ماذا بقي من دولة فلسطين الشعرية؟

بعد غياب أبرز شعرائها الكبار

رسم لمحمود درويش ( متحف درويش)
رسم لمحمود درويش ( متحف درويش)
TT

ماذا بقي من دولة فلسطين الشعرية؟

رسم لمحمود درويش ( متحف درويش)
رسم لمحمود درويش ( متحف درويش)

ربيع عام 2000، عُقدت في الجامعة المستنصرية ببغداد أصبوحة شعرية عن انتفاضة الأقصى، التي انطلقت في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، وكان من بين الشعراء المدعوّين الراحل خالد علي مصطفى، الذي أصرّ على أن يكون دوره الأخير، وحين امتطى المنصة قال: «أنا حزين على شهداء فلسطين الذين يستشهدون في هذه الأيام، فالشهداء السابقون أوفر حظاً منهم! لأنه كان لهم شعراء كبار من أمثال: الجواهري وفدوى طوقان ودرويش ونزار قباني والسياب ومظفر النواب، أما شهيد اليوم فمسكين ليس له شاعر!»، وترك المنصة دون أن يقرأ شعراً أو نثراً.

لم أذكر هذا المشهد المفارق إلا لفكرة توقدت في ذهني وأنا أشاهد الخيبة العربية الكبرى تجاه القضية الفلسطينية، والقتل الذي يفوق مشاهد الرعب في أفلامها السينمائية، وتتمثل هذه الفكرة في أن التشكل الفلسطيني في العقل العربي إنما هو «تشكل شعري» ناتج عن طبيعة الخطاب البلاغي والمجازي القائم على تهويل المعنى في ذهن المتلقي؛ فأنا، مثلاً، من جيل أبصر فلسطين عبر شاشة الشعراء، يوم كنا نحفظ القصائد المدرسية لأجل الحصول على درجة النجاح، ونترك الدرس لنهتف في الشارع «فلسطين عربية»، فكانت حدودها القصائد بكل أوزانها وقوافيها، وكانت تتعدد مناطقها بتعدد الأشكال الشعرية، وفي هذه الدولة الشعرية تجد المواطنين الفلسطينيين كلهم كأسنان المشط: فالرجل سوبرمان، وقوته خارقة للعادة، والمرأة تفوق مريم العذراء، وتضاهي زينب في كربلاء، والأطفال لا يقلون شجاعة أو قوة عن الجبابرة! وماذا بعد؟ إن أردت أن تُبْصر فلسطين فعليك أن ترتدي نظارة شعرية تجيد التمييز بين الألوان المجازية والبلاغية حتى تتشكل لديك صورة واضحة عن هذا الوطن. وتتمدد خريطة البلاد وفق التمدد المجازي، فأحياناً تتقلص مع تقلص الصورة الشعرية! بل أحياناً تغيب عن البلاد والعباد، فمتى غابت؟ إنها أضحت «تأريخاً شعرياً» عندما احتل العراق دولة الكويت، وتبيّن زيف مفهوم الوطن العربي والقومية العربية والقضية الفلسطينية، وغاب شعراء السلطة عن منابر السلطة، فلم يأت بعدها درويش إلى بغداد، وتراجع الجواهري عن فكرة العودة إلى العراق، وتنصّل نزار قباني عن التمجيد بالرئيس القائد المبشر بتحرير فلسطين، وتحوّل ياسر عرفات إلى رجل (خيّر) يحاول مصالحة العراق مع جيرانه. عندما غاب الشعر غابت فلسطين، أو بالأحرى عندما ضعفت الآيديولوجيا ضعفت القضية الفلسطينية، فالشوارع العربية التي كانت تضج بالمتظاهرين السائرين على أقدامهم لنصرة الشهيد الفلسطيني، ها هي اليوم تضج بالسيارات الناقلة للركاب السائحين والمتبضعين والعاطلين والموظفين. والهتافات التي كانت تُسمع سابع جار تحولت إلى هتافات دعائية للباعة المتجولين الذين يحتلونك، حتى لو كنت في سابع نومة.

