«متاحف الأدباء»... أي دور في الثقافة العربية؟

كتّاب عرب يناقشون واقعها وطرق استعادة تأثيرها

متحف طه حسين ( مركز رامتان)
متحف طه حسين ( مركز رامتان)
TT

«متاحف الأدباء»... أي دور في الثقافة العربية؟

متحف طه حسين ( مركز رامتان)
متحف طه حسين ( مركز رامتان)

تنطوي فكرة إقامة متحف لأديب أو فنان ما في بلده على معنى شديد النبل والجمال، حيث يتم تحويل منزل أحد رموز الإبداع إلى وجهة معرفية وسياحية، تنطلق من الفكر وتكرم أبناء الوطن وتحفظ لهم تراثهم. رأينا ذلك في نماذج عالمية عدة، منها متحف «ياسنايا بوليانا» الخاص بالكاتب الروسي ليو تولستوي، ومتحف «تشارلز ديكنز» المقام بلندن منذ عام 1925، وبيت الكاتب الأميركي مارك بولاية كونيتيكت. ولا يعدم الوطن العربي نماذج مماثلة، وإن كانت بدرجة أقل على مستوى الكم، لكن المشكلة تكمن في الضعف المتزايد لدور وتأثير تلك المتاحف داخل تيار الثقافة العربية على مستوى الكيف كذلك، فكيف يمكن استعادة هذا الدور وتنشيطه؟

في هذا التحقيق تستطلع «الشرق الأوسط» آراء مثقفين وأدباء في هذا السياق، ومقترحاتهم لجعل متاحف الأدباء أكثر حيوية وأعمق تأثيراً.

متحف أحمد شوقي (كرمة ابن هانئ)

شوقي وطه حسين

تعد مصر من أكثر البلاد العربية احتواء على متاحف أدبية، كما الحال في متحف أمير الشعراء أحمد شوقي المعروف بـ«كرمة ابن هانئ» ومركز «رامتان» الثقافي الخاص بعميد الأدب العربي طه حسين، ويعدّ متحف نجيب محفوظ الأحدث في هذا السياق، لكن لماذا تبدو تلك المتاحف بعيدة عن التأثير الفعال في الجمهور العادي؟ وهل هناك خطط مستقبلية في هذا الشأن؟

تقول أمل محمود، أمينة متحف أحمد شوقي: «تم وضع المتحف على الخريطة السياحية من خلال توقيع بروتوكول مع وزارة السياحة، يستهدف الترويج للمكان عن طريق شركات متخصصة، وإدراجه في برامجها السياحية، إلى جانب بروتوكول تعاون ثانٍ مع وزارة التربية والتعليم».

د.خالد عزب

وأضافت: «يقدم المتحف خدمة ثقافية يومية على صفحته الرسمية بموقع (فيسبوك) تتعلق بالتعريف بتراث أمير الشعراء. ويفتح المتحف أبوابه من 9:00 صباحاً حتى 4:00 عصراً، عدا يومي الاثنين والجمعة، وذلك بأسعار رمزية للغاية، كما نفتح أبوابنا مجاناً في السبت الأول من كل شهر، كما نستقبل أعداداً كبيرة من الطلاب والدارسين خلال الموسم الدراسي، أما فترة الإجازة الصيفية فنستقبل فيها زواراً من جنسيات مختلفة، فضلاً عن تنظيم كثير من الورش الإبداعية واللقاءات الفنية والأمسيات الشعرية».

وتوضح مروة محيي حسين، مديرة متحف طه حسين، أن الخدمات التي يقدمها المتحف تشمل إقامة ورش فنية وإبداعية للكبار والصغار، مع اهتمام خاص بذوي الاحتياجات الخاصة، مشيرة إلى أن فكرة الفنون تعد مركزية في أنشطة المتحف، لأنه يتبع قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة، ويركز على الإسهام في تنمية منطقة الجيزة ثقافياً بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم وإدارة التربية المتحفية لذوي الاحتياجات الخاصة بقطاع المتاحف بوزارة السياحة والآثار.

حاتم رضوان

مقترحات تنتظر التنفيذ

يرى الباحث والمؤرخ الثقافي د. خالد عزب أن متاحف الأدباء في نسختها المصرية هي إنجاز بارز ينقصه أن تقوم وزارة الثقافة بإدارتها بصورة أكثر مهنية تليق بها، كما أن متحف نجيب محفوظ غير مناسب في موقعه الحالي بمنطقة «الجمالية» الشعبية بالقاهرة، وهناك حاجة ملحة لمراجعة طبيعته ونوعية الخدمات التي يقدمها. ويطالب د. خالد بتنظيم رحلات مدرسية تجعل من متاحف الأدباء وجهة ثابتة، حتى يتفاعل الطالب مع الكاتب وحياته، وهو ما يحفز الأجيال الجديدة على الإبداع، كما يجب أن تكون هناك مكتبة ملحقة بالمتحف تضم كل ما نشره الأديب وما كُتب عنه وإتاحة ذلك علي الموقع الرقمي للمتحف.

