حِراب

قصة قصيرة

حِراب
TT

حِراب

حِراب

تنبّه الطّبيب إلى السّيف المتدلّي من قربوس سرج حصان اليسقجي (الحارس) الذي كان في استقباله. كان الطّبيب يمتطي حماراً أبيضَ، لكنّه خفيف جداً بحيث تطلّب اللّحاق به جهداً من حصان اليسقجي، وكان الطريق هادئاً رغم طوله، وهنالك بعض أشجار الصّفصاف تحني ذؤاباتها حتى تلامس العشب. خفّف الطّبيب من سرعة حماره، ثم سارا متلاصقين يكاد كتف أحدهما يلاصق كتف الآخر. لم يتكلّما بشيء، ولم يكن بإمكان الطّبيب تحاشي النّظر إلى الحربة المثبتة في حزام الحارس. هل ضاقت الأزقّة؟ سارا في درب محصور بين صفّين متقابلين من الأبنية، وظهر لهما كلب ملتفّ على نفسه حين بلغا القنطرة، ولم يعبراها. كانت الطّريق تتحدر انحداراً خفيفاً، وهبطا إلى جرف ينعطف عنده النّهر، وخفّت أقدام الدّابّتين وهي تجري سريعة في نفق ينتهي عند بوّابة قصر الأغا، وكانت الشّمس تسرع لتختفي بين الغيوم.

وقعت عينا الطّبيب على الحرس ذوي الوجوه الملتحية، واضطربت نفسه من جديد. قادوه على رصيف من المرمر الأحمر والأزرق والأبيض والأسود، وكان يتمّ الدّخول إلى القصر عبر ردهة من خزف الميوليق. لأوّل مرّة يرى مزهريّات من الذّهب والفضّة، وقناديل غريبة الأشكال. لأوّل مرة تقع عينه على سقف مزخرف بالأكاليل وغيرها من المنمنمات والزّخرفات والمحفورات. المريض هو الأغا، وكان فاقدَ الوعي، جبهته متغضّنة ويمتلك وجهاً مهيباً مزيّناً بلحية فضّية. كان يرقد على سرير له ذي أعمدة صغيرة، مؤثث بستائر حريريّة حمراء. يُشاع عن الأغا أنه أوقع 15 ألف رأس من الرعايا من رقابها، في حملاته لإرهاب القبائل المتمرّدة الممتنعة عن أداء الضرائب، وكان السلطان يدعوه الخادم الجدير الشديد المستبد؛ لأنه يُهلك سكان بعض القبائل بأكملهم. وكانت الرؤوس المقطوعة تملّح في الحين وتُرسل، لتزيّن أسوار المملكة بأمر السلطان. عندما جسّ الطبيب نبضه، كان طبيعيّاً وقويّاً، بالنسبة إلى رجل فاقد الوعي. كان يرسل شخيراً أجشَّ، ويداه الخشنتان تستلقيان هامدتين فوق الغطاء، عليهما آثار العنان والسلاح. لم يستطع الطبيب منع نفسه من الابتسام ابتسامة داخلية، مفكراً كيف يصل عادة متأخراً لإبعاد شبح الموت.

الأغا، ذو الرأس الضخم والعنق الغليظ والجذع الربيل، كان في حالة اللاّ حياة واللاّ موت، والتي لا تطول كثيراً، وإذا طالت صارت عذاباً للطبيب المعالج، ونظراً إلى ضخامة جسد الأغا فإنّه يتوقع أن يستغرق وقتاً طويلاً في موته، بل هو ربما بقي حيّاً قرناً من الزّمان تلو قرن، إلى درجة أنه لا يموت. «إنه يحتضر!». قال الطبيب، وأتت من ذراعيه حركة دلّت على عجزه عن تقديم المساعدة. امتلأت القاعة في هذه الأثناء من بطانة الأغا وأبنائه حتى ضاقت الأنفاس. كانوا يخلعون صنادلهم عند الباب جرياً على العادة، ويلثمون طرف غطاء الأغا، وراحوا يحيطون بالطبيب، وسيوفهم وحرابهم في أوساطهم. أفهموه، دون كلام، أن عليه أن يعطيه دواءً. قال أحدهم، وكان مستلقياً بلا مبالاة على وسادة عريضة مغطاة بزريبة فارسيّة: «نحن لا نطلب منك أن تعالجه. نحن نأمرك أن تقوم بذلك». كان يبدو أكبر سنّاً من الجميع، يرتدي ثوباً طويلاً أسود اللون، ويمسك بيده سبحة من عاج وعيناه محجوبتان بنظّارتين سوداوين. على الحيطان سيوف معقوفة ذات مقابض من عاج وبنادق ذات سبطانة مرصّعة بالذهب، وحواضنها عليها نقوش بعرق اللؤلؤ والمرجان.

