الهوى كجناس ناقص بين الهواء والهاوية

يتقمص رقة النسيم حيناً وعتو العواصف حيناً آخر

نصب الحب في قرطبة مجسداً ابن زيدون وولادة بنت المستكفي
نصب الحب في قرطبة مجسداً ابن زيدون وولادة بنت المستكفي
TT

الهوى كجناس ناقص بين الهواء والهاوية

نصب الحب في قرطبة مجسداً ابن زيدون وولادة بنت المستكفي
نصب الحب في قرطبة مجسداً ابن زيدون وولادة بنت المستكفي

إذا كان لكل لغة من لغات العالم الحية ما تمتاز به عن سواها من اللغات، على مستويات الدلالة والبنية النحوية والإيقاعية والقدرة على التطور، فإن ما يميز اللغة العربية عن غيرها من اللغات، هو غناها المفرط بالمرادفات، إضافة بالطبع إلى جرسها الخاص وثرائها الصرفي والبلاغي. إذ قلما نجد بين لغات الأرض من تُفرد عشرات الأسماء للجمل أو الأسد أو السيف أو الصحراء أو الحب، كما هو الحال مع لغة الضاد. ومع ذلك فإن تبحُّراً عميقاً في معاني الكلمات ودلالاتها، يوصلنا إلى الاستنتاج بأن هذا الغنى المعجمي لا يندرج برمته في خانة الحشو وفائض الإنشاء والترف التعبيري البحت، بل ثمة في بعض الحالات رفعٌ للنعوت والصفات إلى رتبة الأسماء. وفي حالات أخرى تتجه التسميات من التعميم إلى التخصيص؛ حيث للمدلول رتبه وسلّمه ودرجاته، كما هو حال الحب الذي تتراوح تسمياته بين العشق والهوى والصبابة والكلَف والولع والجوى والوله والوجد والهيام وغير ذلك، تبعاً للمراحل التي يقطعها المحبون على الطريق الشائك للعشق والافتتان بالآخر.

وأغلب الظن أن ما أصابته هذه المفردة من الشيوع، لا يعود إلى خفتها البالغة فحسب، بل إلى ما تحمله في الوقت ذاته من مضامين ودلالات. وبالعودة إلى «لسان العرب»، نلاحظ أن المعجم العربي الأشهر لا يشير إلى فارقٍ يُذكر بين الألِفين الممدودة والمقصورة، بل يربط الفعل الثلاثي «هوى» بنظيره المكتوب بالألف الممدودة، أي بالهواء. فكل فارغٍ في «لسان العرب» هواء، والهواء والخواء واحد في المعنى. وقد يأتي الهواء بمعنى الخفة والطيش وانحراف السوية. فالقرآن الكريم يصف الضالين من البشر بأن «أفئدتهم هواء»، أي جانحة وطائشة وخالية من التعقل، فيما يستلهم أحمد شوقي العبارة القرآنية نفسها في معرض الإشارة الملطفة إلى تبدل مشاعر النساء وتقلبهن العاطفي، فيقول:

فاتقوا الله في قلوب العذارى

فالعذارى قلوبهنّ هواءُ

ومن معاني الهوى الانقضاض والحركة السريعة، فيقال: «هوت العقاب وتهوي هويّاً»، إذا انقضت على صيدٍ أو غيره، بحيث يصبح الحب من بعض زواياه هواءً وقبض ريح، ويصبح من زوايا أخرى انقضاضاً على قلب العاشق وإدماءً لقلبه بمخالب العاطفة الكاسرة التي مشى إلى نعيمها برجليه، قبل أن تميط اللثام عن مواجعها اللاحقة. كما يرتبط الهوى بالهوّة والهاوية، باعتباره سبباً للسقوط السريع وصولاً إلى القاع الأخير للمأساة. وإذا كانت الأصوات والألفاظ، هي في الكثير من وجوهها صدى للمعاني وواحدة من تجلياتها، فإن حروف الهوى الثلاثة تترافق في نطقها مع حركة الزفير؛ حيث الهاء الخارجة من المصدر العميق للأنفاس تتحول إلى تنهيدة مشوبة بالأسى، فيما يتماهى الواو والألف مع صيغة النداء المتصلة بحرقة الفقدان. هكذا تصبح اللفظة تفريغاً لجسد العاشق من الطاقة المختزنة في داخله، وصولاً إلى هلاكه المحتوم، ما لم يمكنه حضور المعشوق ووصاله من التقاط أنفاسه من جديد.