ويطالب الكاتب الروائي د. حاتم رضوان بإقامة متاحف جديدة لرموز أخرى في الأدب المصري بمسقط رؤوسهم خارج القاهرة، مثل جمال الغيطاني بمحافظة سوهاج جنوب مصر، وعبد الرحمن الأبنودي بمحافظة قنا، ويوسف إدريس بمحافظة الشرقية، وكذلك أنيس منصور بمدينة المنصورة، وإدوار الخراط بالإسكندرية. ولمزيد من تفعيل دور هذه المتاحف، يقترح رضوان إنتاج أفلام تسجيلية عنها باللغات الأجنبية، وليس بالعربية فقط، لعرضها بمختلف بلدان العالم، وإلحاقها كمزارات ضمن البرامج السياحية للأجانب الوافدين، كما يجب أن تصبح هذه المتاحف بمثابة منارات ثقافية تقدم جرعة مكثفة من الندوات والمسابقات والورش الإبداعية.

صبحي فحماوي

مخاطر متعددة

تصف الكاتبة والشاعرة السورية المقيمة ببيروت، غادا فؤاد السمان، المتاحف الأدبيّة بأنها «منارات شاهقة للتاريخ والإهمال»، فهي عنوان من عناوين الثقة بالحضارة، لكننا العرب لم نعتد ثقافتها بعمق كما ينبغي، فالشعوب العربيّة – برأيها - لا تملك الشغف الكافي للتفرّس في الحقب التاريخيّة للوقوف على الماضي وربطه بالحاضر. وتشير السمان إلى أن المتاحف عموماً، ومتاحف الأدباء في القلب منها، تواجه مخاطر كثيرة، وبحاجة إلى استقرار أمني بالدرجة الأولى، فمثلاً المتاحف في لبنان أثناء الحرب الأهلية 1975 - 1990 فقدت كثيراً من مقتنياتها التي تمّ تسريبها إلى أوروبا، ومثلها في حرب بغداد 2003، ولا يخفى على أحد الخسارات التي لحقت بالثروات التراثية الحضارية الهائلة، في المتاحف السورية التي نهشها «الدواعش» ونهبتها أيادي الغدر التي فتكت بأهم المعالم في معظم المدن السورية، كما حدث في متحف وبيت الشاعر «أبي الطيّب المتنبّي» الذي تعرّض للتخريب والعبث، ومثله متحف وبيت «الشاعر أبي فراس الحمداني»، ومن فضائل صمود دمشق أنّها احتفظت ببيت الشاعر الكبير «نزار قباني» شاهداً على الخلفيّة الجماليّة والأصالة والعراقة الإنسانيّة التي ترشح بها قصائد نزار قباني في بيئة خصبة من الاستقرار والتوازن لأسرته الدمشقيّة.

غادا فؤاد السمان

بينما ترى «السمان» أن لبنان يحتوى على كثير من المتاحف لمشاهير الأدباء، كما الحال مع جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وسعيد عقل وغيرهم ممن نجح القائمون عليها في الحفاظ على طابعها الحضاري، وتحوّلت البيوت إلى متاحف يقصدها أبناء لبنان وكثير من السياح من كل حدبٍ وصوب، وذلك بجهود أهالي الراحلين، وبعض البلديات الحريصة على التميّز بانتساب المناطق إلى مبدعيها، وليس العكس.

قامات غائبة

تشير الكاتبة والباحثة التونسية فاطمة بن محمود إلى أنه يوجد في تونس قامات إبداعية كبيرة لها بصمتها على المنجز الفكري واﻷدبي والفني إﻻ أنه يلّفها النسيان، وتتعامل الدولة مع هذا الإرث بكثير من اللامبالاة، باستثناء «روضة الشابي» التي تضم ضريح الشاعر أبي القاسم الشابي فقط، وتحولت إلى مزار لبعض ضيوف تونس أثناء فعاليات المهرجان الدولي للشعر بتوزر (مسقط رأس الشاعر) لكن هذا لا يكفي.

فاطمة بن محمود

وتضيف: «لا نحتاج من المبدع قبره، فهو لا يموت، لكن نحتاج متحفاً يضم ما يشير إلى الحياة، أنه كان يعيش ويكتب ويمشي هنا، لذلك أدعو أن يتحول مرقد (الشابي) إلى متحف، كما أننا بحاجة ماسة إلى إنشاء متاحف لعدد من الرموز الثقافية الأخرى، مثل محمود المسعدي والطاهر الحداد وغيرهما، ممن يستحقون، وهم كثّر، حيث يتصدر المثقفون المشهد الذي يبدو أن البعض يريد أن يحتكره لنفسه».

ويكشف الكاتب الأردني صبحي الفحماوي عن محاولات كثيرة قامت بها الجماعة الثقافية الأردنية لتحويل منزل الأديب العربي المعروف غالب هلسا إلى متحف، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل، مشيراً إلى أن أسباب رفض إقامة متحف لأديب ما بشكل عام تتنوع في الأردن ما بين رغبة العائلة في الاحتفاظ ببيته وعدم التفريط فيه لدوافع اقتصادية بحتة، أو وجود خلافات وصراعات داخل العائلة الواحدة.

ويضيف: «متاحف الأدباء في الأردن محدودة للغاية، وأحياناً ما تتبع عشيرة ما تريد أن تحتفي بأحد أبنائها النابغين، فتقيم له متحفاً كما في حالة متحف عرار (1899 - 1949)، الشاعر الأردني المعروف بريادته، ما أسس للقصيدة التقليدية في نسختها الجزلة الرصينة».


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه
TT

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه

أنْ تصل إلى قمة الشعر كالمتنبي وفيكتور هيغو فهذا شيء مفهوم ومقبول وإن على مضض. أنْ تصل إلى قمة الفكر كديكارت وكانط وهيغل، فهذا شيء مفهوم ومعقول، وإن على مضض أيضاً. أما أنْ تصل إلى قمة الشعر والفكر في آن معاً فهذا شيء ممنوع منعاً باتاً. هذا شيء لا يحتمل ولا يطاق. هل لهذا السبب جُنَّ نيتشه؟ من يعلم؟ أم أنه اقترب من السر الأعظم أكثر مما يجب فعميت عيناه؟

في شهر مايو (أيار) من عام 1879 استقال نيتشه من جامعة بال بسويسرا بسبب أمراضه العديدة المتفاقمة على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين عاماً: أي في عز الشباب. وقد اقتنعت الجامعة بظروفه وحيثياته وقبلت بأن تصرف له تقاعداً شهرياً متواضعاً يكفيه لدفع أجرة الغرفة والأكل والشرب وشراء بعض الكتب والمراجع. أما الثياب فلم يكن بحاجة إلا إلى أقل القليل: غيار واحد فقط، طقمان وقميصان. وكفى الله المؤمنين شر القتال. بدءاً من تلك اللحظة أصبح نيتشه شخصاً تائهاً مشرداً على الطرقات والدروب. بدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً حقيقياً وكاتباً ضخماً لا يُشقُّ له غبار. لقد بقيت له عشر سنوات فقط لكي يعيش حياة الصحو. بعدئذ سوف يقلب في الجهة الأخرى من سفح الجنون. ولكن هذه السنوات العشر كانت كافية لكي يضع مؤلفاته الكبرى التي دوخت العالم منذ مائة وخمسين سنة حتى اليوم. بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم كله بوديانه السحيقة وغاباته العميقة مثل كتاب مفتوح على مصراعيه لكي يتفلسف عليه. هل يمكن أن يمضي نيتشه حياته كلها في إعطاء الدروس الجامعية بأوقات محددة وإكراهات وظيفية مزعجة وتصحيح أوراق الطلاب؟ محال. هذه حياة لا تليق بفيلسوف بركاني زلزالي يكاد يتفجر تفجراً... نقول ذلك، بخاصة أنه كان يكره الفلسفة الجامعية وأستاذ الجامعة ويعدّه «كالحمار» الذي يحمل أثقالاً وأفكاراً جاهزة يكررها على مدار السنوات حتى سن التقاعد. هل هذه حياة؟ هل هذه فلسفة؟ على هذا النحو انطلقت عبقريته وانفتحت طاقاته الإبداعية على مصراعيها. عشر سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها.

كل كتاباتي ليست إلا انتصارات على ذاتي!

