أسرار الطبقة الأرستقراطية على لسان «سفرجي»

أسرار الطبقة الأرستقراطية على لسان «سفرجي»
TT

أسرار الطبقة الأرستقراطية على لسان «سفرجي»

أسرار الطبقة الأرستقراطية على لسان «سفرجي»

عن دار «تشكيل» بالقاهرة، صدرت رواية «سفرجي الملوك» للكاتب المصري محمد جاد، الذي يستهل عمله باقتباس من الكاتب الروسي أنطون تشيخوف يقول فيه: «حين لا تحب المكان استبدِله، حين يؤذيك الأشخاص غادِرهم، حين تصاب بالإحباط اقرأ بشغف، المهم في الحياة ألا تقف متفرجاً».

ولا يبتعد هذا الاقتباس كثيراً عن أجواء العمل، فالشخصية الرئيسية «مصباح» شاب يعول أسرته، ولا سيما أخته «قلوب» المصابة بمرض خاص، كما أنه يساعد شقيقته الأخرى المتزوجة «مجيدة». يناضل البطل من أجل توفير لقمة عيش شريفة، ويرفض أن يكون «متفرجاً»، في حين أن كثيرين من الجموع فضّلوا أن يقفوا «متفرجين» ومستسلمين لمصادر الإحباط والمعاناة.

تقتحم الرواية عالماً غير تقليدي على صعيد السرد المصري، وهو «مهنة السفرجي» الذي يقدم الطعام والشراب في الفنادق والمطاعم الكبرى وسرادقات الأفراح والعزاء. ويُسهب النص في وصف خفايا عالم القصور، وأسرار الطبقة الأرستقراطية، من خلال عين شاب مكافح وشريف قادم من بيئة متواضعة اجتماعياً ومادياً، ما يسهم في نمو الصراع درامياً بشكل تلقائي بسيط، ويجعل التشويق في تصاعد مستمر.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«وصلتُ إلى البيت بعد عمل يوم شاق، فوجئت بوجود (مجيدة) وزوجها حمدي، وبعدما رحبتُ بهما انتفضت مجيدة من جلستها وارتمت في حضني. لم تكن في حالتها الطبيعية، ظننت، في بداية الأمر، أن هناك ما يعكّر صفوها مع حمدي، هدّأت من روعها قليلاً حتى صرّحت لي بما أصابها، أخبرتني بكلمات متقطعة بأن (قلوب) خرجت، منذ أمس، ولم تعد للبيت. صعقني الخبر. أجلستها بهدوء في مكانها، ورميت جسدي المنهك على سرير (قلوب)؛ في محاولة لامتصاص الصدمة. وقبل أن أعاتبها وأعاتب حمدي على عدم إخباري فور اختفائها، توسلت إليّ مجيدة أن أسامحها على ذلك. تركتهما مهرولاً خارج البيت، وغصت في الحارات والشوارع والأزقّة والميادين أبحث عن روحي، أنادي عليها بصوت مجنون، سألت عنها كل من يحبها وكل من يسخر منها.

دخلت إلى كل فرح وعزاء، لم أجد (قلوب). صرت كالمجذوب في الشوارع، أنادي بأعلى صوتي؛ أملاً في أن تسمعني، لكن لا جدوى. شعرت في هذه اللحظة بأن المدد الوحيد الذي يمنحني القوة والعزيمة قد ذهب بلا رجعة، شعرت بأن إرادتي تتلاشى، واصلت بحثي عنها حتى منتصف الليل، ولا شيء. رجعت منكسراً حزيناً إلى البيت، استقبلني حمدي واحتضنني فهو يعلم مكانة (قلوب) في قلبي. كانت (مجيدة) منزوية في ركن من أركان الغرفة غارقة في دموعها، تعودنا على أن تخرج (قلوب) من البيت، لكنها تعود بعد ساعات قليلة. هذه هي المرة الأولى التي تبعد فيها عن البيت ليلة كاملة، بل ستكمل ليلتها الثانية غائبة في طيات المجهول، ومن يعلم إن كانت ستعود أم ستختفي مدى الحياة؟».



«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ
TT

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث». رفضاً للتجاهُل وتغليب السكوت، تُصدر دار «رياض الريس للكتب والنشر»، من بيروت، كتاب «معتقلون ومغيّبون» في القضية السورية، بيقين أنّ «الفنّ يوثّق والأرشيف يتحدّث»، كما أعلن غلافه الأحمر بتسجيله هذا الموقف.

انطلق الكتاب من واقع اعتمال مسألة الاعتقال والتغييب في وجدان عموم السوريين، وتحوّلها لتكون «من المشتركات الوحيدة تقريباً بينهم اليوم». تؤكد إنسانية الملف، وبُعداه السياسي والحقوقي، أهمية الكتاب، ليُكمل ما أرسته الملاحقات والدعاوى والأحكام القضائية في بلدان اللجوء، وتحديداً أوروبا، ضدّ مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.

يعود الكتاب إلى ما وثّقته «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» التي تؤكد «بلوغ حصيلة الاعتقال التعسفي في سوريا منذ مارس (آذار) 2011 حتى مارس 2024 ما لا يقلّ على 156757 شخصاً، فيما بلغت حصيلة الضحايا بسبب التعذيب خلال المدّة عينها ما لا يقلّ على 15393 شخصاً. أما حصيلة الاختفاء القسري حتى 30 أغسطس (آب) 2023، فبلغت ما لا يقلّ على 112713 شخصاً؛ بشكل أساسي على يد النظام، تليه جميع قوى الأمر الواقع المسيطِرة».

