مكتبة خالتي

مكتبة خالتي
TT

مكتبة خالتي

مكتبة خالتي

جميع الأشياء في الوجود متصلة بشكل مقدّس... وإذا لم تكن تؤمن بقدرة السحر التي في الأشياء فليس مسموحاً لك السكن في محراب الفنّ

أحياناً يكون فِعل الموتى أكثر قوّة من تأثير الأحياء. ثلاثون عاماً مضت على وفاة خالتي جميلة، ومراجعي الأولى في القراءة مصدرها خزانة للكتب مصنوعة من خشب الصّاج اللامع، من إبداع النّجار عباس القرملي، وقد شغلت جانباً من غرفتها في بيت أهلي في مدينة (العمارة)، في أقصى جنوب العراق. قبل الحديث عنها لا بد من وصف للغرفة والمنزل، ولا أقول لمدينتي لأنّ الحديث عنها ربما أغراني بالتوسّع في هذا الموضوع، حتى الخروج منه إلى باب آخر.

لم تتخلّ البلدان التي احتلّها العثمانيّون عن آثار حكمهم بعد أن جاء الإنجليز وتحرّرت البلاد واستقلّت. فلو درسنا تاريخ العراق الحديث، لرأيناه صورة مطابقة لبلاد الأتراك، مثل الصراع بين الأحزاب القوميّة واليساريّة، وطريقة تغيير الحاكم عن طريق الانقلاب العسكريّ، بالإضافة إلى صور عديدة في نمط المعيشة من مأكل وملبس وعادات... وفي إحدى زياراتي إلى تلك البلاد، اكتشفتُ أن بيت أهلي المبني في الستينات، نسخة من بيوت حي نيشان طاش في إسطنبول التي شهدت نهضة معماريّة تأثّرت كثيراً بالعمارة الأوروبيّة في تلك السنين.

تحاول الطبقة المتوسطة في بلداننا تقليد الطبقات البرجوازيّة في البلدان الأخرى بأي صورة، منها تصميم البيت الهندسي وطريقة المعيشة، ولأننا لا نمتلك طبقة برجوازية واسعة في العراق -مثلما هي الحال في مصر محمد علي- صار المتوسّطون في المعيشة -مثل أهلي- يقلِّدون أثرياء العالم، وفقدوا بالنتيجة صفات الاثنين، وهذا أحد أسباب انهيار هذه الطبقة سريعاً على أيدي الحكومات العسكريّة الثوريّة اليساريّة... إن 7 أجيال على الأقل يحتاجها البلد من حالة الاستقرار في ظلّ نظام وطني، لكي تترسّخ فيه جذور هذه الفئة، وهذا ما لم يحدث في العراق في تاريخه القديم أو الحديث، وهذا ليس موضوعنا.

بعد الحديقة الواسعة، ينفتح البيت إلى الداخل عبر بوّابتين كبيرتين متجاورتين: إحداهما تؤدي إلى غرفة الضيوف، والأخرى إلى بهو المعيشة، ويُلحق بالبهوِ في بعض البيوت مكتب واسع يخصّ جميع من في البيت، ولا يخصّ أحداً، ويُشرف على حديقة خاصّة به عبر نافذة واسعة.

كانت خالتي تعمل مديرة مدرسة، ولأنها قضت حياتها عزباء، استقلّت في هذه الحجرة التي صارت مُلكاً للجميع، ننتقل إليها من غرفة المعيشة بحريّة كاملة.

تتلمذ النجّار الذي صمم خزانة الكتب التي ألهمت فيّ حبّ الأدب، على أيدي فنانين أسطوات يهود، تمّ تهجيرهم في العهد الملكي (الوطني) إلى فلسطين المحتلة، وهذا ليس موضوعنا أيضاً. أي براعة فنيّة! أي توازن! تقف المكتبة بأبوابها الخشبيّة والزجاجيّة فائقة الأناقة على سيقان بهيئة أسطوانيّة تستدقّ في الأسفل، كأنها كعب حذاء امرأة فاتنة. مع كتب التاريخ والأدب، تحتوي الخزانة على دوريّات شهريّة من مجلّة «بوردا» الخاصّة بالفساتين والثياب والعطور والحقائب، كلّ ما يخصّ سِحر المرأة اجتمع في المجلّة، وصار مثل عالم جديد وفاتن، انعكس في عيني الطفل الذي تعلّم القراءة في الرابعة من عمره، وكان يشعر بأنه يصير إنساناً جديداً، أو أنه يُولد ثانية وبطريقة فنيّة هذه المرّة، كلّما تشبّعت عيناه بصفحات المجلّة الملوّنة؛ حيث ينام الورق على هدهدات خطوات فاتنات أوروبا، بأثوابهنّ وعطورهنّ وزينتهنّ.

