هل يتغيّر العالم في العام الجديد؟

إذا استمرّت الدوَل المعاصرة في الاقتتال الإفنائيّ فإنّنا قد نشهد غرق الحضارة الإنسانيّة

هيغل
هيغل
TT

هل يتغيّر العالم في العام الجديد؟

هيغل
هيغل

غالباً ما نسأل أنفسنا على مشارف العام الجديد عن مآلات الزمن المقبِل علينا. يَطرح الأفراد على وجدانهم أسئلة التغيير الكيانيّ المنشود والتهذيب الأخلاقيّ المستحَبّ، في حين تستفسر الأمَم عن مسار التاريخ العالميّ المقترن بتطوّر العلاقات بين الحضارات، بين المجتمعات، بين الدوَل. أمّا النظر الفلسفيّ فيتأمّل في ارتقاء الوعي الإنسانيّ وانتقاله من طورٍ إلى آخر، سواء في النضج المتراكم أو في الانحلال المتفاقم. أخطرُ الاستفسارات تتناول مصير الإنسانيّة على تعاقب الأزمنة والعصور. فهل ساهمت المكتسبات العلميّة الجليلة والفتوحات التقنيّة المذهلة، لا سيّما في نطاق الذكاء الاصطناعيّ الذي وسم إنجازات العام المنصرم، في تعزيز قيمة الإنسان الكيانيّة وتوطيد كرامته الذاتيّة وترسيخ مقامه الفريد في الكون؟

ابن خلدون

في صميم الاستفسار الفلسفيّ الخطير هذا ينغرس الشكُّ في قدرة الإنسان على تغيير طبيعته المجبولة على تساكن الملائكيّة الراقية والبهيميّة المنحطّة. لا أعتقد أنّ تطوّر المعارف العلميّة يمكنه أن يبدّل في بنية التنازع الوجدانيّ الذي فُطِر عليه الكائنُ الإنسانيُّ. جلُّ ما في الأمر أنّنا أصبحنا نمتلك المفاهيم الدقيقة لكي نصف أحوال الاضطراب في التاريخ الإنسانيّ، ونُتقن استخدام الآلات المتطوّرة لكي نحلّل بنية المادّة في الإنسان، وفي الطبيعة، وفي الكون الأرحب. غير أنّ اتّساع المعجم اللفظيّ في الآداب والفنون والفلسفة، واختراع الآلات التكنولوجيّة الخارقة في العلوم التجريبيّة التطبيقيّة، لا يُفضيان إلى ولادةِ إنسانٍ جديدٍ، حتّى لو التحمت بخلايا جسده التحاماً كيانيّاً وثيقاً الأعضاءُ الاصطناعيّةُ المقوِّية، والشرائحُ الإلكترونيّة المتفوّقة، والأجهزةُ المعلوماتيّةُ المتنامية.

إذا ثبت أنّ البشريّة أضحت اليوم قادرةً على تحليل أسباب الانحلال الأخلاقيّ الفرديّ والجماعيّ، على نحو ما رسم مسارَه التصاعديّ عالمُ التاريخ والاجتماع والاقتصاد الفيلسوفُ التونسيُّ ابن خلدون (1332-1406)، فإنّ معرفة الأسباب النظريّة لا تؤهّل الوعي الإنسانيّ لتجاوز محنة الانعطاب الكيانيّ. نعرف اليوم أنّ الأمَم تنشأ وتنمو وتزدهر، ولا تلبث أن تضعف وتخبو وتتقهقر وتنحطّ وتنحلّ وتتلاشى وتَفنى. بيد أنّ ناموس التطوّر الطبيعيّ هذا لا ينطبق على حضارةٍ من الحضارات، أو أمّةٍ من الأمَم، أو مجتمعٍ من المجتمعات، بل قد يصيب البشريّة قاطبةً. إذا استمرّت الدوَل المعاصرة في الاقتتال الإفنائيّ، فإنّنا قد نشهد غرق الحضارة الإنسانيّة برمّتها، على نحو ما أومأ إليه الأديب اللبنانيّ-الفرنسيّ أمين معلوف (1949-....) الذي ما برح يحثّ الجميع على التحاور العقلانيّ البنّاء المستند إلى الاعتراف الصريح بالقيمة الاستثنائيّة الفريدة اللصيقة بتراثِ كلِّ حضارةٍ على حدة.

