الخطيبي... تخلص مبكراً من الآيديولوجيا ورفض دور «المثقف المعارض»

15 عاماً على رحيل صاحب «المغرب أفقاً للفكر»

عبد الكبير الخطيبي
عبد الكبير الخطيبي
TT

الخطيبي... تخلص مبكراً من الآيديولوجيا ورفض دور «المثقف المعارض»

عبد الكبير الخطيبي
عبد الكبير الخطيبي

في أكثر من مرة، أشار عبد الكبير الخطيبي المولود في مدينة الجديدة، في الحادي عشر من شهر فبراير (شباط) 1938، المتوفَّى في الرباط، في السادس عشر من مارس (آذار) 2009، إلى أنه أقبل على القراءة مُبكراً؛ ففي مراكش، في مبيت المعهد حيث كان يَدْرُسُ، كان يَسْتعين بضوء مصباح كهربائي صغير ليغرق في قراءة أمّهات الكتب من مختلف الثقافات، الكلاسيكية والحديثة. ومرة عثر على مجموعة من قصائد «الهايكو» اليابانية، ففُتِن بها لتحرّضه على الإقبال على قراءة الأدب الياباني شعراً ونثراً. وفيما بعد، اهتمّ بالروائي الياباني الكبير تانيزاكي، مُخصصاً الجزء الأكبر من دراسته لكتابه «مديح الظل» الذي فيه يستعرض أهمّ خصائص الحضارة اليابانية قبل أن تُشوّهها الحضارة المادية والاستهلاكية الجديدة.

ذلك التكوين الصلب، والنّهل من مصادر ثقافية وفكرية وفلسفية وأدبية مختلفة ومتنوعة، حرّرا عبد الكبير الخطيبي من طغيان التأثيرات الفرنسية في كتاباته، وفي توجّهاته، وفي اختياراته، وجعلاه يُحلّق خارج سرب الكتّاب المغاربة الناطقين بالفرنسية، أولئك الذين يتوهّمون أن الثقافة الفرنسية هي «ثقافة العالم»، وأن اللغة الفرنسية «تسمو» على كل اللغات الأخرى، ليكونوا في النهاية «مُقلّدين» لا مبدعين وخلاّقين. لذلك تمكن عبد الكبير الخطيبي من فتْح آفاق مجهولة، ومن ابتكار طرق غير مسبوقة في الكتابة، وفي التفكير بالنسبة لأبناء جيله ليكون «مُفرداً»، و«نادراً».

كما تخلّص الخطيبي مُبكراً من أوهام الآيديولوجيات التي إليها انجذب جُلّ مثقفي جيله. لذا رفض منذ بداية مسيرته الأدبية والفكرية أن يلعب دور المثقف «المعارض»، أو «المنفي»، مُبتعداً عن كل التيارات التي تسعى لجره إلى العمل السياسي. وعندما كان المثقفون في بلاده يتبارون في استعراض معارفهم بخفايا «الصراع الطبقي»، وبمعاني «البنية الفوقيّة»، و«البنية التحتيّة»، مُعتقدين أن التحوّلات الجذريّة في مجتمعاتهم لا يمكن أن تحدث إلاّ عبر ثورة شبيهة بالثورة البلشفية، أو الثورة الصينية، أو الثورة الكوبية، كان هو «يحفر» في مجالات أخرى لفهم المجتمع المغربي... وهي مجالات تتصل بالأمثال، وبالوشم، وبالخط العربي، وبالخرافات والحكايات التي تعكس المخيال الشعبي في أروع وأبهى تجلياته... ومن خلال ذلك كان عبد الكبير الخطيبي يسعى إلى التعرف على طبيعة مجتمعه الرازح تحت أثقال من الجهل والتحجر والتزمت والانغلاق. وهو مجتمع لا يمكن أن يخرج من الظلام إلى النور إلاّ باكتساب المناعة ضدّ أمراضه وعُقَدِه، وبالكشف عن خاصياته، وعن هويته المطموسة، وعن تاريخه المُزوّر والمُغيّب.

غير أن كل هذا لا يعني أن عبد الكبير الخطيبي ينفر من الخوض في السياسة، وقضاياها الشائكة والمعقّدة، بل هو يعتبر نفسه «مُلتزما نظريّاً»، و«بشكل راديكالي»، بقضايا يعلم جيداً أنه يمكن أن يكون فاعلاً ومؤثراً فيها. لذلك هو لم ينقطع طوال مسيرته عن الدفاع عما سمّاه بـ«المغرب المتعدّد»، وهو يعني بذلك بلدان المغرب العربي الثلاثة، أي تونس، والجزائر، والمغرب. ومُدركاً أن الثقافة «توحّد»، و«تُجَمّعُ»، عكس السياسة التي «تفرّق»، و«تشتت». دأب على دعم ومساندة كل سعْي، وكل نشاط، وكل شيء آخر يُساهم في توثيق العلاقات الثقافية والفكرية والفنية بين البلدان الثلاثة، مُؤكداً في كل مرة على أن هذه البلدان يجمع بينها تاريخ واحد ومصير واحد. لذا فإنه لن يكون لها مستقبل إذا ما سلّمت أمرها لسياسيين بلا رؤى واضحة، وبلا مشاريع تاريخية...