شعر الطبيب بحرقة مفاجئة تجفّف حلقه، وضمّ قبضتيه محاولاً تجرّع هذه الإهانة. الأثاث هنا مثقل بالزخرفة، ومرايا الحيطان منحوتة بأشكال وحوش غريبة. تنانين وسلاحف وأفاعٍ، مع فسيفساء ممزوجة بنقوش عربيّة. بحث الطبيب في حقيبته، واستخرج علبة معينيّة الشكل، على غطائها منظر صيد. تناول منها، بأطراف أصابعه، رقاقة خضراء، ولكنها بدت سوداء في الوقت نفسه. همس أحد الحاضرين في أذن الرجل ذي النظّارتين، الذي وجّه سؤاله بصوت اعتياديّ، ولكن بنبرة غاضبة: «ما هذا؟». وأجابه الطبيب: «لصقة بصل اللّحلاح». كان منظر الرقاقة صلباً، ولكن الحاضرين ظنوا أنها على وشك أن تذوب بين أصابعه. فرشها على جبهة الأغا، ثم وضع اثنتين منها على الوجنتين، وعلى الفكّين، وملأت الجوّ رائحة طيبة وغريبة تشبه رائحة خبزة زعتر، وكان الصمت قد التهم الوجود كلّه، وانكمش العالم على إيقاع يدي الطبيب. الهواء قليل هنا لأن النوافذ محكمة الإغلاق، والرّجل ذو النظارتين السوداوين ينظر إلى الأعلى، ويهزّ رأسه أحياناً. أربعة أصابع من يده اليمنى مشبوكة مع أربعة من يده اليسرى، وراح يدير إبهاميه فيتلاحقان أو يختلفان. ضوء النهار المتدفق من النافذة القريبة اختزنه الخاتم الذي في بنصره في بقعة ضئيلة من لونه البنّي الناصع. قال، وفي نبرة صوته احتقار واضح: «هناك عقار يستقطره الأطباء في الهند من النجم في السماء، ومن اللؤلؤ في المحيط. هل تعرفه؟». عدا صوت شخير الأغا، كان الهدوء في الغرفة شاملاً، وبسبب توتّر الجميع، لا يحسّ به أحد. انتبه الطبيب لأول مرة إلى أبواب الصالة العالية والواسعة والسجاجيد الفاخرة المفروشة، والستائر والوسادات والديوانيّات الموشاة بخيطان من ذهب، وإلى التدويرات والمنحنيات والأزهار الصفراء والبنفسجية المشغولة بنعومة على لحاف الأغا. تمتم مرتعشاً، متيبس الشفتين: «سيدي، أنا لا أملك علاجاً غير ما في حقيبتي. لكن الأغا في حالة خطرة...». وتوقف عن الكلام لأن الحياة انبعثت في الجسد الهامد. ابتسمت عينا الأغا أولاً، وانفتح الفم الضخم على اتساعه، وارتعشت الكتفان برجفات قصيرة ثم سكنت، وتوقف إبهاما الرجل ذي النظارتين عن الدوران.

فتح الأغا عينين سوداوين كبيرتين حولهما إطار أسود من الكحل. صار الآن أكثر طولاً وضخامة. ظلّ الجميع، بمن فيهم الطبيب، يحتفظون بنظرته الرمادية للحظة طويلة، وكانت تمنح انطباعاً غريباً. كلّ شيء يبدو كأنّه في انتظار أمر ما. لكم هو ساكن هذا البيت! كان الأغا يقظاً، ولم يشعر أبداً في السابق بمثل هذه اليقظة. كان يرتدي كسوة حريريّة حمراء، وذراعاه الهامدتان تتحسّسان شرشف السّرير الأبيض. وعلى الفور فاحت في المكان موجة من العطر الرخيص ممزوجة بالرائحة الخاصة لحرير قديم. ودّ الأغا لو يمضغ خبزةً. لم يكن هنالك خبز قريب. رفع أحد الحاضرين ظُلّة النافذة. هو ذاك العالم، تفّاحات خضر صغيرة معلقة بالأغصان، صيحات مكتومة لأطفال يلعبون، هديل حمامات تقف أعلى السلم، الذي يهبط إلى حوش منفصل يسمح بدخول أشعة الشّمس عبر نوافذ واطئة، غير النوافذ الواسعة التي تحتل الأركان، وصار النهار مرتجفاً، ففي الوقت نفسه الذي تشرق فيه الشمس كان المطر يتساقط على النوافذ المغبشة في خيوط ثخينة مثل الدموع. يحدس الأغا ما في الحوش من الصمت الذي يتلألأ فيه المطر. «انظروا، ملاك آخر في السماء». قال الأغا، وكان يصغي إلى صمت مكين شامخ حلّ في الجوّ، وكان محمّلاً برائحة الخبز. ثم سمع تناوح ريحٍ، وكان يشعر أن روحه تتحلّل، ببساطة شديدة، وتغادر عبر النافذة. أراد أن يدافع عن نفسه، لكنه لم يستطع الحراك، وأطلق صرخة لم يسمعها أحد غيره، واعترت بدنه الضخم رجفة، وأخرج صوت آهٍ عريضة لفظ أنفاسه عند نهايتها.

كم تغيّرت هيئة الأغا وهو ميّت! صار شبحاً صامتاً ومهيباً. صار تمثالاً للصمت. «لا أستطيع أن أعبّر عن أسفي لأن جلالته قضى نحبه! لم يكن في وسعي فعل أكثر مما فعلته». كان كلام الطبيب جاهزاً، كأنما قاله مرات عديدة في مواقف شبيهة. لاحظ أن عيون الحاضرين تتحاشى الالتقاء بعينيه. وكان يجمع أغراضه في الحقيبة، عندما أخذ الرجل ذو النظّارتين ينقر الطاولة بأصابعه السمينة والمشغولة بالخواتم نقرات خفيفة جافّة، كأنها تريد القول بأن أمامها عملاً صعباً عليها أن تنجزه. في حركة مباغتة نزع نظّارتيه، فرأى الطبيب عينيه، وكانتا ميّتتين. صرخ: «لماذا قتلتَ الأغا؟ من الذي دفعك للقيام بذلك؟» لم ينتظر الجواب. رفع إبهاميه إلى أعلى، وانهال الحاضرون على الطبيب طعناً، ومزّقوه بالحِراب.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.