فرانسيس بيكون

حسنًا يفعل العلماءُ حين يُرسلون إلى الفضاء الأعلى أسطواناتٍ إلكترونيّةً صلبةً شديدةَ المنعة الذاتيّة يستودعونها مجموعَ الإنتاج الثقافيّ العالميّ المتراكم منذ تفتّح الوعي الإنسانيّ. الظنُّ أنّ تفاقم العنف الحضاريّ واضطراب النظام البيئيّ وفساد العلاقات الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة قد يُفضي عاجلاً أم آجلاً إلى انقراض الجنس البشريّ في الهيئة الكلاسّيكيّة المألوفة التي نعرفها حتّى اليوم. ربّما تستطيع بعض مختبرات العلوم الفيزيائيّة وشركات الشحن الفضائيّ أن تضمن لكوكبةٍ من الكائنات البشريّة المتطوّعة شروطَ الحياة المستديمة على سطح القمر أو المرّيخ. حينئذٍ لا تملك البشريّة الباقية في الأرض إلّا أن تعاين انحلالها الحتميّ الآتي.

أعرف أنّ مثل التصوّر الأُخرويّ النشوريّ القياميّ هذا ما فتئ مقتصراً على خيالات الأدباء وصنّاع الأفلام السينمائيّة. بيد أنّ علامات الأزمنة المعاصرة في منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين لا تُنبئ بانفراجاتٍ حضاريّةٍ واعدة. من المحتمل أن يظلّ التاريخ سائراً في دوران تكراريٍّ مطّردٍ من غير أن يُفضي إلى خاتمةٍ واضحةِ المعالم. في هذه الحال لا نملك إلّا أن نشاهد الناس في كلّ عامٍ جديدٍ يواظبون على الإفصاح عن نيّات التصالح والتغافر والتسالم، ولكن من غير أن يقرنوا مقاصدهم وأقوالهم بأفعال الإصلاح البنيويّ. لذلك ينبغي البحث عن العوامل الدفينة التي تحرّك التاريخ في اتّجاه الفساد والظلم والاضطراب والاحتراب. أفتكون غريزة الشرّ الناشبة في أعماق الطبيعة الإنسانيّة عاملاً حاسماً في إفساد المعيّة الحضاريّة؟ أم إنّ اختلال التوازن الجيوسياسيّ وتضارب المصالح الاقتصاديّة واستفحال الادّعاءات الآيديولوجيّة الاستعلائيّة الإقصائيّة عواملُ بنيويّةٌ أساسيّةٌ تؤثّر تأثيراً بالغاً في افتعال النزاعات والحروب؟

أعتقد أنّ التسويغَين الفرديّ والجماعيّ هذَين مرتبطان أوثقَ الارتباط، إذ إنّ الأفراد الصالحين المستنيرين المستمسكين بالفضائل الأخلاقيّة الرفيعة يمكنهم، من موقع مسؤوليّاتهم الإداريّة الخطيرة، أن يتدبّروا أعتى المعضلات السياسيّة والاقتصاديّة والآيديولوجيّة استعصاءً، وأن يلتئموا في محفل عالميّ تشاوريّ لكي يتباحثوا في أرقى الحلول عدلاً وإنصافاً. غير أنّ التهذيب الأخلاقيّ الروحيّ لم يَعد ينفع في منتديات التشاور العالميّة. وهنا بيت القصيد، إذ إنّ العقل الإنسانيّ المعاصر المبنيّ على الفاعليّة الإجرائيّة والأداتيّة المنفعيّة أمسى عاجزاً عن إرشاد الأفراد إلى مسالك الصلاح. غالباً ما أشعر أنّ أهل السياسة والاقتصاد النافذين في المحافل الكونيّة يعانون انفصاماً مرَضيّاً في شخصيّتهم الأخلاقيّة، لا سيّما حين يتخلّون عن مبادئهم الإنسانيّة في معترك مباحثاتهم السياسيّة والاقتصاديّة المصيريّة الخطيرة.