خالد علي مصطفى

هل بالغت؟ فأنا من جيل لم يبصر فلسطين عبر صناعات يدوية، أو معلّبة مكتوب في أسفلها «صُنع في فلسطين»، لم أبصرها في خبر تلفزيوني «زار الرئيس العراقي دولة فلسطين وكان في استقباله...»، لم أشهدها في حركة اقتصادية أو تبادل تجاري، لم أقرأ في كتب العلوم أن فلسطين مشهورة في زراعة الليمون، ولا علم لي إن كانت مَلكية أم جمهورية أم جماهيرية أم خلافة، إنها مشروع مقاومة فحسب ترقص عليه الآيديولوجيات: الشيوعية والقومية والبعثية والدينية بمختلف مذاهبها ومقدساتها. وحين اختفت هذه الآيديولوجيات، واختفى شعراؤها، اختفت معهم فلسطين، وأصبحت بوسترات ومنشورات عبر مواقع التواصل الاجتماعي بمضمون عاطفي، غاب «الأب القائد»، فغاب معه «الشاعر القائد» الذي يأمره برسم فلسطين عبر الكلمات. ولست ناكراً لجميل تلك القصائد التي تُكتب الآن عن ثورة الطوفان، ولكن ما قيمتها في الفضاء الثقافي العربي؟ ما مدى حضورها تجاه صورة طفل يلفُّه العَلم وهو قتيل؟ أيهما أبلغ؟ ثم إنني لستُ بصدد المعيار الجمالي أو الكمي لعدد القصائد وشعرائها، إنما أعني التكوين التخييلي لدولة فلسطين عبر «اللغة»، وأي لغة؟ إنها اللغة الشعرية التي أَعذبها أَكذبها، ومن ثم غابت فلسطين «السردية»، فلم نقرأ لنجيب محفوظ ولا غائب طعمة فرمان ولا التكرلي... إلخ رواية تجسد فلسطين في تشكلها الوجودي التأريخي كرواية تاريخية، اللهم إلا رواية علي بدر «مصابيح أورشليم». وأنا أعني هنا التشكل التأريخي عبر المنظور السردي، ولا أعني تناول القضية الفلسطينية بمُنجز قصصي أو روائي، وهناك فرق كبير بين التصورين، وكذلك أحسب أن دولة إسرائيل نجحت، ثقافياً؛ لأنها «صناعة سردية» بامتياز عبر المدونات الدينية والتأريخية والأدبية، ناهيك عن نجاحها السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي، وهذا ما غفل عنه المثقف العربي حين اكتفى بالصناعة الشعرية، وفي الحقيقة هو ليس عيبه ولا غفلته؛ لأنها بطبيعة الحال مزية الثقافة العربية المتمركزة حول الثقافة الشعرية وشعرنة التاريخ والدين والأدب. نعم، «الشعر ديوان العرب»، وحاول جابر عصفور أن يخالف السلطة، توهماً، فنادى «الرواية ديوان العرب»، وفي الحالتين الأدب وظيفة تسجيلية لما يجري في ذلك «الديوان» الذي يعجّ بالحكايات عن أمجاد الماضين، وميراثنا من الفلسفة والطب والفصاحة والفتوحات والغزوات. ونرثي حالنا في خروجنا عن الإنتاج المعرفي القادر على التحول الفكري في الثقافة العامة. ليس لنا في الديوان سوى أرقى درجات الفصاحة بعد القرآن؛ وهي الشعر، الذي به افتخرت القبائل على بعضها.

غابت فلسطين «السردية» أيضاً فلم نقرأ لنجيب محفوظ ولا غائب طعمة فرمان ولا التكرلي... إلخ رواية تجسد فلسطين في تشكلها الوجودي التاريخي

وهل يوجد شاعر عربي أبصر به العرب فلسطين كمحمود درويش؟ هل بين جيله وقبله وبعده مَن تغنّى بالمقاومة الفلسطينية ومواجهة أعدائها، مثله؟

وماذا لو سمح الله بعودة خالد علي مصطفى إلى جلسة شعرية، اليوم، ليشارك بقصيدة عن طوفان الأقصى، فهل سيعيد كلامه نفسه، أم أنه سيعيد رسم القتلى ويتناص مع درويش ويسرق بيته «صارت تسمى فلسطين»؟

*ناقد وأكاديمي عراقي


مقالات ذات صلة

هدى بركات: عنف الحرب الأهلية اللبنانية أعاد تربيتي

ثقافة وفنون هدى بركات

هدى بركات: عنف الحرب الأهلية اللبنانية أعاد تربيتي

لم تتأقلم الكاتبة الروائية هدى بركات مع باريس وغيومها الرمادية وأجوائها الباردة، برغم إقامتها فيها ما يزيد على ثلاثة عقود،

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مجسم أنثوي من محفوظات متحف قلعة البحرين

وجه أنثوي من قلعة البحرين

تُعد قلعة البحرين من أشهر الحصون التاريخية في الخليج العربي، وتشكّل جزءاً من موقع أثري شُيّد منذ أكثر من 4000 سنة، أُدرج على قائمة التراث العالمي

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون لمى الكناني في دور عزيزة

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

اخترت موضوعاً لهذه المقالة جزءاً صغيراً، فعلاً سردياً ربما لم يلفت انتباه كل مشاهدي «شارع الأعشى». جزء مهم لغرض المقالة، ولوجود تشابه بينه وبين عنصر آخر

د. مبارك الخالدي
ثقافة وفنون الإماراتي جمال مطر: محور روايتي يدور حول السلطة ومفهوم العدالة

الإماراتي جمال مطر: محور روايتي يدور حول السلطة ومفهوم العدالة

صدرت حديثاً عن دار النشر الباريسية العريقة «لارماتان»، ترجمة فرنسية لرواية «ربيع الغابة» للكاتب الإماراتي جمال مطر، حملت توقيع المترجمة المغربية وفاء ملاح،

شاكر نوري (دبي)
ثقافة وفنون العُمانية آية السيابي تكتب عن «الحياة في سجنِ النّساء»

العُمانية آية السيابي تكتب عن «الحياة في سجنِ النّساء»

صدرت حديثاً للقاصّةِ والروائيّةِ العُمانية آية السيابي روايةٌ جديدةٌ بعنوان «العنبرُ الخامسُ... الحياة في سجن النّساء»، عن دار «الآن ناشرون وموزعون»، بالأردن.

«الشرق الأوسط» ( الدمام)

انطلاق معرض «مسقط للكتاب» بمشاركة 35 دولة و211 فعالية ثقافية

الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة خلال مشاركته في افتتاح معرض مسقط الدولي للكتاب (العمانية)
الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة خلال مشاركته في افتتاح معرض مسقط الدولي للكتاب (العمانية)
TT

انطلاق معرض «مسقط للكتاب» بمشاركة 35 دولة و211 فعالية ثقافية

الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة خلال مشاركته في افتتاح معرض مسقط الدولي للكتاب (العمانية)
الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة خلال مشاركته في افتتاح معرض مسقط الدولي للكتاب (العمانية)

انطلقت (الخميس) فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب الـ29 بمشاركة 674 دار نشر تمثل 35 دولة، ويشتمل المعرض على برامج وفعاليات ثقافية وأدبية متنوعة تستمر حتى الثالث من مايو (أيار) المقبل. وتشهد هذه الدورة الاحتفاء بالثقافة السعودية ضمن برامج «أيام ثقافية سعودية» التي تضم تنفيذ الكثير من البرامج والفعاليات في جناح المملكة بالمعرض.

وافتُتح المعرض في مركز عُمان للمؤتمرات والمعارض تحت رعاية الدكتور فهد بن الجلندى آل سعيد، رئيس جامعة السلطان قابوس، بحضور الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى لدولة الإمارات العربية المتحدة حاكم إمارة الشارقة، والدكتور عبد الله بن ناصر الحراصي، وزير الإعلام رئيس اللجنة الرئيسية المنظِّمة لمعرض مسقط الدولي للكتاب.

الإصدارات

يبلغ عدد العناوين والإصدارات المدرجة في المعرض نحو 681.041 ألف عنوان منها 467.413 ألف إصدار عربي و213.610 ألف إصدار أجنبي. وتنقسم دور النشر المشاركة في المعرض ما بين 640 بصورة مباشرة، و34 بصورة غير مباشرة، وتتوزع على 1141 جناحاً.

وتتصدر مصر الدول المشاركة في المعرض بـ119 دار نشر، تليها سلطنة عمان بـ98، ولبنان بـ73، وسوريا بـ69، إضافةً إلى مشاركة عدد من دور النشر العربية والأجنبية. فيما بلغ عدد المجموعة العُمانية 274.64 ألف كتاب، وعدد الإصدارات الحديثة التي طُبعت بين 2024 و2025 نحو 52.205 ألف كتاب.

فعاليات ثقافية

وسيشهد المعرض إقامة 211 فعالية ثقافية وبرامج متنوعة تتوزع ما بين مسابقات ترفيهية، ومبادرات علمية، وعروض مسرحية، وحلقات عمل ثقافية، منها مبادرة «تحدي الوقت مع القراءة»، ومبادرة «مشروع بيرق التميز»، إضافةً إلى تقديم عرض مسرحي لعرائس الأطفال بعنوان «كتابي رفيق دربي» وعرض مسرحي بعنوان «نور المعرفة».

كما سيتم تقديم فقرات «حكايات شعبية عمانية» بمشاركة عدد من «الحكواتيين»، إلى جانب تنظيم برامج للأطفال، واستعراض للفنون التشكيلية، ومسابقات الإلقاء وكتابة القصة والشعر، وحلقة عمل «مبادئ الخط العربي للأطفال»، وحلقة عمل أخرى بعنوان «قرى تحكي»، إضافةً إلى حلقة عمل تعليمية بعنوان «المبتكر الصغير».

وستقام جلسات ثقافية في عدد من الأجنحة التي ستشهد مشاركة الجهات ذات العلاقة بصناعة ونشر الكتاب، وحضور مؤلفين للتوقيع على إصداراتهم، وإبرام عقود الإنتاج والنشر، ومشاركة المؤسسات المعنية بصناعة الكتاب وما يتصل به من إعداد وتجهيز وتغليف وإخراج فني.

تشارك في معرض مسقط الدولي للكتاب 674 دار نشر تمثل 35 دولة ويشتمل على فعاليات ثقافية وأدبية متنوعة تستمر حتى الثالث من مايو المقبل (العمانية)

شمال الشرقية: «ضيف شرف»

وتحلّ محافظة شمال الشرقية في سلطنة عمان (ضيف شرف المعرض)، إذ ستشارك بكثير من الأنشطة الثقافية والفعاليات التي تبرز معالمها الحضارية والتاريخية ومآثرها العلمية والإنسانية والوجهات السياحية، وذلك بهدف تسليط الضوء على التراث والتاريخ العماني. وستركز المحافظة عبر الركن المخصص لها في المعرض على تقديم كل ما يميزها من إرث حضاري وعلمي وأدبي وثقافي، حيث تزخر المحافظة بوجود قامات علمية وتاريخية من الأدباء والمفكرين والعلماء الذين أثْروا الساحة الأدبية والعلمية والثقافية في سلطنة عمان والوطن العربي والعالم بالكثير من المؤلفات والأعمال الأدبية والعلمية والثقافية.

الدكتور عبد الله الحراصي وزير الإعلام العماني لدى إطلاق منصة «عين للطفل» في معرض مسقط الدولي للكتاب (العمانية)

منصة «عين للطفل»

وأطلقت وزارة الإعلام العُمانية منصة «عين للطفل» ضمن افتتاح معرض مسقط الدولي للكتاب، والتي تعد خطوة نحو استراتيجية تُعزز الحراك الإعلامي العُماني، وإثراء المحتوى المخصص للأطفال، وتزويدهم بمصادر معرفية تُسهم في تشكيل الوعي وتطوير شخصياتهم وتعزيز انتمائهم الوطني.

وتشارك وزارة الإعلام العُمانية في الدورة الـ29 من المعرض بأربعة أجنحة، تتمثّل في وكالة الأنباء العُمانية، والمديرية العامة للإعلام الإلكتروني (منصة «عين» والبوابة الإعلامية)، والمديرية العامة للمطبوعات والمصنفات الفنية، والمديرية العامة للإعلام الخارجي (المركز الإعلامي).