هذا ما كان يردده باستمرار. وهي بالفعل انتصارات على المرض والمخاطر والصعوبات. إنها انتصارات على تربيته الأولى بشكل خاص. والأهم من ذلك كله أنها كانت انتصارات على التراث الموروث المتراكم والراسخ في العقليات رسوخ الجبال. هنا تكمن الزلازل النيتشوية. أين أمضى الشهور الأخيرة قبل أن ينفجر عقله كلياً؟ لقد أمضاها في مدينة تورين الإيطالية الجبلية الساحرة وهناك شعر بالارتياح وباسترجاع الصحة والعافية إلى حد ما. لقد استقر فيها خريف عام 1888 وأظهر شهية هائلة للكتابة وتفجرت طاقاته الإبداعية في كل الاتجاهات. وما كان أحد يتوقع أنه سينهار بعد أربعة أشهر فقط، ولا هو كان يتوقع ذلك بطبيعة الحال. ولكن الأشياء كانت تتراكم والانفجار الصاعق قد اقترب. نقول ذلك بخاصة أنه استطاع تأليف 5 كتب متلاحقة في ظرف 5 أشهر فقط. من يستطيع أن يؤلف كتاباً كل شهر؟

فلماذا الإعصار إذن؟ لماذا الانهيار بعد كل هذه الانتصارات التي حققها على ذاته وعلى أمراضه وأوجاعه؟ هل لأنه أنهك نفسه أكثر مما يجب فانفجر عقله في نهاية المطاف من كثرة التعميق والتركيز؟ هل الفلسفة تجنن إذا ما ذهبنا بها إلى نهاياتها، إلى أعماق أعماقها؟ هل يمكن أن ينكشف السر الأعظم لمخلوق على وجه الأرض؟ لا أحد يؤلف 5 كتب في 5 أشهر أو حتى 4. أم هل لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله ووصل إلى ذروة الإبداع العبقري ولم يبق له إلا أن ينبطح أرضاً؟ أم هل لأنه كان مصاباً بمرض السفلس (الزهري) الذي اعتراه منذ شبابه الأول في مواخير مدينة كولونيا عام 1966. أم أن تلك الغاوية الحسناء سالومي جننته؟ أم؟ أم؟ أم؟ والله أعلم. البعض يقولون إنه دفع ثمن هجومه الصاعق على المسيحية غالياً. ينبغي ألا ننسى أنها كانت دين آبائه وأجداده، وأن والده كان قساً بروتستانتياً وجده كذلك، وجد جده أيضاً.. إلخ. ومعلوم أن أمه فرانزيسكا جن جنونها عندما سمعت بأنه أصبح ملحداً بعد أن كان مؤمناً متديناً بل وتقي ورع طيلة طفولته وشبابه الأول. فكيف انقلب على كل ذلك؟ كيف انقلب على ذاته وأعماق أعماقه؟ ألم يدفع ثمن هذا الانقلاب باهظاً؟ يحق له بالطبع أن يفكك الأصولية الطائفية والمذهبية الموروثة عن القرون الوسطى. يحق له أن يستأصلها من جذورها كما فعل أستاذه فولتير الذي أهداه أحد كتبه قائلاً: إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية. ولكن لا يحق له أن يستأصل العاطفة الدينية ذاتها. لا يحق له أن يستأصل أعظم ما أعطاه الدين المسيحي من قيم أخلاقية تحث على الإحسان والشفقة والرحمة وحب الآخرين (بين قوسين: وهي قيم موجودة في الإسلام أيضاً إذا ما فهمناه بشكل صحيح وليس على طريقة الإخوان المسلمين الذين لا شفقة لديهم ولا رحمة، وإنما فقط طائفيات ومذهبيات وتكفيرات وتفجيرات). لحسن الحظ فإن أمه لم تطلع على كتابه الأخير عن الدين وإلا كانت قد أُصيبت بالسكتة القلبية على الفور.

ما هي العلائم الأولى التي أرهصت بانهياره العقلي؟

تقول لنا الأخبار الموثقة ما فحواه: لقد ظل يكتب بشكل عقلاني متماسك حتى آخر لحظة تقريباً من عام 1888. ولكن بعد ذلك ابتدأت عبارات الجنون تظهر وتختلط بالعبارات العقلية المتماسكة أو التي ما زالت منطقية متماسكة. ابتدأت هذياناته غير المعروفة تظهر رويداً رويداً. ابتدأ يشعر بالبانورايا الجنونية. بموازاة ذلك تضخمت شخصيته وتحولت إلى هذيان كوني. هل هو جنون العظمة؟

بعدئذ في 6 يناير (كانون الثاني) من عام 1889، أي بداية العام الجديد الذي شهد انهياره تلقى البروفيسور الكبير جاكوب بوركهاردت أستاذ نيتشه والجيل كله رسالة هذيانية يقول فيها:

«الشيء الذي يخدش تواضعي وحيائي هو أنني أجسد في شخصي كل الأشخاص العظام الذين ظهروا في التاريخ. لقد شهدت خلال الفترة الأخيرة جنازتي ودفني مرتين في المقبرة»... ما هذا الكلام؟ ما هذا الهذيان؟ ما هذا الجنون؟ من يشهد جنازته ودفنه في المقبرة؟

عندما وصلت هذه الرسالة إلى بروفيسور سويسرا الكبير اتصل فوراً بأقرب صديق عزيز على قلب نيتشه: الدكتور فرانز أوفربيك وسلمه الرسالة قائلاً: لقد حصل شيء ما لنيتشه. حاول أن تفهم. حاول أن تفعل شيئاً. عجل، عجل. وعندئذ هرع الرجل وركب القطار فوراً من سويسرا إلى إيطاليا لكي ينقذ الوضع إذا أمكن. ولكن بعد فوات الأوان.

يقول ما فحواه: عندما دخلت عليه الغرفة وجدته مستلقياً نصف استلقاءة على الأريكة وبيده ورقة مكتوبة. فتقدمت نحوه لكي أسلم عليه ولكن ما إن رآني حتى انتصب فجأة على قدميه وهرع هو نحوي ورمى بنفسه بين أحضاني. لم يقل كلمة واحدة، لم يلفظ عبارة واحدة، فقط كان ينتحب بصوت عال والدموع تنهمر من عينيه مدراراً. وكل أعضاء جسمه كانت تختلج وترتجف وهو يردد كلمة واحدة هي: اسمي فقط. لكأنه يستغيث بي. لم تكن الحساسية البشرية قد انتهت فيه كلياً آنذاك. لم يكن عقله الجبار قد انطفأ كلياً. فيما بعد لم يعد يتذكر إلا أمه وأخته اللتين أشرفتا عليه حتى مات عام 1900. (بين قوسين: انظر صورته مع أمه أكثر من مؤثرة). وفجأة شعرت أخته إليزابيت بأنها تمتلك كنز الكنوز: مؤلفاته العبقرية! فقد راحت تكتسح ألمانيا كلها من أولها إلى آخرها في حين أنه لم يبع منها في حياته أكثر من عشر نسخ. بل وكان ينشرها على حسابه الشخصي على الرغم من فقره وتعتيره. ولكن بعد جنونه بفترة قصيرة ذاع صيته وانطلقت شهرته. ثم راح صوته يخترق كالرعد القاصف السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. وأصبحت كتبه تباع بالملايين. بل وتحول كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إلى إنجيل خامس كما يقال. وأقبلت عليه الشبيبة الألمانية تتشرب أفكاره تشرباً. وقد تنبأ هو بذلك عندما قال: «هناك أناس يولدون بعد موتهم. سوف تجيء لحظتي ولكني لن أكون هنا».

رسائل الجنون

سوف أتوقف فقط عند تلك البطاقة التي أرسلها إلى «كوزيما» زوجة صديقه ومعلمه السابق الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. كل المخاوف والإحراجات التي كانت تمنعه من البوح لها بعواطفه ومشاعره حرره منها الجنون. يبدو أنه كان مولهاً بها منذ زمن طويل عندما كان يزورهم في البيت الريفي ويمضي عدة أيام في ضيافتهم. وحتماً كان يغازلها بشكل خفيف. ولكنه كان حباً عذرياً خالصاً لا تشوبه شائبة.

يقول لها في تلك الرسالة الجنونية:

«حبيبتي الغالية جداً أميرة الأميرات. من الخطأ اعتباري شخصاً عادياً كبقية الناس. لقد عشت طويلاً بين البشر وأعرف كل ما يستطيعون فعله من أسفل شيء إلى أعلى شيء. بين الهنود كنت بوذا بشخصه. وعند الإغريق كنت ديونيسوس. والإسكندر المقدوني وقيصر روما هما من تجلياتي أيضاً. وحتى الشاعر شكسبير واللورد فرانسيس بيكون تجسدا في شخصي. وكنت فولتير ونابليون وربما ريتشارد فاغنر ذاته. لقد تقمصتهم جميعاً.

ولكن هذه المرة أجيء كديونيسوس الظافر الذي سيجعل الأرض كلها كرة من نور وحفلة عيد. السماوات ذاتها أصبحت ترقص وتغني وتطلق الزغاريد ما إن وصلت.. وكنت أيضاً معلقاً على الصليب».