أهل السياسة والاقتصاد النافذون في المحافل الكونيّة يعانون غالباً انفصاماً مرَضيّاً في شخصيّتهم الأخلاقيّة، لا سيّما حين يتخلّون عن مبادئهم الإنسانيّة

وعليه، ينبغي النظر في مسار العقل الإنسانيّ المعاصر وإرشاده إلى مبادئ الصلاح الأخلاقيّ العليا. إذا أردنا أن تتغيّر أوضاع المسكونة، كان علينا أن نتدبّر حركة العقل الذي غالباً ما يخون مبادئه الأخلاقيّة في ميدان الفعل التاريخيّ. كان الفيلسوف الألمانيّ هيغل (1770-1831) يُصرّ على مكر العقل في التاريخ، واليقين الفلسفيّ الأرسخ عنده أنّ ضروب الفساد التي تعتري البشريّة إنّما هي حيَلٌ يبتدعها العقل الكونيّ حتّى ينضبط المسارُ الجدليُّ كلُّه في نظام التعقلن الروحيّ الأشمل المتجلّي في نهاية الأزمنة. من غرائب التفاؤل الأونطولوجيّ الهيغليّ هذا أن تنطوي حروب الناس المتناسلة على مقاصد التطهّر الأخلاقيّ الذي يُعِدّ البشريّة لأزوف زمن الروح المطلق.

يبقى السؤال الخطير الذي يؤرّق وعينا: هل ستستمرّ البشريّة على هذه الحال عاماً بعد عام؟ أم إنّ التاريخ سيُفرج قريباً عن مشهديّةٍ ختاميّةٍ مأسَويّةٍ تُفني الحياة على الأرض وتدفع بالفرقة الناجية إلى أعالي الفضاء الكونيّ؟ كلّ شيء ممكنٌ في قرائن الاحتدام الآيديولوجيّ الغضبيّ الالتهاميّ المستشري. ولكن هل نقبل أن يُقضى على الناس الطيّبين من ذوي الإرادات الصالحة وأن يؤخذوا بجريرة أهل الظلام والظلم والعنف والإجرام؟ لكي يتحرّر الناس من اجتراريّة الكلام التشاؤميّ هذا، ينبغي أن يتنادَوا ويتضامنوا ويتعاونوا من أجل استنقاذ مبادئ العقل النظريّ والعمليّ السويّة، وتهذيب الوعي الفرديّ والجماعيّ، وإرشاده إلى قيَم الكرامة والمساواة والحرّيّة والأخوّة والعدل. ذلك بأنّ الإنسانيّة المعاصرة لا تستحقّ الحياة في الأرض إذا ما أمعنت في ضلالها الآيديولوجيّ وانحلالها الأخلاقيّ.

ما معنى الحياة الإنسانيّة إذا انعدمت فيها مثلُ القيَم الأخلاقيّة الروحيّة الرفيعة هذه؟ أمّا الشرط الضروريّ الذي يمكّن المجتمعات المعاصرة من ترميم الرجاء الإنسيّ المتصدّع، فالتربية الرشيدة التي تصون عقلَ الأفراد في كلّ مجتمع على حدة، فتُحرّره من أوهام المخيِّلة المريحة، وقد أوجزها الفيلسوف الإنجليزيّ فرانسيس بيكون (1561-1626) في الأصنام الأربعة: صنم القبيلة أو المجتمعيّة الإكراهيّة القاهرة، وصنم الكهف أو المثاليّة الانعزاليّة، وصنم السوق أو الأفكار المتداولة الرائجة، وصنم المسرح أو الإيمان الأعمى المقيَّد بنماذج الماضي السلفيّة العقيمة. أعتقد أنّ العقل الفرديّ الذي ينعتق من هذه الأصنام يستطيع أن يساهم مساهمةً فاعلةً حاسمةً في إطار مجتمعه حتّى يحرّر الناس من محنة الفساد والظلم والاحتراب. حينئذٍ يصيب الرقيُّ العقليُّ الأخلاقيُّ هذا منتدياتِ القرار السياسيّ العالميّة. لا سبيل إلى خلاص الأرض إلّا بانعتاق العقل الفرديّ من سلاسل الجهل. بيد أنّ هذا الانعتاق مسؤوليّةٌ تربويّةٌ جليلةٌ في المقام الأوّل.


مقالات ذات صلة

حنين الصايغ: لم أكتب دفاعاً عن طائفة إنما عن بشر لهم حيواتهم

ثقافة وفنون  الكاتبة والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ

حنين الصايغ: لم أكتب دفاعاً عن طائفة إنما عن بشر لهم حيواتهم

استطاعت الكاتبة والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ أن تحقق حضوراً لافتاً في المشهد الأدبي من خلال روايتها الأولى «ميثاق النساء» (دار الآداب)، التي أثارت تفاعلاً…

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون أحمد عامر يرسم شخوصاً عالقين في فخ الوجود

أحمد عامر يرسم شخوصاً عالقين في فخ الوجود

في مجموعته القصصية «عين سحرية تطل على خرابة»، يسعى الروائي والقاص المصري أحمد عامر إلى رؤية الواقع بعيون أبطاله المأزومين المهزومين،

عمر شهريار
ثقافة وفنون «جماليات الإفصاح الوجداني»... قراءات في الأدب الألماني

«جماليات الإفصاح الوجداني»... قراءات في الأدب الألماني

صدر حديثاً عن «دار النهار» اللبنانية كتاب جديد للدكتور مشير باسيل عون بعنوان «جماليات الإفصاح الوجداني»، وهو مجموعة مقالات بحثية تتناول جوانب فلسفية وجمالية

«الشرق الأوسط» ( بيروت)
ثقافة وفنون محمد سمير ندا

محمد سمير ندا: أفضّل أن أعيش كالخفاش بعيداً عن الأضواء

حوار مطول يجيب فيه الكاتب على الجدل واللغط الذي أثير حول روايته «صلاة القلق» الفائزة بجائزة البوكر، ونفى مهاجمته للرئيس الراحل جمال عبد الناصر

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون طه حسين

بيتهوفن وطه حسين ونجيب محفوظ

يستحضر الكاتب هؤلاء العمالقة الثلاثة في تاريخ الأدب والفن... ويسرد ذكرياته معهم متمنياً أن «أقبِّل يد كل منهم امتناناً»

د. رشيد العناني

حنين الصايغ: لم أكتب دفاعاً عن طائفة إنما عن بشر لهم حيواتهم

 الكاتبة والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ
الكاتبة والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ
TT

حنين الصايغ: لم أكتب دفاعاً عن طائفة إنما عن بشر لهم حيواتهم

 الكاتبة والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ
الكاتبة والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ

استطاعت الكاتبة والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ أن تحقق حضوراً لافتاً في المشهد الأدبي من خلال روايتها الأولى «ميثاق النساء» (دار الآداب)، التي أثارت تفاعلاً واسعاً بين القرّاء والنقّاد، وبلغت مراحل متقدّمة بوصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» العالمية للرواية العربية. في «ميثاق النساء»، تمنح الصايغ أولوية لصوت النساء، وترى أنه يتجاوز الإطار الضيق للعالم الدرزي الذي تدور فيه أحداث الرواية، ليعبّر عن هواجس إنسانية أبعد وأكثر تشعباً. هنا حوار معها... حول الرواية وهموم الكتابة.

> كتابة رواية عن جماعة مغلقة كالطائفة الدرزية يفرض تحديات خاصة، ماذا تعني لكِ الكتابة عنها؟ وهل شعرتِ أنك تكتبين «ميثاق النساء» من منطقة «أدب الأقلية»؟

- حين بدأت كتابة «ميثاق النساء»، لم أكن أفكر من أي منطقة أكتب، ولا لأي فئة سأوجّه الرواية. لم أضع جمهوراً بعينه في ذهني، ولم تكن هناك نية واعية للحديث عن جماعة أو طائفة. كل ما كان يحركني في البداية هو مجموعة من الأسئلة تؤرقني، عن المرأة، عن الذاكرة، عن التديّن والسلطة والخوف. ومع تقدّم السرد وجدتني أكتب عن المجتمع الذي أعرفه، لا كموضوع جاهز بل كنسيج حيّ من التفاصيل: عاداته، توجسه من الآخر، صراعاته الخفية، وأساطيره التي تشكل وعي أفراده من حيث لا يدرون.

لم يكن في نيتي أن أكتب «أدب أقلية»، لكن بعد صدور الرواية، بدأ بعض القراء والنقّاد يضعون العمل ضمن هذا التصنيف، أو يرونه في خانة «الأدب النسوي». لا أعترض على هذه الأسماء، ولكنني أرى أن مثل هذه التصنيفات باتت قاصرة عن الإحاطة بتجارب الكتابة الصادقة. ما كتبته لم يكن دفاعاً عن طائفة ولا هجوماً عليها، بل غوص في التجربة الإنسانية بكل هشاشتها وتعقيدها، بعيداً عن الحدود التي تضعها الهويات الصلبة.

وعندما تُرجمت الرواية إلى الألمانية، لفتني أن أغلب القراء الألمان لم يلتفتوا إلى الاختلاف الثقافي، بل تعاطوا مع الشخصيات من مدخلها النفسي والإنساني. شعروا بالقرب منها، رغم المسافات الجغرافية والدينية. وهذا، بالنسبة لي هو المعنى الأعمق للكتابة: أن نعبر من ضيق الخصوصية إلى اتساع الإنسانية.

> في عالمنا العربي، كثيراً ما تُقابل الكتابة النسوية بشيء من الحذر وربما الرفض. من واقع تجربتك في «ميثاق النساء» هل كان هناك تخوّف من التلقي؟

- ما ساعدني على كتابة «ميثاق النساء» بهذه الصراحة والشفافية هو أنني كتبت دون أن أفكر في أحد. لم يكن القارئ حاضراً في ذهني، ولا الناشر، ولا الرقيب. كنت أكتب فقط لأنني أشعر بأن لديّ شيئاً لا يحتمل التأجيل. ربما لهذا السبب لمس كثير من القراء صدق السرد، لأن النص لم يكن مقيّداً بالخوف من الأحكام، ولا مزيناً لإرضاء ذائقة بعينها. لم أكتب الرواية بدافع تبنّي خطاب نسوي محدد، وفي الوقت نفسه لا أحتاج أن أنفي عن نفسي «تهمة» النسوية. لكن المشكلة اليوم أن كلمة «نسوية» أصبحت مشوّهة ومثقلة بالإسقاطات.

هناك من يتحدث عن النسوية المتطرفة التي تشهر العداء للرجل، وهناك من يطالب بأن تكون لطيفة، وهناك من لا يعارضها ما دامت لا تطالب بتغيير فعلي. وبين هذه التصنيفات، تضيع الفكرة الأساسية: إن النسوية، ببساطة تعني أن يكون للمرأة الحق في أن تختار، أن تقرر، أن تُعامل ككائن كامل، ليس تابعاً ولا ناقصاً.

وعودة لسؤالك، لم أخف من التلقي، لأنني كنت صادقة مع نفسي، ولم أكتب شيئاً لا أومن به. والانتشار الواسع للرواية، خاصة بين النساء من خلفيات وثقافات مختلفة، أكّد لي أن ما كُتب كان ينتظر أن يُقال، بلا مواربة، وبلا تجميل للوجع الذي تعيشه كثير من النساء في عالمنا العربي.

> كيف يتقاطع مفهوم «الميثاق» مع الحكاية النسائية في الرواية بمنظورها الأوسع عن كتاب طائفة الموحدين؟

- «ميثاق النساء» ليس مجرد عنوان، بل مفتاحٌ لعالمٍ هشٍّ ومُحاطٍ بالمحرّمات، وعنواني، إذ يستعير عبارته من عنوان إحدى رسائل كتاب الحكمة المقدّس في الطائفة الدرزية، بدا لبعضهم وكأنه إعلان صريح للدخول في منطقة محرمة على الغرباء، بل حتى على أبناء الطائفة أحياناً. لكن هذا القلق لم يكن باعثاً على التراجع، بل كان جزءاً من الشجاعة التي استدعتها الكتابة نفسها.