ومع أن الشعوب القديمة كانت تجد في عنصري الماء والهواء نوعاً من التكامل الطبيعي مع مبدأ الحب؛ حيث يعمل الأول على الخطين المتصلين بخصوبة الأرض ونطفة الخلق، فيما يعمل الثاني على رفد الكائنات بأسباب البقاء، والمحبين بأسباب الحنين، فلا بد من ملاحظة أن الفارق الأهم بين العنصرين يتمثل في البعد العمودي للأول، والأفقي للثاني. فإذ ينزل الأول من الأعلى إلى الأسفل، محققاً معادلة الرجل السماء والمرأة الأرض، يبدو في إطاره التأويلي متناغماً مع الترجمة الجسدية للحب الصريح، فيما الهبوب الأفقي للثاني يجعله وثيق الصلة بالحب العذري، ويحوله في ضوء المسافة الفاصلة بين العاشقين، إلى حاملٍ للّقاح الذي تحتاجه العلاقة لكي تؤتي ثمارها، أو إلى ناقل إلزامي لرسائل الوله العاطفي والرغبات المعطَّلة. ولن نُعدم في هذا المجال العثور في ثنايا الشعر العربي القديم على ما نحتاجه من الشواهد، وبينها قول جميل بن معمر:

أيا ريح الشمال ألم تريني

أهيمُ، وإنني بادي النحولِ

هَبيني نسمة من ريح بَثْنٍ

ومُنّي بالهبوب على جميلِ

وقولي يا بثينة حسبُ نفسي

قليلكِ أو أقلّ من القليلِ

كما حاول الشعراء العشاق الذين انفصلوا عن حبيباتهم بالإكراه، أن يخففوا عن كواهلهم وطأة الفقد، عبر العثور على قواسم مشتركة تجمعهم بهن، كأن ينظر الطرفان إلى النجوم ذاتها، أو يواريهم الثرى إياه. وكذلك هو الحال مع الهواء والشمس، اللذين يلفان العاشقين المتباعدين بملاءة واحدة من الهواء والضوء؛ حيث يعلن قيس بن ذريح:

فإن تكُ لبنى قد أتى دون قربها

حجابٌ منيعٌ ما إليه سبيلُ

فإن نسيم الجو يجمع بيننا

ونبصر قَرن الشمس حين تزولُ

كما يتحول الهواء من بعض وجوهه إلى جزء من المشهد الطللي الذي يستعيد العشاق من خلاله صورة المنازل الدارسة، وصورة ساكنيها الذين تحولوا مثلها إلى أطلال. وعلى قاعدة التزامن أو الانعكاس الشرطي، كان عرب الجزيرة يتطلعون إلى مصادر الرياح بوصفها مسرح حيواتهم الاستعادي والخلفية الأمثل لتفتح صباباتهم، وبينها ريح الشمال ذات البرودة المنعشة، وريح الصَّبا التي تمتد «من مطلع الثريا وتتجه إلى بنات نعش»، ثم تصبو إلى جهة القِبلة؛ حيث تقع الكعبة المشرفة. ولأنها لم تكن بالنسبة لهم الريح الطيبة التي تلقح الأشجار والسحاب فحسب، بل التي تثير كوامن الشغف، فقد باتت «الصَّبا» المنادى الذي يستعين به الشعراء لاستعادة ما خسروه من حدائق الماضي وحرائقه العاطفية المؤنسة. وقد بدا ابن الدمينة وكأنه ينوب عنهم جميعاً في مناجاته الشهيرة:

ألا يا صَبا نجدٍ متى هجتَ عن نجدِ

وقد زادني مسراكَ وجْداً على وجْدِ

ولم تقتصر مفاعيل النسيم على سكان الصحارى وشعراء المشرق الوالهين وحدهم، بل وجدت تلك المفاعيل أصداء لها في البيئة الأندلسية، رغم ما وفرته تلك البيئة للعشاق من مناخات الحرية والانفتاح والمتع الحسية، فضلاً عن جمال الطبيعة الخلاب. فالحب في مراحل تمكُّنه، يستطيع أن يفتك بقلوب المحبين، بصرف النظر عن طبقاتهم ومستوياتهم الاجتماعية وحياتهم الزريّة أو المترفة، وهو ما عكسته بوضوح علاقة ولادة بنت المستكفي بابن زيدون. فحين بلغت العلاقة بينهما مآلاتها المحزنة، بسبب تفاقم الغيرة والشكوك المتبادلة، لم يجد الأخير ما يستعين به على آلام الفراق سوى الشعر، متوائماً في استعطافه الموجع للحبيبة النائية، بين اعتلال النسيم ووجيب قلبه المعتل:

واهاً لعطفكِ والزمان كأنما

صُبغتْ غضارتُهُ ببرد صباكِ

ولطالما اعتلّ النسيمُ فخلتُهُ

شكواي رقّتْ فاقتضتْ شكواك

وإذ يندلع الهواء في بعض الحالات من أعمق تجاويف الذاكرة، يتقمص سمات النسيم ورقّته وترجيعاته، ويغادر مسرحه المكاني ليصبح ارتداداً بالزمان إلى مرابع الحب ومراتع الصبا. وهو ما يجد تمثلاته الأبلغ في قول المتنبي:

وكيف التذاذي بالأصائل والضحى

إذا لم يَعُد ذاك النسيمُ الذي هبّا

ذكرتُ به وصْلاً كأنْ لم أفزْ بهِ

وعيشاً كأني كنت أقطعهُ وثبا

غير أن الهوى من جهة أخرى لا يأخذ شكل النسيم إلا في حالتين اثنتين، تتمثل أولاهما بصفو الزمان وخلوّ العلاقة بين العشاق من المنغصات، فيما تتصل ثانيتهما بالأشكال الوادعة من الفراق؛ حيث التموجات الناعمة للهواء المسافر في الزمن، ترفد العشاق المهجورين بأسباب الحنين والتذكر الشجي لمسرح الهناءة الأرضي. أما في الحالات الأخرى فقد يلبس الهوى لبوس العواصف أو الأعاصير، مطيحاً في طريقه بالعاشقين معاً أو بالطرف الأكثر تعلقاً بالآخر. وإذا كانت الباحثة الأميركية لورا موتشا قد شبهت نزاعات العشاق بالعاصفة الرعدية التي لا بد من حدوثها لتنقية العلاقة من الشوائب، فإن الأمور لا تسير دائماً على هذا النحو، فحين يضيق الخناق على العلاقة لأسباب شتى، لا يبقى للطرفين سوى الترنح المأساوي على «جسر البِلى»، وفق تعبير أبي فراس الحمداني، أو السقوط في هاوية الموت كما حدث لأدونيس وأوريديس في الأسطورة اليونانية؛ حيث كان على أورفيوس وعشتروت أن يهبطا إلى العالم السفلي، لكي يعيداهما ولو بشكل مؤقت إلى الحياة.

من معاني الهوى الانقضاض والحركة السريعة، فيقال: «هوت العقاب وتهوي هويّاً» إذا انقضت على صيدٍ أو غيره، بحيث يصبح الحب من بعض زواياه هواءً وقبض ريح

وإذا كان الغرب في عصوره الحديثة قد شهد الكثير من عواصف الحب التي أوقفت العشاق على شفير الهُوى المتربصة، ودفعت آخرين إلى جوفها الفاغر، فقد تكون المغامرة العاطفية التي عاشها كل من نيتشه وريلكه مع الشابة الروسية لو سالومي، ذات الجمال والذكاء المفرطين، هي النموذج الأكثر دلالة على سطوة الحب، وعلى نتائجه المدمرة والخلاقة في آن. فنيتشه الذي قابلت سالومي افتتانه بها برفضها الزواج منه، غير آبهة بعبقريته الفذة، لم يلبث أن وقع في الهاوية نفسها التي حذر منها غيره من العشاق، بقوله «لا تحدق طويلاً في الهاوية حتى لا تلتفت إليك». أما ريلكه الباحث عن وجه للحقيقة مستحيل المنال، الذي ناشد من يحبونه بمن فيهم سالومي نفسها، ألا يُفسدوا عليه وحدته، فقد كتب، وهو المتناهب أبداً بين عاصفتي الحب والكتابة:

أشعر ببعض الأعاصير وكأنها ولدٌ لي

أتعرفني أيها الهواء؟

يا من ستحلّ مكاني ذات يوم

ويا من ستكون لي وعاءً وحاضراً زلِقاً

وديواناً للأشعار


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.