أول لقاء لي بعبد الكبير الخطيبي كان في خريف عام 1983 بباريس، وبمقهى «كلوني» الواقع في زاوية التقاطع بين جادة «سان ميشال»، وجادة «سان - جارمان - دو بريه». كان آنذاك عائداً من استوكهولم حيث أمضى الصيف ليصدر فيما بعد رواية بعنوان «صيف في استوكهولم» فيها يروي قصة حب عاصفة قد يكون عاشها هو نفسه. وفي تلك الظهيرة المشرقة بأنوار خريف بديع، بدا بحيوية شاب شرع للتوّ في تذوّق ملذّات الحياة... في البداية، قال لي باسماً: «منذ سنوات انقطعت عن التدريس، ربما لأنني شعرتُ بأنه يتوجب عليَّ أن أتعلم من الحياة من جديد، حتى لا أصاب بالتحنّط والتكلس والجمود... والآن أنا أتمتع بحرية تسمح لي بأن أسافر، وبأن ألتقي بشعراء وفنانين ومفكرين يشيع في نفسي الحوار معهم حيوية ونشاطاً أحتاج إليهما للتجدد... التدريس يجبرني على أن أكرر نفسي، وأعيد الأفكار ذاتها التي كنتُ قد استعرضتها قبل سنة أو سنتين، أو أكثر من ذلك... لذا انسحبتُ من التدريس لأهتمّ فقط بقسم الدراسات والبحوث في جامعة الرباط»... صمت قليلاً، ثم أضاف: «قبل أيام قليلة عدتُ من استوكهولم... عشت هناك تجربة عاطفية وروحية ومعرفية مُهمّة للغاية... وأنا سعيد بذلك أيما سعادة».

قلت له: «أنت تحظى بشهرة كبيرة هنا في فرنسا... وبشهادة كبار مفكريها ونقادها، أنت مِن أفضل مَن يكتبون بلغتها... لذا يمكنك أن تكون أستاذاً في أي جامعة مرموقة هنا في باريس... فلماذا إذن تحب أن تعيش وتعمل في المغرب؟

أجابني قائلاً: «وهل سأكون مفيداً هنا؟ فرنسا عندها كتّابها ومفكروها وشعراؤها... وإذن أي دور سيكون لي فيها؟ وأنت تعلم أني كتبتُ أكثر من مرة عما أسمّيه بـ«التحرر الثقافي والفكري»؛ إذ لا يكفي أن يتخلص المغرب أو بلد آخر من الاستعمار، بل عليه أن يتخلص أيضاً من التبعية الثقافية والفكرية لتكون له هويته الخاصة به، ولكي يتمكن من الخروج من ظلمات الجهل والتخلف والانغلاق... وهذا التحرر الذي أطمح إليه، لا بد أن يتمّ على يد أبناء بلدي. لذا يتحتم عليَّ أن أكون مُشاركاً، وفاعلاً فيه... وأنا عدتُ إلى المغرب سنة 1963. ومنذ البداية ساهمت بقوة وبحماس في الحركة الثقافية هناك... وهنا أشدّد على كلمة «ثقافية» لكي أؤكد على أنني حرصت على أن تكون أعمالي ونشاطاتي بعيدة عن الصخب السياسي والآيديولوجي. غير أن ذلك لم يمنعني من أن أكون أحد المؤسسين لنقابة التعليم العالي. وفي تلك المرحلة كنت أبحث عن نفسي. لذا كانت كل جوانب الحياة في المغرب تستثير اهتمامي في البحث، وفي الكتابة».

سألته: كيف تحدّدُ إذن دور المثقف؟ فردّ عليَّ قائلاً: «المثقف هو المُتَلَقّي والمُبْرقُ لدلالات عصره، هذا إذا لم يكنْ هو نفسه مُبدعاً ومُبتكراً. سواء كان مُحافظاً، أم مُصلحاً، أو مُخْتَرعاً، فإن المثقف يؤدي وظائف مُتعددة بدرجات مختلفة من القوة والحماس والمثابرة... والحقيقة أني ملتزم جداً في كل ما أفعل، وفي كل ما أقدمه للقراء... غير أن الالتزام بالنسبة لي حتى وإن هو احتفظ بمعناه، كما حدده سارتر، يعني أساساً تحويل كل ما أشعر به، وما أفكر فيه، إلى شكل ما في الأدب، وفي الكتابة عموماً».

ومُلخِّصاً طريقته في التفكير، قال الخطيبي إنه يبدأ أولاً بـ«مراجعة» جملة من العلاقات، أوّلها العلاقة مع الجسد لكي لا يكون في النهاية مجرد مصدر للخطيئة وللشر، بل قوة خلاقة، ومنبعاً ومَصبّاً للرغبات. وأما العلاقة الثانية فهي مع المقدَّس حتى ننزع عنه كل ما يفصله عن الأرض لينعكس بذلك في المعمار، وفي الفنون، وفي التعابير الصوفية حيث اللامرئي يتوالد في المرئي. وفي النهاية، هناك العلاقة مع اللغة لكي تتخلص من انغلاقها على نفسها، ولكي تنفتح على اللغات الأخرى، ومعها تتحاور، وتتجاوب، لكي يكون الاختلاف هو المثْري والمغذي لها».

* كاتب تونسي


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!