«ما وراء اللعبة»... سحر كرة القدم من منظور فلسفي

لها قيمة ترفيهية نفسية تتجاوز الواقع اليومي بضروراته الضاغطة

«ما وراء اللعبة»... سحر كرة القدم من منظور فلسفي
TT

«ما وراء اللعبة»... سحر كرة القدم من منظور فلسفي

«ما وراء اللعبة»... سحر كرة القدم من منظور فلسفي

عادة ما يتصدى النقاد الرياضيون واللاعبون السابقون للشأن الكروي لكن هذه المرة من يخوض في دهاليز هذه اللعبة التي تعد شغفاً عابراً للقارات والثقافات عبر العالم هو فيلسوف وروائي. إنه الكاتب الإنجليزي ستيفن مامفورد، أستاذ ورئيس قسم الميتافيزيقيا في جامعة دورهام، الذي صدر له أخيراً عن دار «العربي» بالقاهرة كتاب «فلسفة كرة القدم - ما وراء اللعبة» في طبعة جديدة، وبترجمة شيقة لمحمد عثمان خليفة.

يشير «مامفورد» في البداية إلى أنه لا عجب أن أولئك الذين يشاهدون كرة القدم ينغمسون أحياناً في التفكير ويشرعون في تحليل ما يرونه على مستوى أكثر فلسفية، حيث توفر لهم كرة القدم مهرباً وملاذاً بعيداً عن هموم العمل والحياة التي تُنسى عندما تنغمس في مباراة وتستمتع بفترة من الخمول التام. تمنحك كرة القدم رفاهية التفكير، إذ يمكن للمرء أن يفكر في طبيعة الرياضة، وما يتشعب عن ذلك من تأملات في الحياة والأخلاق والعالم والميتافيزيقيا.

ومن بين هذه الأفكار أن لكل مدرب كرة قدم أسلوبه الذي يرتبط بفلسفة ما حول المبادئ العامة الشاملة أو المعايير المتعلقة بما يريد المرء تحقيقه وكيفية قيامه بذلك. ربما يتم التعبير عن هذه الفلسفة بطريقة مبسطة أساسية لكنها لا تفتقر إلى القوة. وهنا تبدو فكرة الفوز بأي ثمن فلسفة معقولة على سبيل المثال، لكننا نرى أنها فكرة جديرة باختبارها أخلاقياً. في محاورة «الجمهورية»، أظهر أفلاطون موطن الخلل عندما قال إن الخير هو ما يصب في مصلحة الأقوى. وعلى هذا المنوال أظهر فريق «إستوديانتس» الأرجنتيني الذي اكتسب شهرته في الستينات ما يمكن أن يحدث عند اعتماد فلسفة الفوز بأي ثمن تلك. كانت النتيجة أن اللعبة أصبحت منحطة ووحشية. وبدلاً من ذلك قد تكون هناك التزامات تجاه اللعب النظيف، أي لعب كرة القدم بالطريقة الصحيحة الممتعة. وضمن ذلك يمكن أن تكون هناك آراء مختلفة حول «ماهية» تلك الطريقة الصحيحة، هل يعني ذلك الهجوم الشامل؟ أم أن المهارات الدفاعية من القيم العليا لهذه الرياضة؟ ثم هل من المناهض لكرة القدم أن تلعب بمبدأ السلامة؟ وهل يجب أن تسمح كرة القدم بالتعبير عن المهارات الفردية للاعبين؟ أم يجب أن يلتزموا بخطة المدرب بشكل صارم؟

يقول المؤلف إن هذه أسئلة فلسفية لأنها ليست مسائل تحسمها حقائق الأمور، إنها معيارية تتعلق بما يجب القيام به بدلاً من ماهية ما يتم القيام به، وبالتالي يجب تسويتها فقط من خلال التفكير المدروس. وليس من الجيد أن نقول إن فلسفة ما أفضل من أخرى لأنها تحقق انتصارات أكثر، لأن أهمية النصر في حد ذاتها مسألة معيارية، ففي حالة فلسفة مثل فلسفة «الفوز بأي ثمن» نجد أنها كانت محل رفض كفلسفة، على الرغم من تحقيقها النجاح. وبعد رؤيتها وتجربتها، قررت معظم أندية كرة القدم أنها لا تريد الفوز بهذه الطريقة، وتتعلق المعيارية بتفضيلاتها للمبادئ التوجيهية، التي تتعلق بالجمع بين الفوز وتقديم أداء ممتع في الوقت ذاته.

وتستدعي تكتيكات كرة القدم لدى المؤلف نظريات الفيلسوف الألماني هيغل، الذي اقترح أن حركة التاريخ مدفوعة بعملية جدلية تكون فيها المواجهة بين الطرح والطرح المضاد قبل أن يظهر طرح يجمع بين الطرحين السابقين في تآلف تام. ويبدو أن هذا ينطبق على الكرة كما يحدث على سبيل المثال في مباراة يقرر فيها المدرب أنه سيلعب بشكل هجومي بحت، فيتلقى العديد من الأهداف التي تهز شباكه. وبالتالي يتعلم مدرب آخر الدرس، فيقرر أن يلعب بشكل دفاعي بحت، فلا يتمكن من إحراز أهداف كما أن اللعب هنا يفتقد للمبادرة والمتعة. وبالتالي، يظهر مدرب ثالث يجمع بين التوليفتين السابقتين ويقرر أن يلعب بطريقة تجمع بين الهجوم والدفاع في شكل متوازن.

ويربط المؤلف بين كرة القدم وبين متعة الأفكار الخاملة بالمعنى الذي حدده الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل في مقالته التي نشرها عام 1932 بعنوان «في مديح الخمول»، حيث توفر الكرة إمكانية الهروب، وذلك لأنه لا طائل من ورائها بنهاية المطاف. هي الوسيلة والغاية في الآن نفسه. إن الإنسان العادي يزرع ليأكل ويبني ليسكن، ولكن هذا الإنسان ذاته لا يلعب ولا يشاهد كرة القدم لأي غاية أخرى محددة سوى اللعب أو المشاهدة. وإذا قلنا إن تلك الرياضة غايتها إحراز الأهداف حتى يحصل اللاعبون على مستحقاتهم وتسعد الجماهير، إلا أن الحقيقة القاسية هي أن إحراز الأهداف لن يحقق السلم العالمي أو يعالج السرطان. وبالتالي لا بد من الاعتراف بأن ما تفعله كرة القدم يختلف تماماً عما يفعله الطب أو الزراعة أو البناء، وهذا يدل على أن للكرة قيمة ترفيهية نفسية تتجاوز الواقع اليومي بضروراته الضاغطة واحتياجاته الأساسية.


مقالات ذات صلة

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

يوميات الشرق «شيء مثير للاهتمام جداً» (رويترز)

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

ستُطرح نسخة نادرة من المخطوطة الأصلية لرواية «الأمير الصغير» للكاتب أنطوان دو سانت أكزوبيري، للبيع؛ وهي التي تحتوي على تصحيحات وتعليقات مكتوبة بخطّ المؤلّف.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة

يسعى كتاب «لعب الأدوار بقوة» للكاتبة والباحثة الأميركية، ديبورا جرونفيلد، إلى تفكيك مفهوم «القوة»، بما له من حمولات سيكولوجية، واجتماعية، وسياسية، وإنثروبولوجية

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب «استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

«استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

يأخذ المفكر اللبناني مشير باسيل عون قارئه، في مؤلفه الجديد «استنطاق الصامت: مفاتحات فلسفية في الاجتماع والدين والسياسة» الصادر حديثاً عن دار «سائر المشرق»

مالك القعقور (لندن)
كتب «الحرب العراقية - الإيرانية»... تلك الحرب المجنونة!

«الحرب العراقية - الإيرانية»... تلك الحرب المجنونة!

صدر حديثاً عن «مكتبة عدنان» العراقية كتاب «الحرب العراقية - الإيرانية» لبيير رازو، الذي ترجمه إلى العربية فلاح حسن الأسدي.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون «اسكتشات» لحسين رشيد

«اسكتشات» لحسين رشيد

عن دار «أهوار للنشر والتوزيع» ببغداد - شارع المتنبي، صدر للقاص حسين رشيد مجموعة قصصية مصنفة «اسكتشات» بعنوان «بار دي لو مي»

«الشرق الأوسط» (بغداد)

فريدريك جيمسون... آخر المثقفين الكلاسيكيين

فريدريك جيمسون
فريدريك جيمسون
TT

فريدريك جيمسون... آخر المثقفين الكلاسيكيين

فريدريك جيمسون
فريدريك جيمسون

ربما لم يكن الناقد الأدبي الأميركيّ البارز، فريدريك جيمسون (1934 - 2024) الذي رحل في الثاني والعشرين من الشهر الماضي عن 90 عاماً، من طينة المثقفين العامين الذين يهوون إثارة الجدل والظهور، ولكن برحيله يسدل الستار عملياً على فكرة المثقف الكلاسيكي الملم بشكل شمولي بثقافة عصره، والقادر على تقديم تصور نظري عابر لصناديق التخصص الأكاديمي الدقيق، التي عرفناها بداية مع عصر النهضة بأوروبا من خلال شخصيات مثل ليوناردو دافنشي ونيقولا ميكافيللي وفيليبو برونليسكي، واستمرت إلى النصف الثاني من القرن العشرين عبر أسماء مثل جان بول سارتر، وميشيل فوكو، وجاك دريدا، وإمبرتو إيكو.

بدأ جيمسون الذي ولد في كليفيلاند بالولايات المتحدة مشواره الفكريّ بحصوله على الإجازة الجامعيّة الأولى في اللغة الفرنسيّة من كليّة هافرفورد قبل أن يسافر إلى أوروبا لفترة وجيزة، حيث وسع معرفته هناك بأعمال مفكري ما بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما البنيويين الفرنسيين ورواد الفلسفة القاريّة. وتركزت أبحاثه وقتها على النظريّة النقديّة التي أنتجتها مدرسة فرنكفورت ومن تأثروا بأعمالها، بمن في ذلك جان بول سارتر، وجورج لوكاتش، وثيودور أدورنو، ووالتر بنيامين، ولويس ألتوسير، وهيربرت ماركوز. وقد عاد بعدها إلى جامعة ييل بالولايات المتحدة حيث منح في 1959 درجة الدكتوراه على أطروحة حول أسلوب سارتر.

دراسته لسارتر قادته إلى تعميق معرفته بالماركسيّة - وبالتبعيّة النظريّة الأدبيّة الماركسيّة - لا سيّما أن الفيلسوف الفرنسيّ الشهير كان يعد النقد الثقافيّ فضاء أساسيّاً للفكر الماركسي. وما لبث جيمسون أن شرع يتموضع سياسياً في فضاء اليسار الغربيّ الجديد، وحركات النضال السلميّ، واحتفى بالثورة الكوبيّة التي عدّها علامة على أن «الماركسية ليست حيّة فحسب، وإنما هي كذلك قوّة ملهمة للحراك الاجتماعي ومنتجة ثقافياً». وبعد عودته إلى الولايات المتحدة شارك (في 1969) بتأسيس ما عرف بالمجموعة الأدبية الماركسية مع عدد من طلاب الدراسات العليا بجامعة كاليفورنيا، بسان دييغو، وتزامل لبعض الوقت مع هيربرت ماركوز في أثناء تدريسهما في جامعتي هارفارد وكاليفورنيا.

بعد رسالته للدكتوراه عن سارتر، واصل الكتابة عن مفكرين أوروبيين آخرين؛ أمثال أدورنو وألتوسير، ليس بالضرورة تبنياً لمقارباتهم بقدر سعيه إلى تحديد موقع تلك المقاربات في الجدل حول البنية الاجتماعية وعلاقتها بالمنتجات الثقافية، وفي ذلك نشر (الماركسيّة والشكل – 1971) و(سجن اللغة: قراءة نقديّة للبنيوية والشكليّة الروسيّة – 1972)، لينتقل بعدها للخوض في اللغة والسيميائيّة والمرحلة الثقافية التي سماها الرأسماليّة المتأخرة.

لقد نقل هذا الجيل من المفكرين الماركسيين الغربيين النقد الماركسيّ من المنظور التقليديّ الذي اعتمد على فكرة أن «البنية الفوقية الثقافية» للمجتمعات تحددها أساساً القاعدة الاقتصادية، إلى مرحلة تبني تحليل نقدي للثقافة بوصفها أيضاً ظاهرة تاريخية واجتماعية، إلى جانب «علاقات الإنتاج» و«توزيع الثروة» الاقتصاديَيْن، وما يرتبط بذلك من علاقات القوة السياسية. لكن إذا أصبح النقاد الماركسيون قادرين على تقديم تحليل معمق للسياق التاريخي والطبقي لأعمال أدبيّة؛ مثل روايات جين أوستن أو قصائد تي إس إليوت مثلاً، فإن ناقداً من طينة جيمسون فقط يمكنه أن يقدم نقداً أسلوبياً ماركسياً لمروحة واسعة من منتجات الثقافة المعاصرة من المدارس الفكريّة المعقدة، مثل البنيوية، وما بعد الحداثة في سياقاتها التاريخيّة، إلى تحليل الأفلام الشعبيّة كمجموعة أفلام (حرب النجوم)، وكل ما يمكن أن يكون بينهما في الفلسفة، وأنواع الفنون، والآداب، والعمارة.

تدريجياً أصبح التاريخ يلعب دوراً أكثر مركزيّة في نقد جيمسون للمنتجات الثقافية إنتاجاً واستهلاكاً، ونشر عبر سلسلة من الأعمال مفهوم اللاوعي السياسيّ وراء النص، بوصف ذلك طريقة بديلة لتفسير الأعمال الروائيّة، ما منحه مكانة بارزة في فضاء النقد الأدبي في الثقافة الأمريكيّة.

على أن كثيرين يعدّون مساهمة جيمسون الأهم ربما كانت تحليله لما أصبح يعرف في تاريخ الثقافة بمرحلة «ما بعد الحداثة»، وعُدّ ناقدها الأبرز، رغم أنّه أتى إليها عن طريق أعمال جان فرنسوا ليوتار.

عند جيمسون، «ما بعد الحداثة» تعبير بمنتجات الثقافة عن فترتنا الحاليّة من الرأسماليّة المتأخرة التي شهدت توسعاً هائلاً في أساليب الإنتاج الثقافي ربطاً بتنوع صيغ المشهديّة التي يقدّم بها هذا الإنتاج. وكان جيمسون قد انضم إلى هذا النقاش في عام 1984 بمقالته بعنوان «ما بعد الحداثة، أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة» التي نشرها بداية في مجلة «اليسار الجديد»، قبل أن يوسعها إلى كتاب نشره عام 1991، أصبح منذ حينها أكثر أعماله مبيعاً، وأكثرها شهرة، لا سيّما في الصين حيث تمتع جيمسون هناك بمكانة رفيعة بين المثقفين وطلاب الجامعات.

يذهب جيمسون إلى ضرورة التعامل مع «ما بعد الحداثة» على أنها نتاج تاريخي، ولذلك فهو يرفض أي معارضة أخلاقية لها بوصفها ظاهرة ثقافية، ويقترح بدلاً من ذلك مقاربتها بمنهج الديالكتيك الهيغلي الذي من شأنه أن يقرأ التّطور الثّقافي للرأسمالية المتأخرة جدلياً، أي بوصفه كارثة وتقدماً معاً.

أكاديمياً، بدأ جيمسون مهنته أستاذاً للأدب الفرنسي والمقارن بجامعة هارفارد عام 1959، وتنقل بعدها بين عدة جامعات مرموقة، قبل توليه في 1985 منصب أستاذ كنوت شميدت نيلسن للأدب المقارن، وأستاذ الدراسات الرومانسية (الفرنسية)، ومدير معهد النظرية النقدية في جامعة ديوك، التي تقاعد عن التدريس فيها، دون أن يتوقف عن الكتابة.

لم يسلم جيمسون من النقد، لكن أهم منتقديه كان رفيقه الماركسيّ تيري إيغلتون، الذي، وإن أعجب بمقارباته للعديد من المنتجات الثقافية، عدّ إسرافه في الحديث عن اليوتوبيا كان بلا رافعة سياسيّة، إذ أهمل في مجمل أعماله الجانب السياسي والمضمون الثوري للماركسيّة، ولم يشتبك على الإطلاق بأعمال المفكرين الماركسيين مثل فلاديمير لينين، أو روزا لوكسمبورغ، أو أنطونيو غرامشي، كما اتهمه بمزج تبنيه للأفكار المختلفة بنهج ليبرالي، يلفق بينها دون الأخذ بتناقضاتها. ومع ذلك، فإن ثمة توافقاً بين المثقفين من جميع المشارب على أنه ظلّ، ولأكثر من خمسة عقود، الناقد الأدبي والثقافي الماركسي الأهم في الولايات المتحدة، إن لم يكن في العالم أجمع.