حِراب

قصة قصيرة

حِراب
TT

حِراب

حِراب

تنبّه الطّبيب إلى السّيف المتدلّي من قربوس سرج حصان اليسقجي (الحارس) الذي كان في استقباله. كان الطّبيب يمتطي حماراً أبيضَ، لكنّه خفيف جداً بحيث تطلّب اللّحاق به جهداً من حصان اليسقجي، وكان الطريق هادئاً رغم طوله، وهنالك بعض أشجار الصّفصاف تحني ذؤاباتها حتى تلامس العشب. خفّف الطّبيب من سرعة حماره، ثم سارا متلاصقين يكاد كتف أحدهما يلاصق كتف الآخر. لم يتكلّما بشيء، ولم يكن بإمكان الطّبيب تحاشي النّظر إلى الحربة المثبتة في حزام الحارس. هل ضاقت الأزقّة؟ سارا في درب محصور بين صفّين متقابلين من الأبنية، وظهر لهما كلب ملتفّ على نفسه حين بلغا القنطرة، ولم يعبراها. كانت الطّريق تتحدر انحداراً خفيفاً، وهبطا إلى جرف ينعطف عنده النّهر، وخفّت أقدام الدّابّتين وهي تجري سريعة في نفق ينتهي عند بوّابة قصر الأغا، وكانت الشّمس تسرع لتختفي بين الغيوم.

وقعت عينا الطّبيب على الحرس ذوي الوجوه الملتحية، واضطربت نفسه من جديد. قادوه على رصيف من المرمر الأحمر والأزرق والأبيض والأسود، وكان يتمّ الدّخول إلى القصر عبر ردهة من خزف الميوليق. لأوّل مرّة يرى مزهريّات من الذّهب والفضّة، وقناديل غريبة الأشكال. لأوّل مرة تقع عينه على سقف مزخرف بالأكاليل وغيرها من المنمنمات والزّخرفات والمحفورات. المريض هو الأغا، وكان فاقدَ الوعي، جبهته متغضّنة ويمتلك وجهاً مهيباً مزيّناً بلحية فضّية. كان يرقد على سرير له ذي أعمدة صغيرة، مؤثث بستائر حريريّة حمراء. يُشاع عن الأغا أنه أوقع 15 ألف رأس من الرعايا من رقابها، في حملاته لإرهاب القبائل المتمرّدة الممتنعة عن أداء الضرائب، وكان السلطان يدعوه الخادم الجدير الشديد المستبد؛ لأنه يُهلك سكان بعض القبائل بأكملهم. وكانت الرؤوس المقطوعة تملّح في الحين وتُرسل، لتزيّن أسوار المملكة بأمر السلطان. عندما جسّ الطبيب نبضه، كان طبيعيّاً وقويّاً، بالنسبة إلى رجل فاقد الوعي. كان يرسل شخيراً أجشَّ، ويداه الخشنتان تستلقيان هامدتين فوق الغطاء، عليهما آثار العنان والسلاح. لم يستطع الطبيب منع نفسه من الابتسام ابتسامة داخلية، مفكراً كيف يصل عادة متأخراً لإبعاد شبح الموت.