شيئاً فشيئاً انعكس هذا الشعور على بقيّة الكتب في المكتبة. يفتح الطفل الصفحة الأولى ويكتشف أنه صار مخلوقاً جديداً؛ لأن ثمة امرأة تختبئ بين طيّاته، وكلّ كلمة تزداد عمقاً ومعنى، لكونها ترتفع في إطار من زينة وعطر ونور، وعندما يبلغ الصفحة الأخيرة، تتألّف عِشرة بينه وبين امرأة الكتاب، تُضيف صفة جديدة إلى تكوينه الأوّلي. بأي إيمان طفولي وإخلاص عجيب كنتُ أستكشف هذا الإغواء، وأنا جالس في حديقة البيت، أقرأ بين أشجار التفاح والسّدر والنخل، وهناك نافورة في الوسط! مُذّاك صار الكتاب وجوداً أبحث فيه عن روح وجسد متألقَين سوف يسكناني حتماً، وأصير بواسطتهما كائناً جديداً. يقول غوته: «نحن لا نتعلّم أي شيء عبر القراءة، وإنما نصبح شيئاً آخر».

في عمر الرابعة، جرّب الطفل -بالإضافة إلى القراءة- أول مرّة، كيف ينفصل عن روحه كي يستطيع رؤية المرأة التي هي غيرُ أمّه وخالته وأختيه؛ أنعام وأحلام. في مدينة العمارة كان هناك متنزّه اسمه «حديقة النساء»، وكنت أزوره بصحبة أمّي وخالتي وأختيّ. لن يغيب عن بالي مشهد الفساتين القشيبة ترتديها النسوة، مع الغموض في العيون الواسعة والكحيلة، وكانت زيارة الحديقة تمنحني الشعور ذاته بالسكينة وعلوّ النفس الذي يعقب معاينة صفحات المجلّة بتروٍّ، من أجل ألا يفوتني أي تفصيل.

عندما دخلت «البوردا» في حياة الناس أحدثت طموحاً شديداً لدى النساء، مع سعي مستمر للهروب من الواقع المتخلف. انتقلت الحياة في المدينة بفضل هذه المجلّة من عصور الظلام إلى المدنيّة. ما زلتُ أذكر مشهد خالتي جميلة وهي تدرس خرائط «الباترون» (ورق رقيق تؤشر عليه علامات تفصيل الثوب النسائي) تساعدها أمي أو أختي من أجل أن يكون المقاس والهيئة مطابقاً لما مثبّت في الصورة الموديل.

إن للمجلّة –الكتاب– القدرة على تغيير الواقع، كلّ الواقع؛ لأن المرأة هي كلّه، وعلى إنقاذ الرجل في الوقت ذاته. الكتابُ هدّامٌ وأخلاقي أيضاً، ويشبه تأثيره ما كانت تقوم به المجلّة النسائيّة في بيئة شرقيّة في مدينة العمارة؛ حيث كانت النساء ممتلئات بالمرارة، يتحجبن خارج البيوت بالعباءة والبوشي يغطي الوجه، قبل سنين قليلة فقط من دخول المجلة وانتشارها في مكتبات المدينة العامّة والخاصّة. هل نقول إن ما يفعله الكتاب لدى الفرد يماثل انعكاس تأثيره في المجتمع؟

إن جميع الأشياء في الوجود متصلة بشكل مقدّس، وإذا لم تكن تؤمن بقدرة السحر التي في الأشياء، فليس مسموحاً لك السكن في محراب الفنّ، وبالتالي العيش فيما يُدعى بالواقع، على أن يتملّكك هذا السّحر فلا يتركك إلا بعد أن يغيّرك بصورة كاملة. أكتب هذه الأسطر في مقهى على رصيف شارع العامل في مدينة الكوت، وصار لدي إحساس بأن ثمة شخصاً يراقبني بعينين حارّتين صديقتين. كان يمرّ في الشارع المزدحم طفل يقودُه أبوه ويبلغ نحو الرابعة. راح ينظر إليّ، ولمّا التقت عيناه عينيّ علَتْ محيّاه ابتسامة عريضة. ظلّ دائراً رأسه للوراء، يتطلّع إليّ عندما تجاوزاني هو وأبوه وصارا بعيدَين. هل انتقلت قوّة السحر في مكتبة خالتي إلى الطفل، فأصبح يعاينها بقلبه وعينيه وعقله؟! إنه افتراض لا يخلو من الصحّة إذا كنا نؤمن بأعاجيب عالمنا والقصص الخيالية والخرافات التي نعيشها، والتي يترجمها الأدباء إلى صور حقيقيّة على الورق؟ لو ثبتت صحّة الأمر لاكتشفنا مدى التأثير والقدرة على التغيير اللذين يحملهما مطبوع يخرج إلى النور وينتشر بين الجميع.



مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)

أكد البيان الختامي لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي اختُتم مساء السبت، إقامة مشروع بحثي فلسفي يدرس نتاج الفلاسفة العرب وأفكارهم وحواراتهم.

وبعد اختتام مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي أُقيم بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر «بيت الفلسفة» بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة؛ اجتمع أعضاء «حلقة الفجيرة الفلسفيّة» في مقرّها بـ«بيت الفلسفة»، وأصدروا بياناً دعوا إلى تأسيس نواة «اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية»، ومقرّه الفجيرة، وتشجيع الجمعيات على الانضمام إلى «الفيدرالية الدولية للفلسفة».

الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة خلال رعايته مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة (بيت الفلسفة)

وأكد البيان أهمية مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج العربي، مثل مشكلة الهوية وتعزيز الدراسات حولها.

ودعا للسعي إلى «الإضاءة على الفلسفة في العالم العربي وتمييزها من الفلسفة الغربية؛ لأنّ هدف بيت الفلسفة المركزي تعزيز الاعتراف بالآخر وقبوله».

كما دعا البيان إلى تعزيز دائرة عمل «حلقة الفجيرة الفلسفيّة»، بما يضمن تنوّع نشاطها وتوسّع تأثيرها؛ بدءاً بعقد جلسات وندوات شهريّة ودوريّة من بُعد وحضورياً، ومروراً بتعزيز المنشورات من موسوعات ومجلّات وكتب وغيرها، وانتهاء باختيار عاصمة عربيّة في كلّ سنة تكون مركزاً لعقد اجتماع «حلقة الفجيرة الفلسفيّة» بإشراف «بيت الفلسفة».

وأكد توسيع دائرة المشاركين خصوصاً من العالم الغربي؛ بحيث يُفعّل «بيت الفلسفة» دوره بوصفه جسراً للتواصل الحضاري بين العالمين العربي والغربي.

كما بيّن أهمية إصدار كتاب يجمع أعمال المؤتمرات السابقة. وبدءاً من العام المقبل سيعمد «بيت الفلسفة» إلى تعزيز الأبحاث المطوّلة في المؤتمر ونشرها في كتاب خاصّ.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة هو الأول من نوعه في العالم العربي، وتشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان: «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام التي بدأت يوم الخميس الماضي واختُتمت السبت، إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً بتعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة؛ مثل: الفلسفة، والأدب، والعلوم.

وتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطوّر الفكر المعاصر.

وخلال مؤتمر هذا العام سعى المتحدثون إلى تقديم رؤى نقدية بنّاءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث، ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي، ومفاهيم مثل «نقد النقد»، وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة خلال رعايته مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة (بيت الفلسفة)

وعملت دورة المؤتمر لهذا العام على أن تصبح منصة غنيّة للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

وشملت دورة هذا العام من مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتُتح اليوم الأول بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد «بيت الفلسفة»، وكلمة للأمين العام للاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتضمّنت أجندة اليوم الأول أربع جلسات: ضمت الجلسة الأولى محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

وضمت الجلسة الثانية محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أما الجلسة الثالثة فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما ضمت الجلسة الرابعة محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، وترأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما ضمّت أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش، وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

جانب من الحضور (الشرق الأوسط)

وتكوّن برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) من ثلاث جلسات، ضمت الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، وترأست الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وضمت الجلسة الثانية محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وضمت الجلسة الثالثة محاضرة للدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم أي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

وتكوّن برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تناولت الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي في طلاب الصف الخامس»، شارك فيها الدكتور عماد الزهراني، وشيخة الشرقي، وداليا التونسي.

وشهدت الجلسة الثانية اجتماع «حلقة الفجيرة الفلسفية» ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.