هو لا يدّعي النقد الفنّي ولا البحث التحليلي، وفق مقدّمته. «إنما الكتابة التوثيقية والراصدة، تُسهم في بناء المعرفة عن واقعنا السوري، وتبحث وتُنقّب وتجمع وتؤرشف، وتربط الأحداث والأفعال». فترصد الصفحات الـ474 ثيمة الاعتقال والتغييب منذ عام 2011 حتى نهاية 2020، استناداً إلى ما شهده مجالا الفنّ والثقافة؛ وذلك على مستويين: الأول يرصد بشكل مباشر مبدعين اعتُقلوا أو خُطفوا أو قُتلوا ضريبةَ موقفهم المُعارِض من النظام، المُعبَّر عنه في أعمالهم الفنّية أو أنشطتهم الفعلية خارج الفنّ؛ وهو ما دَرَج بكثافة في سنوات الثورة السورية الأولى، ليرصد المستوى الثاني - عبر الأعمال الإبداعية المختلفة - مَن اعتُقل أو غُيِّب من المواطنين والمواطنات بُعيد الانخراط في الشأن العام والعمل المُعارِض.

طوال السنوات العشر الماضية، تتبَّع فريق «ذاكرة إبداعية» هذه الثيمة، مُحدِّداً الاعتقال الأول بأطفال درعا الذي شكَّل شرارة انطلاق الثورة السورية، مروراً بالتطوّرات والتحوّلات في مسألة الاعتقال والتغييب، سارداً تفاصيل الأحداث اللاحقة والمتوالدة من إضرابات وعصيان في السجون، وحملات وتحرّكات ومبادرات في الداخل السوري ودول اللجوء، وصولاً إلى جهود تدويل هذه القضية سعياً نحو العدالة، والتجاذبات السياسية حولها، والمحاكمات الدولية. ذلك وسط تأكيد الموثّقين على «الموضوعية والحيادية، بغرض تثبيت الأحداث وحفظها من الضياع».

يتناول كل فصل من الفصول العشرة التي تؤلّف الكتاب، سردية عام كامل؛ فيبدأ بمقدمة تُلخّص المعطيات والأحداث المفصلية خلال السنة، يليها عرض مفصَّل لِما توصّل إليه الباحثون من «انتهاكات النظام وكل قوى الأمر الواقع، والأحداث التابعة لها والناتجة عنها، وفق المكان والزمان، استناداً إلى مئات المصادر في كل فصل، وما تبع ذلك من تحرّكات داخلية وخارجية، شعبية أو فردية أو جماعية، وحملات في وسائل التواصل».

وبفعل البحث، اكتُشفت مئات الأعمال الفنية والثقافية، المرتبطة بالثيمة المُعالَجة بمختلف أنواعها، وجُمعت، ثم وُثِّقت تباعاً؛ لترصد خاتمة الكتاب امتداد الأحداث الرئيسية المتتابعة المتعلّقة بالاعتقال والتغييب، التي حصلت بعد عام 2020 حتى تاريخ الانتهاء من إعداده.

يضيف عرض الأعمال الفنية والإبداعية والثقافية، إلى جنس الكتاب التوثيقي، بُعداً بصرياً. فاللافتات، والغرافيتي، ولوحات الفنّ التشكيلي... المُحاكية للإشكالية، يَسْهُل تصفّحها بواسطة وسوم وفلاتر متنوّعة، مثل: أصناف، أصحاب أعمال، مناطق جغرافية، تواريخ، وسوم عامة ووسوم خاصة؛ إذ وُضعت لهذه الأعمال، بأغلبيتها، السياقات المرتبطة بها. أما دليل مشروع «معتقلون ومغيّبون»، فيحسبه الكتاب «الأول من نوعه الذي يجمع في مكان واحد جميع أنواع المبادرات المتخصِّصة أو التي تُولي موضوع الاعتقال والتغييب اهتماماً فريداً». ويتابع أنه «يحوي توثيقاً كبيراً للمبادرات، بلغت 155 مبادرة موزَّعة في تصنيفات متعدّدة، مثل: مراصد حقوقية دولية، ومراصد محلية وإقليمية، ومنظمات وجهات، ومجموعات، وحمَلات مُناصرَة ومبادرات فردية، ووسائل تواصل اجتماعي»، مع التأكيد على دور هذا الدليل في فهم طبيعة عمل المبادرات والأنشطة والفئات المُستهدَفة.

من الصعوبات والتحدّيات، وُلد الإصدار. فالكتاب يشير إلى شقاء تلك الولادة، لتضارُب تواريخ الاعتقال أحياناً، وتواريخ تخلية سبيل المعتقلين، وتواريخ تنظيم الحملات والمبادرات. ثم يتوقّف عند «تباين المصادر الحقوقية لدى تناول حدث بعينه واختلافها، بشأن أعداد المعتقلين والمختفين قسراً والشهداء تحت التعذيب». ويُكمل عدَّ صعوبات المسار: «صعوبات مُرهقة تتعلّق بروابط بعض المصادر، لاختفاء بعضها في أثناء العمل أو بعده لأسباب خارجة على إرادتنا؛ ما فرض البحث عن مصادر بديلة، وإضافة أخرى جديدة لدى مراجعة الدراسة وتدقيقها»، من دون استثناء تحدّي شحّ المعلومات والمصادر عن حدث، والتحدّي المعاكس ممثَّلاً بغزارة المصادر والمراجع والمقالات المتعلّقة بأحداث أخرى.

كثيراً ما تساقط دمعٌ خلال البحث والكتابة، وغدر النوم بالباحثين أمام هول الاعتقال والتغييب. ولأنّ كثيرين فقدوا قريباً، أو صديقاً، أو جاراً، أو حبيباً، شاؤوا الاعتراض على «وحشية الظلم»، مدركين أنّ «طريق العدالة الطويلة بدأت، ولو خطوة خطوة».