هل يتغيّر العالم في العام الجديد؟

إذا استمرّت الدوَل المعاصرة في الاقتتال الإفنائيّ فإنّنا قد نشهد غرق الحضارة الإنسانيّة

هيغل
هيغل
TT

هل يتغيّر العالم في العام الجديد؟

هيغل
هيغل

غالباً ما نسأل أنفسنا على مشارف العام الجديد عن مآلات الزمن المقبِل علينا. يَطرح الأفراد على وجدانهم أسئلة التغيير الكيانيّ المنشود والتهذيب الأخلاقيّ المستحَبّ، في حين تستفسر الأمَم عن مسار التاريخ العالميّ المقترن بتطوّر العلاقات بين الحضارات، بين المجتمعات، بين الدوَل. أمّا النظر الفلسفيّ فيتأمّل في ارتقاء الوعي الإنسانيّ وانتقاله من طورٍ إلى آخر، سواء في النضج المتراكم أو في الانحلال المتفاقم. أخطرُ الاستفسارات تتناول مصير الإنسانيّة على تعاقب الأزمنة والعصور. فهل ساهمت المكتسبات العلميّة الجليلة والفتوحات التقنيّة المذهلة، لا سيّما في نطاق الذكاء الاصطناعيّ الذي وسم إنجازات العام المنصرم، في تعزيز قيمة الإنسان الكيانيّة وتوطيد كرامته الذاتيّة وترسيخ مقامه الفريد في الكون؟

ابن خلدون

في صميم الاستفسار الفلسفيّ الخطير هذا ينغرس الشكُّ في قدرة الإنسان على تغيير طبيعته المجبولة على تساكن الملائكيّة الراقية والبهيميّة المنحطّة. لا أعتقد أنّ تطوّر المعارف العلميّة يمكنه أن يبدّل في بنية التنازع الوجدانيّ الذي فُطِر عليه الكائنُ الإنسانيُّ. جلُّ ما في الأمر أنّنا أصبحنا نمتلك المفاهيم الدقيقة لكي نصف أحوال الاضطراب في التاريخ الإنسانيّ، ونُتقن استخدام الآلات المتطوّرة لكي نحلّل بنية المادّة في الإنسان، وفي الطبيعة، وفي الكون الأرحب. غير أنّ اتّساع المعجم اللفظيّ في الآداب والفنون والفلسفة، واختراع الآلات التكنولوجيّة الخارقة في العلوم التجريبيّة التطبيقيّة، لا يُفضيان إلى ولادةِ إنسانٍ جديدٍ، حتّى لو التحمت بخلايا جسده التحاماً كيانيّاً وثيقاً الأعضاءُ الاصطناعيّةُ المقوِّية، والشرائحُ الإلكترونيّة المتفوّقة، والأجهزةُ المعلوماتيّةُ المتنامية.

إذا ثبت أنّ البشريّة أضحت اليوم قادرةً على تحليل أسباب الانحلال الأخلاقيّ الفرديّ والجماعيّ، على نحو ما رسم مسارَه التصاعديّ عالمُ التاريخ والاجتماع والاقتصاد الفيلسوفُ التونسيُّ ابن خلدون (1332-1406)، فإنّ معرفة الأسباب النظريّة لا تؤهّل الوعي الإنسانيّ لتجاوز محنة الانعطاب الكيانيّ. نعرف اليوم أنّ الأمَم تنشأ وتنمو وتزدهر، ولا تلبث أن تضعف وتخبو وتتقهقر وتنحطّ وتنحلّ وتتلاشى وتَفنى. بيد أنّ ناموس التطوّر الطبيعيّ هذا لا ينطبق على حضارةٍ من الحضارات، أو أمّةٍ من الأمَم، أو مجتمعٍ من المجتمعات، بل قد يصيب البشريّة قاطبةً. إذا استمرّت الدوَل المعاصرة في الاقتتال الإفنائيّ، فإنّنا قد نشهد غرق الحضارة الإنسانيّة برمّتها، على نحو ما أومأ إليه الأديب اللبنانيّ-الفرنسيّ أمين معلوف (1949-....) الذي ما برح يحثّ الجميع على التحاور العقلانيّ البنّاء المستند إلى الاعتراف الصريح بالقيمة الاستثنائيّة الفريدة اللصيقة بتراثِ كلِّ حضارةٍ على حدة.

فرانسيس بيكون

حسنًا يفعل العلماءُ حين يُرسلون إلى الفضاء الأعلى أسطواناتٍ إلكترونيّةً صلبةً شديدةَ المنعة الذاتيّة يستودعونها مجموعَ الإنتاج الثقافيّ العالميّ المتراكم منذ تفتّح الوعي الإنسانيّ. الظنُّ أنّ تفاقم العنف الحضاريّ واضطراب النظام البيئيّ وفساد العلاقات الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة قد يُفضي عاجلاً أم آجلاً إلى انقراض الجنس البشريّ في الهيئة الكلاسّيكيّة المألوفة التي نعرفها حتّى اليوم. ربّما تستطيع بعض مختبرات العلوم الفيزيائيّة وشركات الشحن الفضائيّ أن تضمن لكوكبةٍ من الكائنات البشريّة المتطوّعة شروطَ الحياة المستديمة على سطح القمر أو المرّيخ. حينئذٍ لا تملك البشريّة الباقية في الأرض إلّا أن تعاين انحلالها الحتميّ الآتي.

أعرف أنّ مثل التصوّر الأُخرويّ النشوريّ القياميّ هذا ما فتئ مقتصراً على خيالات الأدباء وصنّاع الأفلام السينمائيّة. بيد أنّ علامات الأزمنة المعاصرة في منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين لا تُنبئ بانفراجاتٍ حضاريّةٍ واعدة. من المحتمل أن يظلّ التاريخ سائراً في دوران تكراريٍّ مطّردٍ من غير أن يُفضي إلى خاتمةٍ واضحةِ المعالم. في هذه الحال لا نملك إلّا أن نشاهد الناس في كلّ عامٍ جديدٍ يواظبون على الإفصاح عن نيّات التصالح والتغافر والتسالم، ولكن من غير أن يقرنوا مقاصدهم وأقوالهم بأفعال الإصلاح البنيويّ. لذلك ينبغي البحث عن العوامل الدفينة التي تحرّك التاريخ في اتّجاه الفساد والظلم والاضطراب والاحتراب. أفتكون غريزة الشرّ الناشبة في أعماق الطبيعة الإنسانيّة عاملاً حاسماً في إفساد المعيّة الحضاريّة؟ أم إنّ اختلال التوازن الجيوسياسيّ وتضارب المصالح الاقتصاديّة واستفحال الادّعاءات الآيديولوجيّة الاستعلائيّة الإقصائيّة عواملُ بنيويّةٌ أساسيّةٌ تؤثّر تأثيراً بالغاً في افتعال النزاعات والحروب؟

أعتقد أنّ التسويغَين الفرديّ والجماعيّ هذَين مرتبطان أوثقَ الارتباط، إذ إنّ الأفراد الصالحين المستنيرين المستمسكين بالفضائل الأخلاقيّة الرفيعة يمكنهم، من موقع مسؤوليّاتهم الإداريّة الخطيرة، أن يتدبّروا أعتى المعضلات السياسيّة والاقتصاديّة والآيديولوجيّة استعصاءً، وأن يلتئموا في محفل عالميّ تشاوريّ لكي يتباحثوا في أرقى الحلول عدلاً وإنصافاً. غير أنّ التهذيب الأخلاقيّ الروحيّ لم يَعد ينفع في منتديات التشاور العالميّة. وهنا بيت القصيد، إذ إنّ العقل الإنسانيّ المعاصر المبنيّ على الفاعليّة الإجرائيّة والأداتيّة المنفعيّة أمسى عاجزاً عن إرشاد الأفراد إلى مسالك الصلاح. غالباً ما أشعر أنّ أهل السياسة والاقتصاد النافذين في المحافل الكونيّة يعانون انفصاماً مرَضيّاً في شخصيّتهم الأخلاقيّة، لا سيّما حين يتخلّون عن مبادئهم الإنسانيّة في معترك مباحثاتهم السياسيّة والاقتصاديّة المصيريّة الخطيرة.

أهل السياسة والاقتصاد النافذون في المحافل الكونيّة يعانون غالباً انفصاماً مرَضيّاً في شخصيّتهم الأخلاقيّة، لا سيّما حين يتخلّون عن مبادئهم الإنسانيّة

وعليه، ينبغي النظر في مسار العقل الإنسانيّ المعاصر وإرشاده إلى مبادئ الصلاح الأخلاقيّ العليا. إذا أردنا أن تتغيّر أوضاع المسكونة، كان علينا أن نتدبّر حركة العقل الذي غالباً ما يخون مبادئه الأخلاقيّة في ميدان الفعل التاريخيّ. كان الفيلسوف الألمانيّ هيغل (1770-1831) يُصرّ على مكر العقل في التاريخ، واليقين الفلسفيّ الأرسخ عنده أنّ ضروب الفساد التي تعتري البشريّة إنّما هي حيَلٌ يبتدعها العقل الكونيّ حتّى ينضبط المسارُ الجدليُّ كلُّه في نظام التعقلن الروحيّ الأشمل المتجلّي في نهاية الأزمنة. من غرائب التفاؤل الأونطولوجيّ الهيغليّ هذا أن تنطوي حروب الناس المتناسلة على مقاصد التطهّر الأخلاقيّ الذي يُعِدّ البشريّة لأزوف زمن الروح المطلق.

يبقى السؤال الخطير الذي يؤرّق وعينا: هل ستستمرّ البشريّة على هذه الحال عاماً بعد عام؟ أم إنّ التاريخ سيُفرج قريباً عن مشهديّةٍ ختاميّةٍ مأسَويّةٍ تُفني الحياة على الأرض وتدفع بالفرقة الناجية إلى أعالي الفضاء الكونيّ؟ كلّ شيء ممكنٌ في قرائن الاحتدام الآيديولوجيّ الغضبيّ الالتهاميّ المستشري. ولكن هل نقبل أن يُقضى على الناس الطيّبين من ذوي الإرادات الصالحة وأن يؤخذوا بجريرة أهل الظلام والظلم والعنف والإجرام؟ لكي يتحرّر الناس من اجتراريّة الكلام التشاؤميّ هذا، ينبغي أن يتنادَوا ويتضامنوا ويتعاونوا من أجل استنقاذ مبادئ العقل النظريّ والعمليّ السويّة، وتهذيب الوعي الفرديّ والجماعيّ، وإرشاده إلى قيَم الكرامة والمساواة والحرّيّة والأخوّة والعدل. ذلك بأنّ الإنسانيّة المعاصرة لا تستحقّ الحياة في الأرض إذا ما أمعنت في ضلالها الآيديولوجيّ وانحلالها الأخلاقيّ.

ما معنى الحياة الإنسانيّة إذا انعدمت فيها مثلُ القيَم الأخلاقيّة الروحيّة الرفيعة هذه؟ أمّا الشرط الضروريّ الذي يمكّن المجتمعات المعاصرة من ترميم الرجاء الإنسيّ المتصدّع، فالتربية الرشيدة التي تصون عقلَ الأفراد في كلّ مجتمع على حدة، فتُحرّره من أوهام المخيِّلة المريحة، وقد أوجزها الفيلسوف الإنجليزيّ فرانسيس بيكون (1561-1626) في الأصنام الأربعة: صنم القبيلة أو المجتمعيّة الإكراهيّة القاهرة، وصنم الكهف أو المثاليّة الانعزاليّة، وصنم السوق أو الأفكار المتداولة الرائجة، وصنم المسرح أو الإيمان الأعمى المقيَّد بنماذج الماضي السلفيّة العقيمة. أعتقد أنّ العقل الفرديّ الذي ينعتق من هذه الأصنام يستطيع أن يساهم مساهمةً فاعلةً حاسمةً في إطار مجتمعه حتّى يحرّر الناس من محنة الفساد والظلم والاحتراب. حينئذٍ يصيب الرقيُّ العقليُّ الأخلاقيُّ هذا منتدياتِ القرار السياسيّ العالميّة. لا سبيل إلى خلاص الأرض إلّا بانعتاق العقل الفرديّ من سلاسل الجهل. بيد أنّ هذا الانعتاق مسؤوليّةٌ تربويّةٌ جليلةٌ في المقام الأوّل.


مقالات ذات صلة

أوانٍ حجرية من دبا البيعة

ثقافة وفنون ثلاث أوان من ولاية دبا البيعة في سلطنة عمان يقابلها كوب من جبل البُحيص إمارة في الشارقة

أوانٍ حجرية من دبا البيعة

خرجت من ولاية دبا البيعة في سلطنة عُمان مجموعة كبيرة من الأواني الأثرية المصنوعة من الحجر الصابوني الناعم، تشهد لتقليد فني راسخ

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «اسكتشات» لحسين رشيد

«اسكتشات» لحسين رشيد

عن دار «أهوار للنشر والتوزيع» ببغداد - شارع المتنبي، صدر للقاص حسين رشيد مجموعة قصصية مصنفة «اسكتشات» بعنوان «بار دي لو مي»

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون الثلاثي ميخائيل ومي وسهى نعيمة عاشوا معاً

ميخائيل نعيمة في عيده الـ135 لم ترحمه الحرب

تحدثت سهى لـ«الشرق الأوسط» بحزن عن الاحتفال الذي تأجّل ولم يُلغَ أبداً، «فنحن في أمسّ الحاجة للتعمّق في كتبه وأفكاره».

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون سليم بركات

الهويّة... والحريّة الأدبيّة

ما الذي يحدّد هويّة الأدب: هل اللغة أم القضايا والمواضيع التي يعالجها؟ وهل يحقّ للأديب أن يختار لغةً غير لغته الأمّ من دون أن يُعدَّ خائناً لهويّته الثقافية؟

هيثم حسين
ثقافة وفنون نصب الشاعر مخدوم قولي

مخدوم قولي... حارس الأمة التركمانية

زرتُ عشق آباد قبل أيام، بدعوة من جمهورية تركمانستان، لحضور الفعالية المركزية والحفل الكبير بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على ولادة شاعر تركمانستان مخدوم قولي فراغي

عارف الساعدي

صراع الهوية وتحولات الخليج

صراع الهوية وتحولات الخليج
TT

صراع الهوية وتحولات الخليج

صراع الهوية وتحولات الخليج

صدرت أخيراً رواية «سفرطاس»، للكاتب القطري د. خالد الجابر عن دار «النخبة» للنشر والطباعة والتوزيع في مصر، وهي تقع في 212 صفحة من القطع المتوسط. وتطرح الرواية أسئلة وجودية حول الهوية، والصراع الداخلي، والقدرة على التكيف مع المتغيرات التي تطرأ على المجتمعات.

يستعير الجابر من التراث الخليجي مصطلح «السفرطاس»، وهي تسميته شعبية دارجة منذ عشرات السنين، وتعني «وعاء الطعام متعدد الطبقات الذي يحمل فيه العمال قوت يومهم»، المصطلح هنا رمزي ومثير للاهتمام، يقول عنه الجابر في مقدمة روايته: «كالسَّفَرْطاس المُكدَّسِ بطبقاته المتنوِّعة، يحمل في أعماقه شَفرة الزمن المعقَّدة، تحيا ذاكرة الإنسان بكلِّ ما فيها من ذكريات ومخاوف ورغبات، خلال رحلة لا تنتهي عبر أبعاد الزمن الثلاثة؛ الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ في خِضم هذا التنقل المستمرِّ يتشكَّل الصراع بين الداخل والخارج، ليَصوغَ هُويَّته المتغيرة والمتجددة بلا توقُّف».

تحولات كبرى

تمتد أحداث الرواية عبر مسار زمني طويل، يشمل تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية كبرى شهدتها منطقة الخليج والعالم العربي على مدى قرن من الزمن؛ حيث يأخذ المؤلف القارئ في رحلة عميقة لاستكشاف العلاقة المعقدة بين الذات والآخر، وبين الهوية الفردية والتراث والحداثة. هذه الرواية ليست مجرد سرد لقصة حياة شخصية، بل هي دراسة عميقة لجدلية الهوية وما ينتج عن الصراعات النفسية والمجتمعية التي تواجه الفرد في العالم الحديث. عبر استخدامه الماهر للأسلوب الروائي، يتناول الجابر كيف أثرت التحولات البنيوية في التاريخ والجغرافيا على سلوك الإنسان، ويقدم رؤية نقدية لكيفية تداخل الهوية الفردية والجماعية مع الواقع الاجتماعي والسياسي المحيط.

تستعرض الرواية التحولات الكبيرة التي شهدتها منطقة الخليج والعالم العربي، بدءاً مما قبل اكتشاف النفط إلى حقبة ما بعد الاستعمار، وصولاً إلى الزمن الراهن، مروراً بالنزاعات والحروب التي مزقت المنطقة. ويعكس المؤلف هذه التحولات عبر شخصية جابر، الذي يمثل جيلاً عاش تلك التغيرات وعانى من تأثيراتها العميقة. ومن خلال استرجاع جابر ذكرياته وتجارب حياته، ترسم الرواية صورة دقيقة لكيفية تأثير التغيرات الاقتصادية والسياسية على البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع.

في الرواية، يتم التركيز على بعض الأحداث المفصلية في تاريخ المنطقة، مثل نكسة 1967، التي تركت جرحاً عميقاً في الوجدان العربي، وحروب المنطقة المختلفة، مثل حرب 1973، والحرب العراقية الإيرانية، واحتلال الكويت، واجتياح العراق، والحرب على الإرهاب ومرحلة ما بعد الربيع العربي، إلى الحديث حول المستقبل وموقع العرب فيه. هذه الأحداث لا تشكل فقط السياق السياسي للرواية، بل تؤثر بعمق على الشخصيات، وخاصة جابر، الذي يجد نفسه عالقاً بين الماضي والحاضر، بين ما كان يحلم به وما فرضته عليه الظروف.

الذات والآخر

من أبرز القضايا التي تتناولها الرواية جدلية الذات والآخر. بطل الرواية رجل مسن يعيش في دار رعاية، ويعاني من الوحدة والاغتراب، يشعر جابر بالعزلة الداخلية العميقة؛ نتيجة للتجارب الحياتية التي عاشها والذكريات التي يحملها. وتتشكل شخصيته من مجموعة من التناقضات؛ حيث يعيش في حالة من الصراع الدائم بين ماضيه وحاضره، بين آماله وخيباته، وبين ذاته والأشخاص من حوله.

وهذا الصراع الداخلي الذي يعيشه ينعكس في علاقاته مع الآخرين، وخاصة مع أصدقائه في دار الرعاية. كما أن كل شخصية في الرواية تحمل قصتها الخاصة، وتجسد تجربة مختلفة في الحياة. وعبر الحوار بين هذه الشخصيات، تتكشف أفكار مختلفة حول الهوية والانتماء والذاكرة، وكيف أن الماضي يشكل الحاضر ويؤثر عليه بطرق مختلفة.

إحدى القضايا الرئيسية التي يتم تناولها في هذه الحوارات هي قضية الاستعمار والنضال العربي. فجابر وأصدقاؤه يرون أن الاستعمار، رغم انتهائه بشكل رسمي، قد استمر بطرق أخرى، مثل الهيمنة الاقتصادية والثقافية التي فرضتها الشركات الأجنبية على ثروات البلاد. يعكس هذا الصراع الداخلي بين الفرد ومجتمعه الأوسع، الذي يعيش في ظل تبعية مستمرة رغم الاستقلال السياسي.

من هنا فإن بطلها، الذي يمثل جيلاً عاش تحولات كبيرة في منطقة الخليج والعالم العربي، عاش طفولته في قرية بسيطة على شاطئ الخليج تعتمد فيها الحياة على القليل من الموارد، مثل صيد الأسماك والعمل اليدوي. مع وفاة والده الذي كان يغوص في أعماق البحر بحثاً عن اللؤلؤ، تتحول حياة الأسرة بشكل جذري، وتبدأ معاناة جابر وأسرته في مواجهة الفقر.

لكن حياة جابر تأخذ منعطفاً كبيراً عندما يبدأ العمل في شركة نفط أجنبية. العمل في الشركة يمثّل بالنسبة له الأمل في الهروب من الفقر، لكنه سرعان ما يدرك أنه جزء من نظام استغلالي يستفيد من ثروات بلاده دون أن يحقق العدالة الاجتماعية. الأجانب الذين يعملون في الشركة يعيشون حياة مرفّهة في مجتمعات مغلقة، بينما يعيش العمال العرب في فقر وتهميش. هذا التناقض بين ما كان يأمله وما وجده في الواقع يخلق صراعاً داخلياً يعاني منه طوال حياته.

وسبق للجابر أن كتب رواية بعنوان «راهب بيت قطرايا»، تتناول جدلية الدين والسياسة والإنسان في القرن السابع الميلادي، وهي الحقبة التي انتهت معها الحروب الرومانية الفارسية، وازدهرت فيها طوائف الديانة المسيحية في منطقة الخليج والجزيرة العربية.