فالميثاق الديني، كما ورد في المتن المقدّس، كُتب بقلم رجل، يُقدّم فيه تعاليم وإرشادات مُوجهة للنساء، ويضبط من خلاله علاقاتهن بالرجال، بل حتى بأنفسهن. أما «الميثاق» الذي تنسجه الرواية فليس قانوناً ولا وصيّة. إنه أقرب إلى وشوشة بين النساء، شهادة حية تُكتب بين السطور، وتُسرّ من امرأة إلى أخرى، لا لتُطاع، بل لتُفهم. هو ميثاق غير مكتوب، غير مُعلن، لكنه أقوى من النصوص الجاهزة، لأنه ينبع من الحياة، من الهزائم المتكررة، من لحظات الخذلان والانتصارات الصغيرة التي لا تُروى في المجالس العامة. ذلك هو الميثاق الحقيقي، لا تعاليم تُلقى من علٍ، بل عناق خفيّ بين المجروحات، ورغبة خافتة في النجاة دون ضجيج.

> تبدو هناك صورتان واضحتان للمجتمع الدرزي: صورة يرسمها أفراده عن أنفسهم من الداخل، وأخرى يراهم بها الآخرون من الخارج. هل الكتابة من داخله كانت محاولة لكسر الصور النمطية المحيطة به؟

- لكل أقلية صورتان: واحدة تصنعها لنفسها في الداخل، مليئة بالفخر والقلق والحذر، وأخرى تُسقِطها عليها عيون الخارج، غالباً بعين الريبة أو الشيطنة. وقد لاحظت، كما لاحظ غيري، أن المجتمع الدرزي كثيراً ما يُختزل من الخارج، في صورة «مجتمع باطني مغلق»، وكأن الغموض قدر لا فكاك منه. في حين تميل بعض الخطابات الأخرى إلى تصويره نموذجاً نقياً ومثالياً، أشبه بكائن مهدّد بالانقراض، يُغدق عليه المراقبون كلمات الإعجاب الفولكلوري. أما أنا، فلم أرد أن أُساهم في تغذية أيٍّ من هاتين الصورتين. لم أكتب لأقدّم دروزاً استثنائيين، ولا لأُفكك طائفة مغلقة. كتبت عن بشرٍ لهم حيواتهم المعقدة، لم أرد فتح النوافذ عليهم، بل فتحت النوافذ معهم، من الداخل. ولذلك كانت سعادتي كبيرة حين بدأت تصل إليّ رسائل من قراء لا ينتمون للمجتمع الدرزي، رجالًا ونساءً، قالوا لي إنهم وجدوا أنفسهم في شخصيات الرواية. وهذا، برأيي، جوهر الأدب الحقيقي: أن يُذيب المسافات، أن يحرّر الإنسان من علب التصنيف والانتماء.

> تشغل فلسفة تناسخ الأرواح موقعاً جوهرياً في العقيدة الدرزية، كيف فكرتِ في توظيفها داخل النص، وربما علاقتها بتحوّلات النساء عبر الأجيال؟

- فلسفة تناسخ الأرواح، كما تحضر في العقيدة الدرزية، تُغري الكثيرين بجرّها نحو عجائب السرد أو كوميديا العبث. لكنني، حين اقتربت منها، لم أقترب بروحٍ ساخرة ولا بعين واقعية سحرية، بل بقلبٍ مثقل بالتعاطف. كنت أفكّر في الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن فجأة، في عمر الورد، ووجدن في هذه الفلسفة عزاءً يقيهن الجنون. من جهة أخرى، شغلتني في هذه العقيدة تلك الومضة الفلسفية المتعلقة بالعدالة الكونية: أن يعود الإنسان بعد الموت ليُجرب الحياة مجدداً، من موقعٍ مختلف، في جسدٍ آخر، وبين مصائر جديدة. أحببت أن أرى في التناسخ تعويضاً عن الخسارة والخذلان، استدراكاً لما لم يكتمل؟ لكن الرواية لا تتبنى موقفاً واضحاً من هذه الفكرة. فهي لا تروّج لها ولا تدحضها، بل تفتح لها المجال كي تُختبر داخل النفس البشرية المتقلبة. إحدى الشخصيات تُدافع عن التناسخ بحرقة، كمن ضاقت به سُبل الحياة ويبحث عن معنى آخر، عن فرصة أخرى. في حين ترى شخصية أخرى أن التناسخ مجرد وهم، يولد من عجز الإنسان عن تقبّل الفقد، ومن حاجته المستميتة لتسكين ألمه بقصةٍ مريحة للقلب حتى لو رفضها العقل.

> يحضر الشعور بالذنب كظل ثقيل في الرواية، وقد بدأتِها بإهداء لابنتك يتراوح بين «اعذريني وسامحيني» بما يحمل صدى واضحاً من هذا الشعور، هل الكتابة كانت وسيلة لتحريرك من هذا العبء؟

- الشعور بالذنب ليس شعوراً فردياً أو عابراً، بل يكاد يكون ميراثاً تتناقله النساء، جيلاً بعد جيل، بين الخوف من التقصير، والرغبة في نيل رضا الآخرين. من هنا كان الإهداء لابنتي، بين «اعذريني» و«سامحيني»، لا بوصفه تبريراً، بل هو سؤال مفتوح، تركته لها وربما لكل امرأة أخرى، تبحث عن معنى التوازن في معادلة لا عدل فيها. ثنائية الأمومة والشعور بالذنب تأخذ حيزاً كبيراً في الرواية، لا لأنها حاضرة فقط في بيئتنا الشرقية، بل لأنها ظاهرة عالمية كما اكتشفت من خلال حواراتي مع نساء من ثقافات وخلفيات متعددة تُصوَّر الأم في المخيال الجمعي ككائن لا يُخطئ، لا يتعب، لا يشكو، لا يتراجع. وهذا التصوير، وبسبب مثاليته المنافية للواقع، يجعل من كل لحظة ضعف أو تقصير جرحاً في ضمير المرأة. في «ميثاق النساء»، حاولت أن أقدّم الأمومة كما هي: تجربة إنسانية تحتمل الصواب والخطأ، العطاء والتقصير، الحضور والغياب. والكتابة لم تكن وسيلة للهروب من الشعور بالذنب، بل كانت طريقاً لمواجهته.

> كون «ميثاق النساء» الرواية الأولى لك، وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، هل يشكّل هذا الأمر نوعاً من الضغط عليكِ؟ أم ترينه دفعة نحو مزيد من الثقة في مشروعك الأدبي؟

- لحسن الحظ، أنهيت روايتي الثانية قبل أن تُعلَن القوائم الطويلة والقصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية. وكأنني أغلقت الباب على نفسي بهدوء، لأكتب دون أن يتسلل إليّ صدى التوقعات أو ثقل المنافسة. لكن لا أنكر أن وصول «ميثاق النساء» إلى القائمة القصيرة منحني دفعة مضاعفة: من جهةٍ فتح أمام الرواية أبواباً كانت مغلقة، وقرّبها إلى قرّاء لم أكن أحلم أن أصل إليهم بهذه السرعة، ومن جهة أخرى، جعلني أعي أن خطواتي التالية ستكون أكثر مراقبة، وأكثر انتظاراً للحُكم. لكنني أُذكّر نفسي دائماً بأن الجوائز ليست الغاية، بل إحدى الثمار التي قد تتدلى من شجرة إذا كانت جذورها عميقة بما يكفي. الكتابة، كما أفهمها، ليست سباقاً نحو التتويج، بل رحلة لاكتشاف صوتي الداخلي، ذلك الصوت الذي لا يشبه أحداً، والذي لن يصدقني الناس فيه ما لم أصدّقه أنا أولاً. أتمنى أن أحتفظ بالبراءة الأولى، بتلك التلقائية التي كتبت بها روايتي الأولى والثانية، أن أظل أكتب لنفسي أولاً، ثم لهؤلاء الذين يجدون في كلماتي مرآةً لما لم يستطيعوا التعبير عنه. المشروع الأدبي، كما أراه، لا يُبنى على خوارزميات الجوائز ولا على استرضاء الذائقة السائدة، بل يبدأ حين يجد الكاتب صوته، وحين يؤمن بأن هذا الصوت، مهما كان خافتاً يستحق أن يُنصت إليه. وحين تأتي الجائزة، إن أتت، فلتكن صدىً طبيعياً لهذا الصدق، لا غايةً تُشوّه المسار.