع عن الذات في الوقت نفسه. ثمة خرافة مضمرة في دخيلتي تقول إن المشكلة في بلدي لم تكن يوماً دينيّة أو سياسيّة، بل هي إثنية. جانبا قاعة الدرس ينحدران من حضارتين متجاورتَين ومتعاديتَين هما الآشوريّة والبابليّة، دارت بينهما حروب طاحنة في الماضي، وانتصر من انتصر وانهزم الآخر، وهذا كلام طويل تحفظه كتب التاريخ. الملاحظ أن ظلال الأمم تظلّ تتحارب بعد أفولها، وتصير معارك بين أصداء أسماء أبطالها. هو رأي ضعيف للغاية، وإذا كانت نسبة الصحّة فيه واحداً بالمائة، فهي تستحقّ التأمل من قبل الدارسين. قالوا عن بلدي إنه نهران وولاءان، وأقول ربّما إذا عُرفَ السبب سهلَ الحلّ.

في بعض محطّات العمر يكون معنا أشخاص قريبون منّا ويملكون أنفاساً نقيّة، فهم يشبهون زهرة الألْوَة التي تتفتّح مرّة في العمر، ويبقى ضوعها يمتدّ، ثم يغيب وتبقى ذكراه مثل دمعة مالحة تحرق القلب. إننا نتذكّر لنكتشف جوانب من الحياة ما كنّا لننتبه لها، لأنها عيشت في زمانها إلى أقصاها، وحين تستدعيها الذاكرة تحلّ في صورة عالم جديد وغريب من الألوان والأحاسيس، دنيا إضافيّة فيها إيقاع آخر. للشاعر ت. س. إليوت قصيدة تحمل بعضاً من هذا المعنى:

«في الذاكرة صدى لوقع خطى

في الممر الذي لم نخطُ فيه

باتجاه الباب الذي لم نفتحهْ قطّ

إلى جنينة الورد».

ويحدث هذا الأمر مع أصدقائي في تلك الرحلة، أسير معهم في الزمن الحاضر في شوارع غير موجودة، ونفتح أبواباً لم تكن مقفلة ذات يوم، وكذلك الورد يثبتُ شذاه في الذاكرة، ولا يغيب عنها لأنه صار ميسماً. المآثر الأكثر نصاعة في الحياة تفقد بريقها ما لم تُسكَّ في كلمات منغمّة. كتبتُ، في ساعة تأمّل، هذه القصيدة عن سحر تلك الأيام التي رغم كونها لن تعود، لكنّها تعيش معي مثل ظلّ نجمي المستحيل، أي الأسعد، وأعطيتُ قصيدتي عنوان المقال:

«هل هو حنين؟

أم هي حياة تعيش معناً على الدوام

ونستعيدها جميعاً

بقوّة،

قد أمسك بها قلبٌ فتيّ

فكيف تضيع منها ساعةً

أو هنيهة...

نحن مجبولون من تلك المشاعر

ونعيشها الآن من جديد

ودائماً من جديد

وأبداً من جديد...

زهر القطن بدأ يتفتّح،

يا صديقاتي وأصدقائي في كلية الطب/ جامعة بغداد 1985

أسألكم، وأسأل نفسي دائماً،

ولا أملّ من السؤال، أو أتعبْ:

هل هو حنينٌ؟

أم هي حياةٌ تعيشُ معنا على الدوام

في الليل والنهار، في النوم واليقظة

وسوف تمتدُّ ظلالُها

أبعدْ».

كانت البلاد تسيرُ بخطى ثابتةٍ باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب