نيتشه للقرن الحادي والعشرين

تكتسب فلسفته قيمة إضافيّة عند إنسان الرأسمالية المتأخرة

نيتشه للقرن الحادي والعشرين
TT

نيتشه للقرن الحادي والعشرين

نيتشه للقرن الحادي والعشرين

«نيتشه قريب للقراءة، لكن الوصول إلى مغازيه أمر من الصعب بمكان». بهذه الجملة يقدّم البروفسور فيرنر ستيغماير كتابه الأحدث عن الفيلسوف الألماني المثير أبداً للجدل فريدريك نيتشه (1844 - 1900)، الذي نُقِل إلى اللغة الإنجليزية بترجمة من الدكتور رينهارد جي مولر، وصدر بداية بنسخة إلكترونيّة ثمّ مطبوعة عن دار النشر التابعة لوقفيّة «فاونديشن فور أورينتيشن فيلوسوفي» في الولايات المتحدة الأميركيّة بعنوان «توجيه بشأن فلسفة فريدريك نيتشه». An Orientation to the Philosophy of Friedrich Nietzsche قد يفترض المرء، ونحن على مشارف الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين، أن كل ما يمكن أن يُكتب عن فكر نيتشه قد نُشِر بالفعل، وأن فلسفته مهما كانت مفصليّة في مرحلة سابقة من التاريخ، فإن الزّمن تجاوزها، ولم تعد سوى جزء من سياق تتبع تطور الفكر الفلسفي الذي يقوم به الأكاديميون من قاطني الأبراج العاجيّة ليس إلا. لكن الواقع أن نصوصه ما زالت آسرة وقادرة على إثارة الجدل؛ سواء في أسلوب عرضها الفريد أو فيما تتضمنه من ثراء الأفكار، رغم أنّ كثيراً مما تحمله من المعاني صادم وغريب، بحيث يصعب على المرء أن يتقبله، أو حتى يستند إليه لتكوين مفهوم نظري متكامل عن العالم.

إن طروحات نيتشه تثير الحنق ربّما أكثر مما تقدّم ما يريح، وهي كذلك تماماً كما أرادها صاحب «هكذا تحدّث زرادشت»، و«كيف تتفلسف حاملاً مطرقة». لقد أقدم عامداً متعمداً على حرث الفضاء الفلسفي بأكمله من جديد، مقوضاً في طريقه جبالاً من مفاهيم طالما اعتصم الناس بها، بمن فيهم الفلاسفة والمثقفون، لمئات، بل آلاف السنين: الحقيقة، والعقل، والمنطق، والعلم، والأخلاق، والدين، والقانون، والدولة، والجوهر، والموضوع، والسبب، والنتيجة، والوعي، والإرادة والحرية، والحفاظ على الذات، والتقدم، وما إلى ذلك، دون أدنى محاولة لتقديم ولو حفنة صغيرة من يقين جديد، أو منظومة نظرية متكاملة بديلة.

بتحرر وصرامة يواجه نيتشه جمهوره بحقيقة الحياة البشريّة، فيشرّحها كما هي، دون ألوان أو رتوش، كواقع لا يمكن إنكاره، ولكن لا يمكن مع ذلك تحديده، وتتعذر معه محاولات إصلاحه. ولذلك ففلسفته تتعايش مع المفارقات وتتقبلها، وتتسبب لقارئها بالارتباك، حتى وإن قصد صاحبها التوجيه.

إننا ندرك اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، أن تأطيراً نظريّاً لوجهة ممارسة العيش في هذا العالم أمر لم يعد ممكناً بالاعتماد على منظومات يقينيّات كبرى متوارثة، ما لم يتجاوز المرء الحياة ذاتها، ويتبنى موقفاً (فلسفيّاً) متعالياً منها، عبر عبارات نقيّة لكنّها خارج سياق الواقع المجرّد.

على أن نيتشه يذهب (وفق ما يقول البروفسور ستيغماير) إلى أن الفلسفة تأتي من داخل الذات. فالبشر، ومنهم فلاسفتهم، ما هم في الخلاصة إلا كائنات حيّة لها احتياجات ومتطلبات، وتواجه تحديات وصراعات تشكِّل أفكارهم عن العالم بشكل لا إرادي، ولذلك فإن المرء يأتي بتصورات نابعة من تجربته الحياتية في ظل ظروف عيش معينة، ما يجعل من توجهه الفلسفي نتاج حاجة ذاتيّة، وتكون نظريته بالضرورة، سواء أكان إنساناً عادياً أو فيلسوفاً، كشفاً عن شخصيته الفريدة المتفردة.

وبناء على هذا التصوّر، فإن أي نظرية فلسفيّة عند نيتشه لن تكون صحيحة أو خاطئة، بقدر ما هي أعراض ألم ذاتي يريد شخص ما التغلب عليه. ومن نقطة الانطلاق هذه شكَّك نيتشه خلال حياته بكل شيء دون إبداء أي تحفّظ، وافترض أن التّفلسف مرجعه ومصدره دائماً شخص المتفلسف نفسه، بآفاقه ووجهات نظره وتوجهاته، التي عبرها فقط يمكنه استكشاف فلسفات الآخرين؛ ما يجعل إمكان وجود نظام فلسفي عالمي مجرّد تأمل مهلهل ومبالَغ به، فتنهار التفسيرات القائمة على المذاهب العقائدية، وتفقد الموضوعيّة الفلسفيّة المفترضة قيمتها لمصلحة وجهات النّظر الشخصيّة المحض.

ولذلك يذهب البروفسور ستيغماير إلى التنبيه إلى أن الاشتباك بكتابات نيتشه، لا سيّما نصوصه من الشّذرات، لا يمكن معها التوصّل إلى موقف نهائي يمكن الاستناد إليه في عملية اختيار توجُّه محدَّد نحو العلاقة بالحياة والعالم، وإنما يمكن للقارئ أن يستعين بمعول الهدم النيتشوي بقدر ما يشاء، بحسب رغباته واحتياجاته وآلامه، وهكذا عندما يوغل في أي من كتبه سيتسنى له أن يحدد إلى أي مقدار من نيتشه يمكنه تحمّله، وإلى أي مدى يستطيع عليه صبراً، في مواجهة عدم ثقته ضد كل يقين مطلق. والحق أنّ أغلبيتنا الساحقة ستصل معه إلى نقطة الفراق، حيث يحتاج البشر الضعفاء في النتيجة إلى شيء نهائي، وثابت، وسرمدي، للتمسُّك به، بعض سلوى الميتافيزيقا، وإن لم تظهر بشكل صريح أو منهجي، وتسربلت بثياب الدين، أو الأخلاق، أو السياسة، أو العلم، أو المنطق، أو حتى في مجرد الانغماس في اليومي والعابر مما يتطلبه كسب العيش والتعامل مع الآخرين.

إن فلسفة نيتشه، بخلاف مَن سبقه أو لحق به من المفكرين العظماء، تمرين مستمرّ على محاولة تبني توجُّه بشأن علاقتنا بالحياة والآخرين والعالم دون ميتافيزيقيا، وأداة تفلسف لممارسة نقد ذاتي راديكالي لمجمل تجربة الفكر البشري، وهذان، يقول البروفسور ستيغماير، يوسعان بشكل أو آخر مساحات اختيار مسار التوجه في الحياة، وهو أمر محرر دون شك لم يسبق إليه بهذه الصرامة والوضوح أي من الفلاسفة الكبار، لكنّه أمر مخيف أيضاً.

من هنا تكتسب فلسفة نيتشه قيمة إضافيّة لها عند إنسان الرأسمالية المتأخرة في القرن الحادي والعشرين، بعدما تناثرت صيغ الأفكار العالميّة الكبرى كِسَفاً، وتسارعت وتيرة التغيير المستمر على نحو غير مسبوق حتى لم يعد بمقدور جيل واحد أن يتوقع من الجيل التالي له أن يستوعب صيغ العيش التي اعتاد وتأقلم عليها وعدَّها مسلَّمات، وإطارات وعي جمعي مشترك.

ولعله يمكن الزّعم بأن «توجيه بشأن فلسفة فريدريك نيتشه» قد يكون أفضل تمهيد يمكن لقارئ معاصر أن يستعين به، إن هو قرر عبور بحر الفكر النيتشوي العاصف، وذلك بحكم ترفّع مؤلفه، البروفسور ستيغماير، عن تعجرف المتخصصين وفذلكة الخبراء، وقرب مترجمه البروفسور مولر من مزاج الفلسفة الألمانية والمناخ الفلسفي الأميركي في آن، فيقدّم ممراً يشق بحر الكتابات الأكاديمية الكثيرة في استكشاف تجربة نيتشه، لا بوصفها مشروعاً فلسفياً وإنما كنتاج مفكر يأتي من خارج التصنيفات الفلسفيّة والمذهبيّة المعتادة، وذلك من خلال استقراء المصادر التي شكّلت أفكاره، بما في ذلك تقلبات حياته ومزاجه، ومصاعبه الصحيّة، والمعارف الذين التقاهم، وقراءاته، ونماذج الكتابة الفلسفية التي جرّبها، وتوقعاته وأشواقه، و«المهمة» التي نذر نفسه لها، وخطوط التوجيه الذاتية التي تعامل بها، ومنهجيته النقدية في تناول التوجهات والنظم الفكرية المستندة إلى أوهام الميتافيزيقا، ومغامراته في «إعادة تقييم جميع القيم»، ودوافع استعداده الدائم لمساءلة كل عقيدة توافقت عليها مجموعة من البشر، متصدياً في الوقت ذاته للمحاولات الضحلة لتعليب المنهج النيتشوي في مفاهيم ونظم فكريّة تسهِّل إساءة تفسيرها، مثل فكرة الإنسان الأعلى (أوبرمنش)، وإرادة السلطة - ما دفع كثيرين إلى تبنى صورة نيتشه كنبيٍّ ملهم للفكر النازي - وكما ذلك التكرار المملّ على وسائل التواصل الاجتماعي لمقاطع مجتزأة مما وضعه نيتشه على لسان زرادشت، ما يخلّ بما أراد التعبير عنه.

وتتميز النسخة الإنجليزية من الكتاب بحاشية إضافية لا تتوفر في الأصل الألماني تتوجه قصداً إلى القراء في العالم الأنغلوساكسوني حول كيفية دراسة نيتشه اليوم، بالاستفادة بأبعد من نصوصه المنشورة، وذلك من خلال استقراء مراحل وعتبات تطور توجهاته الفكرية، كما تفهم؛ لا من النصوص المعروفة فحسب، بل وأيضاً من دفاتر ملاحظاته الشخصيّة التي نُشرت ونُقحت بعد أكثر من قرن على وفاته، وأمكن منها معرفة المزيد عن فلسفته، وكذلك، وهو ربما الأهم، عن طريقته بالتفلسف.


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

آل الشيخ يكشف عن أعضاء «جائزة القلم الذهبي للأدب»

المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
TT

آل الشيخ يكشف عن أعضاء «جائزة القلم الذهبي للأدب»

المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)

كشف المستشار تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية، الأربعاء، عن أعضاء لجنة «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، والتي تهدف إلى إثراء صناعة السينما بالمنطقة، ودعم المواهب الإبداعية في كتابة الرواية من جميع الجنسيات والأعمار.
وتَشكَّلت لجنة الجائزة من أعضاء يملكون خبرات واسعة في مجالات الأدب، والكتابة السينمائية، والإنتاج والإخراج السينمائي، حيث جاءت برئاسة الأديب والروائي السعودي الدكتور سعد البازعي، والروائي والمترجم والسيناريست السعودي عبد الله بن بخيت نائباً له.

وتضم اللجنة في عضويتها كلاً من الكاتب والروائي السعودي عبده خال، والروائي الكويتي سعود السنعوسي، والروائي المصري أحمد مراد، والروائية السعودية الدكتورة بدرية البشر، والكاتب والسيناريست السعودي مفرج المجفل، والكاتب والسيناريست المصري صلاح الجهيني، والناقد السينمائي المصري طارق الشناوي، والسيناريست المصري شريف نجيب، والخبير عدنان كيال مستشار مجلس إدارة هيئة الترفيه، وكاتبة السيناريو المصرية مريم نعوم، والمخرج المصري محمد خضير، والمنتج السينمائي المصري أحمد بدوي، والمخرج المصري خيري بشارة، والمنتج اللبناني صادق الصباح، والمخرج السينمائي المصري مروان حامد، والمخرج والمنتج السينمائي السعودي عبد الإله القرشي، والكاتب والسيناريست المسرحي السعودي ياسر مدخلي، والكاتب والروائي المصري تامر إبراهيم.

وتركز الجائزة على الروايات الأكثر جماهيرية وقابلية لتحويلها إلى أعمال سينمائية، مقسمة على مجموعة مسارات؛ أبرزها مسار «الجوائز الكبرى»، حيث ستُحوَّل الروايتان الفائزتان بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين، ويُمْنح صاحب المركز الأول مبلغ 100 ألف دولار، والثاني 50 ألف دولار، والثالث 30 ألف دولار.

ويشمل مسار «الرواية» فئات عدة، هي أفضل روايات «تشويق وإثارة» و«كوميدية» و«غموض وجريمة»، و«فانتازيا» و«رعب» و«تاريخية»، و«رومانسية» و«واقعية»، حيث يحصل المركز الأول على مبلغ 25 ألف دولار عن كل فئة بإجمالي 200 ألف دولار لكل الفئات.
وسيحوّل مسار «أفضل سيناريو مقدم من عمل أدبي» العملين الفائزين بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين سينمائيين مع مبلغ 100 ألف دولار للأول، و50 ألف دولار للثاني، و30 ألف دولار للثالث.
وتتضمن المسابقة جوائز إضافية أخرى، حيث سيحصل أفضل عمل روائي مترجم على جائزة قدرها 100 ألف دولار، وأفضل ناشر عربي 50 ألف دولار، بينما يُمنح الفائز «جائزة الجمهور» مبلغ 30 ألف دولار، وذلك بالتصويت عبر المنصة الإلكترونية المخصصة.