الأغا، ذو الرأس الضخم والعنق الغليظ والجذع الربيل، كان في حالة اللاّ حياة واللاّ موت، والتي لا تطول كثيراً، وإذا طالت صارت عذاباً للطبيب المعالج، ونظراً إلى ضخامة جسد الأغا فإنّه يتوقع أن يستغرق وقتاً طويلاً في موته، بل هو ربما بقي حيّاً قرناً من الزّمان تلو قرن، إلى درجة أنه لا يموت. «إنه يحتضر!». قال الطبيب، وأتت من ذراعيه حركة دلّت على عجزه عن تقديم المساعدة. امتلأت القاعة في هذه الأثناء من بطانة الأغا وأبنائه حتى ضاقت الأنفاس. كانوا يخلعون صنادلهم عند الباب جرياً على العادة، ويلثمون طرف غطاء الأغا، وراحوا يحيطون بالطبيب، وسيوفهم وحرابهم في أوساطهم. أفهموه، دون كلام، أن عليه أن يعطيه دواءً. قال أحدهم، وكان مستلقياً بلا مبالاة على وسادة عريضة مغطاة بزريبة فارسيّة: «نحن لا نطلب منك أن تعالجه. نحن نأمرك أن تقوم بذلك». كان يبدو أكبر سنّاً من الجميع، يرتدي ثوباً طويلاً أسود اللون، ويمسك بيده سبحة من عاج وعيناه محجوبتان بنظّارتين سوداوين. على الحيطان سيوف معقوفة ذات مقابض من عاج وبنادق ذات سبطانة مرصّعة بالذهب، وحواضنها عليها نقوش بعرق اللؤلؤ والمرجان.

شعر الطبيب بحرقة مفاجئة تجفّف حلقه، وضمّ قبضتيه محاولاً تجرّع هذه الإهانة. الأثاث هنا مثقل بالزخرفة، ومرايا الحيطان منحوتة بأشكال وحوش غريبة. تنانين وسلاحف وأفاعٍ، مع فسيفساء ممزوجة بنقوش عربيّة. بحث الطبيب في حقيبته، واستخرج علبة معينيّة الشكل، على غطائها منظر صيد. تناول منها، بأطراف أصابعه، رقاقة خضراء، ولكنها بدت سوداء في الوقت نفسه. همس أحد الحاضرين في أذن الرجل ذي النظّارتين، الذي وجّه سؤاله بصوت اعتياديّ، ولكن بنبرة غاضبة: «ما هذا؟». وأجابه الطبيب: «لصقة بصل اللّحلاح». كان منظر الرقاقة صلباً، ولكن الحاضرين ظنوا أنها على وشك أن تذوب بين أصابعه. فرشها على جبهة الأغا، ثم وضع اثنتين منها على الوجنتين، وعلى الفكّين، وملأت الجوّ رائحة طيبة وغريبة تشبه رائحة خبزة زعتر، وكان الصمت قد التهم الوجود كلّه، وانكمش العالم على إيقاع يدي الطبيب. الهواء قليل هنا لأن النوافذ محكمة الإغلاق، والرّجل ذو النظارتين السوداوين ينظر إلى الأعلى، ويهزّ رأسه أحياناً. أربعة أصابع من يده اليمنى مشبوكة مع أربعة من يده اليسرى، وراح يدير إبهاميه فيتلاحقان أو يختلفان. ضوء النهار المتدفق من النافذة القريبة اختزنه الخاتم الذي في بنصره في بقعة ضئيلة من لونه البنّي الناصع. قال، وفي نبرة صوته احتقار واضح: «هناك عقار يستقطره الأطباء في الهند من النجم في السماء، ومن اللؤلؤ في المحيط. هل تعرفه؟». عدا صوت شخير الأغا، كان الهدوء في الغرفة شاملاً، وبسبب توتّر الجميع، لا يحسّ به أحد. انتبه الطبيب لأول مرة إلى أبواب الصالة العالية والواسعة والسجاجيد الفاخرة المفروشة، والستائر والوسادات والديوانيّات الموشاة بخيطان من ذهب، وإلى التدويرات والمنحنيات والأزهار الصفراء والبنفسجية المشغولة بنعومة على لحاف الأغا. تمتم مرتعشاً، متيبس الشفتين: «سيدي، أنا لا أملك علاجاً غير ما في حقيبتي. لكن الأغا في حالة خطرة...». وتوقف عن الكلام لأن الحياة انبعثت في الجسد الهامد. ابتسمت عينا الأغا أولاً، وانفتح الفم الضخم على اتساعه، وارتعشت الكتفان برجفات قصيرة ثم سكنت، وتوقف إبهاما الرجل ذي النظارتين عن الدوران.

فتح الأغا عينين سوداوين كبيرتين حولهما إطار أسود من الكحل. صار الآن أكثر طولاً وضخامة. ظلّ الجميع، بمن فيهم الطبيب، يحتفظون بنظرته الرمادية للحظة طويلة، وكانت تمنح انطباعاً غريباً. كلّ شيء يبدو كأنّه في انتظار أمر ما. لكم هو ساكن هذا البيت! كان الأغا يقظاً، ولم يشعر أبداً في السابق بمثل هذه اليقظة. كان يرتدي كسوة حريريّة حمراء، وذراعاه الهامدتان تتحسّسان شرشف السّرير الأبيض. وعلى الفور فاحت في المكان موجة من العطر الرخيص ممزوجة بالرائحة الخاصة لحرير قديم. ودّ الأغا لو يمضغ خبزةً. لم يكن هنالك خبز قريب. رفع أحد الحاضرين ظُلّة النافذة. هو ذاك العالم، تفّاحات خضر صغيرة معلقة بالأغصان، صيحات مكتومة لأطفال يلعبون، هديل حمامات تقف أعلى السلم، الذي يهبط إلى حوش منفصل يسمح بدخول أشعة الشّمس عبر نوافذ واطئة، غير النوافذ الواسعة التي تحتل الأركان، وصار النهار مرتجفاً، ففي الوقت نفسه الذي تشرق فيه الشمس كان المطر يتساقط على النوافذ المغبشة في خيوط ثخينة مثل الدموع. يحدس الأغا ما في الحوش من الصمت الذي يتلألأ فيه المطر. «انظروا، ملاك آخر في السماء». قال الأغا، وكان يصغي إلى صمت مكين شامخ حلّ في الجوّ، وكان محمّلاً برائحة الخبز. ثم سمع تناوح ريحٍ، وكان يشعر أن روحه تتحلّل، ببساطة شديدة، وتغادر عبر النافذة. أراد أن يدافع عن نفسه، لكنه لم يستطع الحراك، وأطلق صرخة لم يسمعها أحد غيره، واعترت بدنه الضخم رجفة، وأخرج صوت آهٍ عريضة لفظ أنفاسه عند نهايتها.

كم تغيّرت هيئة الأغا وهو ميّت! صار شبحاً صامتاً ومهيباً. صار تمثالاً للصمت. «لا أستطيع أن أعبّر عن أسفي لأن جلالته قضى نحبه! لم يكن في وسعي فعل أكثر مما فعلته». كان كلام الطبيب جاهزاً، كأنما قاله مرات عديدة في مواقف شبيهة. لاحظ أن عيون الحاضرين تتحاشى الالتقاء بعينيه. وكان يجمع أغراضه في الحقيبة، عندما أخذ الرجل ذو النظّارتين ينقر الطاولة بأصابعه السمينة والمشغولة بالخواتم نقرات خفيفة جافّة، كأنها تريد القول بأن أمامها عملاً صعباً عليها أن تنجزه. في حركة مباغتة نزع نظّارتيه، فرأى الطبيب عينيه، وكانتا ميّتتين. صرخ: «لماذا قتلتَ الأغا؟ من الذي دفعك للقيام بذلك؟» لم ينتظر الجواب. رفع إبهاميه إلى أعلى، وانهال الحاضرون على الطبيب طعناً، ومزّقوه بالحِراب.


مقالات ذات صلة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

ثقافة وفنون الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة.

ندى حطيط
ثقافة وفنون سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام.

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك

مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

كرّم وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي، مساء اليوم في الدوحة، المفكّر والأكاديمي السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)

في كلّية الطب

في كلّية الطب
TT

في كلّية الطب

في كلّية الطب

باستثناء عبق الذكريات، لديّ القليل مما أفكر فيه الآن كي أصير مثلما تشاء نفسي، وإنني أتساءل أحياناً: بماذا تُفيدُني الذكريات، وأنا أرويها مثل حكاية مهدّئة للنفس؟ إننا نستدعي الأدب لإحياء ما فات من سنيننا، فاللغة ليست أداةً للتواصل فحسب، وإنما هي فضاء حيّ للتذكّر. سأحظى وفق هذا المفهوم بمتعةِ تخيّلِ لوحةٍ فيها رفاقي في أيام الدراسة، وأخشى أن يرسم اليراع أخيلةً بائسةً لا غير، إذا ما قُورنت بالحقيقة.

يقول صاحب المثل القديم: «بغداد أكبر من العالم». نحن في حيّ باب المعظّم، نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، حيث يُناهزُ ارتفاع الأشجار علوّ صوتِ المؤذّن من الجوامع السبعة القريبة؛ جامع الأزبك والمُراديّة والأحمديّة والحِيدرخانة والسليمانيّة والسراي والعاقولي، وجميعها بُنيت عندما كانت بغداد ولاية عثمانيّة. على شاطئ نهر دجلة القريب قامت الكلّيّة التي حصلتُ فيها على شهادة الطبّ، وأسّسها الإنجليز الذين حكموا العراق عقب الحرب العالميّة الأولى، وكان أوّل عميد لها سندرسن باشا، طبيب العائلة المالكة في العراق، وهذا الكلام لا أقصد به التباهي ولا التأسّي، ولا منزلة بين منزلتين، وربما خلص قارئ المقال إلى فحوى لم تكن في البال، ووظيفة الأدب هي السير به في هذا القصد.

في مبنى الكليّة يُطالعُ الزائرُ أولاً سلّماً حلزونيّاً يرتفع برشاقة إلى هيكل شبه دائريّ، هي المكتبة التي تُشرفُ على حديقة حافلة بالورود. يا لجلالة من يجلس عند طاولة هناك، ويُذاكرُ علوم الطبّ! في ذلك اليوم البعيد مرّ بالمكان شيخٌ، وأشار إلى المبنى قائلاً:

- هذا من صُنعِ يدي.

كان الشيخ يقصد المشفى القريب من الكليّة لغرض العلاج، وزار المكان ربما ليتأكّد أن البناء سوف يظلّ حيّاً بعد موته. بعد أن دخلتُ المكتبة واسترحتُ، ومن النافذة القريبة ظلّت آثار خطوات الشيخ على الدرب ماثلة أمامي. لهذه الذكرى من القوّة أنّها تبدو الآن حقيقيّة، وأشاءُ أن أنتسبُ إلى البنّاء البغدادي هذا، في طريقي في العلم والأدب والمعيشة، والأهمّ من ذلك، سماع صوت الوطن في أيّ مكان أحلّ به. ثم تمضي خطوات الزائر إلى الكليّة في ساحات وأبنية وحدائق تناهز مساحتها ثلاثة كيلومترات مربّعة، وتبدو مثل قطعة حرير موشّاة بجواهر قديمة وجديدة. في تلك السنين كان هناك جوّ من النهوض العامّ في البلاد، فالرئيس الشابّ صدام حسين متحمّس لنقل البلد بخطوات واسعة إلى دولة متقدّمة ومزدهرة، وفي الوقت نفسه كانت الحرب العراقيّة الإيرانيّة تقرع الأبواب بقوّة، وكانت فاتحة لسلسلة من الحروب، وهذا ليس موضوعنا.

إذا أردتَ السؤال عن مستوى جامعة ما، عليك بفحص قاعة الدرس فيها، وكانت عبارة عن صرح فخم يشبه ما في أروقة الأمم المتحّدة، فيه جناحان يفصل بينهما مدرج عالٍ، الأيمن يضمّ طالبات وطلّاب العاصمة، والجانب الأيسر خُصّص للوافدين من المحافظات، والفروق بين شاغلي الجناحين عديدة، رغم أن المستوى المعيشيّ متساوٍ تقريباً، وهي الطبقة المتوسّطة العليا، أو دونها بقليل. يعود التباين بالدرجة الرئيسيّة إلى اختلاف البيئة في القرية عنها في المدينة، والتشدّد الديني لدى بعض العائلات الحضريّة. من هذه الفروق اختلاط الجنسين في الجانب الأيمن من القاعة، بينما انقسم الذكور والإناث في جهة اليسار بحدّ قاطع مثل شفرة السكّين، الطالبات في الصفوف الأماميّة فحسب، كأنهن يشغلن القسم الخاصّ بالحريم في البيوت الشرقيّة، كما أن الحجاب والجبّة الإسلاميّة هما اللباس السائد، وبألوان كامدة بين السواد والرمادي والبُنّي الغامق، كأن عتمة رماديّة حزينة تسود الجوّ في هذا الجانب، في الوقت الذي انشغلت طالبات القسم الأيمن بالأناقة والشياكة اللتين مصدرهما أسواق بغداد ذلك الزمان، وكانت تضاهي بيروت وباريس ولندن، والمشهد هنا يشبه غماماً سديميّاً يتخلله شعاع ذهبيّ، مصدره، بالإضافة إلى الثياب القشيبة، حديث الطالبات والطلّاب باللهجة البغداديّة الغنيّة بالتوافقات النغميّة الساحرة. الفتيات، بقمصانهنّ البيض، كأنهنّ أزهار بيضاء مزهرة، وبمناديلهنّ المعطّرة وابتساماتهنّ الرقيقة الرضيّة، يبدين مثل أيقونات سعيدة تُثبت للعالم بنورها وهدوئها أن الفعل «تبغدد» لا يزال حيّاً، رغم جور الزمان على مدينة بغداد. قُلْ هي حياة من نوع آخر كانت تسود هذا الجانب من الصرح الدراسي، وكنتُ موزّعاً في الحقيقة بين الجانبَين، لأني وُلدتُ في مدينة العمارة، وأسكن العاصمة، لكنّ قلبي كان يميل إلى جهة اليمين، فصار مقعدي الدائم، تقريباً، هناك.

حميَتْ بمرور سنين الدراسة ضراوة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وكانت البلاد تسير بخطى ثابتة باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب، بما فيهم رفاقه وأصدقاؤه وأهل بيته، وكانت لنا، نحن الدارسين، حصّة منها، على نوعين في جانبي قاعة الدرس، عذابات مضيئة، وأخرى مُرّة. دار الزمان منذ ذلك التاريخ أربعة عقود عشناها بصورة شاقّة وصعبة، أخشى أنني لست في حاجة إلى أن أصفها بأنها صراع يستدعي قوّة وشجاعة هائلتين كي نجتاز أربع حروب كُبرى: حرب الخليج الأولى والثانية والغزو الأمريكي والحرب الأهليّة، وتفرّقنا شتاتاً في الأرض، ثم اجتمعنا ثانية في منصّتين على «الواتساب» من الغريب أنهما تشبهان نصفي القاعة التي تلقّينا فيها العلم في سنين الدراسة. من يستطيع أن يقرأ هذه المعادلة بوضوح، ويؤمن بنتائجها؟ منصّة «واتساب» تضمّ من كان يجلس في جهة اليمين، وأخرى تجمع جماعة الميسرة، وهم القادمون من خارج العاصمة، الغالبيّة منهم ينحدرون من بيئات ريفيّة، أو مدنيّة تسود عوائلها أفكار دينيّة متشدّدة، والملاحظ أنها البيئة ذاتها التي نشأت فيها أحزاب اليسار في السابق، والأحزاب الإسلاميّة فيما بعد، مثل «حزب الدعوة» الذي كان نشطاً في تلك السنين.

كأن تاريخ العراق الحديث يمثّله الصَّرح الدراسي في كليّة الطبّ بطوبوغرافيته التي ذكرتُها، حيث يشتدّ الصراع غالباً بين قوى اليمين واليسار، أو بين السنّة والشيعة، أو العرب والعجم، أو الغربيّة والشرقيّة... إلى آخر التسميات التي فرّقت بلد الرافدين منذ القدم. دائماً وأبداً، وهذا الكلام يقوله علماء الأنثروبولوجيا، يؤدي لقاء الحضارات إلى كارثة، إن لم يكن هناك استعداد ومناعة للحضارتين المتداخلتين في تقبّل الآخر، والدفاع عن الذات في الوقت نفسه. ثمة خرافة مضمرة في دخيلتي تقول إن المشكلة في بلدي لم تكن يوماً دينيّة أو سياسيّة، بل هي إثنية. جانبا قاعة الدرس ينحدران من حضارتين متجاورتَين ومتعاديتَين هما الآشوريّة والبابليّة، دارت بينهما حروب طاحنة في الماضي، وانتصر من انتصر وانهزم الآخر، وهذا كلام طويل تحفظه كتب التاريخ. الملاحظ أن ظلال الأمم تظلّ تتحارب بعد أفولها، وتصير معارك بين أصداء أسماء أبطالها. هو رأي ضعيف للغاية، وإذا كانت نسبة الصحّة فيه واحداً بالمائة، فهي تستحقّ التأمل من قبل الدارسين. قالوا عن بلدي إنه نهران وولاءان، وأقول ربّما إذا عُرفَ السبب سهلَ الحلّ.

في بعض محطّات العمر يكون معنا أشخاص قريبون منّا ويملكون أنفاساً نقيّة، فهم يشبهون زهرة الألْوَة التي تتفتّح مرّة في العمر، ويبقى ضوعها يمتدّ، ثم يغيب وتبقى ذكراه مثل دمعة مالحة تحرق القلب. إننا نتذكّر لنكتشف جوانب من الحياة ما كنّا لننتبه لها، لأنها عيشت في زمانها إلى أقصاها، وحين تستدعيها الذاكرة تحلّ في صورة عالم جديد وغريب من الألوان والأحاسيس، دنيا إضافيّة فيها إيقاع آخر. للشاعر ت. س. إليوت قصيدة تحمل بعضاً من هذا المعنى:

«في الذاكرة صدى لوقع خطى

في الممر الذي لم نخطُ فيه

باتجاه الباب الذي لم نفتحهْ قطّ

إلى جنينة الورد».

ويحدث هذا الأمر مع أصدقائي في تلك الرحلة، أسير معهم في الزمن الحاضر في شوارع غير موجودة، ونفتح أبواباً لم تكن مقفلة ذات يوم، وكذلك الورد يثبتُ شذاه في الذاكرة، ولا يغيب عنها لأنه صار ميسماً. المآثر الأكثر نصاعة في الحياة تفقد بريقها ما لم تُسكَّ في كلمات منغمّة. كتبتُ، في ساعة تأمّل، هذه القصيدة عن سحر تلك الأيام التي رغم كونها لن تعود، لكنّها تعيش معي مثل ظلّ نجمي المستحيل، أي الأسعد، وأعطيتُ قصيدتي عنوان المقال:

«هل هو حنين؟

أم هي حياة تعيش معناً على الدوام

ونستعيدها جميعاً

بقوّة،

قد أمسك بها قلبٌ فتيّ

فكيف تضيع منها ساعةً

أو هنيهة...

نحن مجبولون من تلك المشاعر

ونعيشها الآن من جديد

ودائماً من جديد

وأبداً من جديد...

زهر القطن بدأ يتفتّح،

يا صديقاتي وأصدقائي في كلية الطب/ جامعة بغداد 1985

أسألكم، وأسأل نفسي دائماً،

ولا أملّ من السؤال، أو أتعبْ:

هل هو حنينٌ؟

أم هي حياةٌ تعيشُ معنا على الدوام

في الليل والنهار، في النوم واليقظة

وسوف تمتدُّ ظلالُها

أبعدْ».

كانت البلاد تسيرُ بخطى ثابتةٍ باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب