غزة تقسّم المشهد الثقافي الفرنسي

موجة من الإلغاءات طالت التظاهرات الثقافية حول فلسطين

ميشيل ويلبيك
ميشيل ويلبيك
TT

غزة تقسّم المشهد الثقافي الفرنسي

ميشيل ويلبيك
ميشيل ويلبيك

- «كيف بتطلعي على واحد خسر كل شيء؟».

- «بشفق عليه».

- «إحنا ماكنش بدنا شفقة من حدا كان بدنا نرجع على بلادنا».

بوستر" وردي"

هذا الحوار من فيلم التحريك «البرج» أو («وردي» في النسخة الفرنسية)، وهو عمل من إنتاج نرويجي سويدي فرنسي، للمخرج النرويجي ماتس غرود. هذا العمل الفني يجسّد أحلام اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون على أمل العودة إلى وطنهم بعيون فتاة صغيرة تسمى «وردي»، وكان من المفروض أن يُعرض في عدد من المدارس الفرنسية على جمهور من الأساتذة والتلاميذ، في إطار ما يسمى «مهرجان السينما في التكميليات» إلى أن صدر قرار مفاجئ بإلغاء كل العروض المبرمجة عقب هجوم 7 أكتوبر (تشرين الثاني). عميد أكاديمية باريس المسؤول عن هذا الإلغاء برّر القرار «بالسياق الدولي الشّديد التوتر» وهو ما أثار موجة من الانتقادات، على رأسها موقف «المرصد الفرنسي للإبداع» الذي استنكر في بيان رسمي بعنوان «الأعمال الفنية ليست مُذنبة»، جاء فيه ما يلي: «المرصد يستنكر بشدة إلغاء العروض الثقافية، ويناشد المُبرمجين من مسؤولين على مستوى المؤسسات الثقافية والساسة احترام التزاماتهم بنشر الأعمال مهما كانت جنسية المبدعين أو موضوع الأعمال». صحيفة «ليبيراسيون» التي نقلت هذا الخبر أشارت إلى أن قرار الإلغاء سابقة خطيرة لم تشهدها فرنسا منذ 30 سنة من وجود هذه العروض التي يشاهدها سنوياً مليونا تلميذ. الصحيفة نقلت التعليق التالي: «دعونا نسمي الأشياء باسمها، إنها رقابة... وهو أمر مؤسف، خاصة أن (وردي) فيلم غني بالمعلومات والحقائق التاريخية التي يجهلها الجمهور غير العربي، والتي قد تفسر له حيثيات الوضع الحالي». وفي مقال آخر بعنوان «منع عرض فيلم تحريك عن فلسطين»، نقرأ على موقع «كونتر أتاك» أن مشكلة هذا الفيلم هي أنه يضفي على الفلسطينيين طابعاً إنسانياً، أي أنهم ليسوا إرهابيين مُتوحشين، ليس لهم هدف آخر في الحياة سوى قتل الإسرائيليين، وهذه حقيقة قد تزعج البعض. في حوار مع موقع «أنفيستيغ إكسيون» صرحّت الفلسطينية روان عودة، إحدى منظمات «مهرجان سينما فلسطين»، في مقال بعنوان «كل مبادرة ثقافية على صلة بفلسطين أصبحت مهددة»، أن «قرارات رسمية صدرت بقطع المساعدات المادية عن المخرجين الفلسطينيين، وكل التظاهرات الثقافية والسينمائية والموسيقية التي نوّد تنظيمها لشرح الأوضاع في فرنسا تمنع، بل تُلغى تماماً، ليست لدينا أي أخبار عن المشاركين في الطبعة العاشرة من (مهرجان سينما فلسطين) بسبب الأوضاع، كما أن رفض منح تأشيرات السفر عقّد الأمور أكثر، وبالرغم من ذلك نحن نكتب لهم باستمرار، على أمل أن يروا رسائلنا ولا يفقدوا الأمل».

كارولين فورسيت

كما نقلت أسبوعية «تيلي راما»، في موضوع بعنوان «في مرسيليا، وباريس، وتولوز، إلغاء النشاطات الثقافية المرتبطة بفلسطين يثير القلق»، شهادة كثير من مسؤولي المؤسسات الثقافية الذين عبّروا عن استيائهم من موجة الإلغاءات التي أعقبت هجوم 7 أكتوبر. فلورانس مارفين، رئيسة لجنة التوأمة بين مدينة حلحول الفلسطينية (الضفة الغربية) وأنوبون (شمال فرنسا)، عبّرت عن غضبها بعد قرار البلدية إلغاء تظاهرة فنية حول السينما الفلسطينية، مصّرحة للمجلة الفرنسية: «التوأمة تعزز العلاقات بين المدن مع مراعاة جميع الحساسيات، وهي جمعية غير سياسية، ولذا فلا يوجد سبب لإلغاء هذه التظاهرة، هناك من يمنعنا من الحديث عن فلسطين... إنه أمر مُنافٍ للديمقراطية». معهد العالم العربي، على غرار المؤسسات الأوروبية الأخرى، قرر أيضاً إلغاء التظاهرات المبرمجة على هامش فعاليات معرض «ما تقدمه فلسطين للعالم». مارتان غارايان، مساعد رئيس المعهد شرح سبب هذا الإلغاء في بيان صحافي: «نظراً لعدد الضحايا من المدنيين من غير اللائق الاستمرار في الفعاليات، وخاصة الموسيقية»، مذكراً بأن التحاق المشاركين بالمعرض في باريس أصبح مستحيلاً حالياً بسبب الحصار. وسائل الإعلام الفرنسية نقلت أيضاً قرار عمدة شوازي لو روا (ضاحية باريس) بإلغاء عرض مسرحية البريطاني العراقي حسن عبد الرزاق «ها أنا ذا»، المستوحاة من القصّة الحقيقية لأحمد الطوباسي، وهو شاب فلسطيني ولد في مخيم جنين، وتتّبع رحلته من الكفاح المسلح إلى المسرح كأداة للمقاومة.

روفائيل أنتوفين

وإضافة إلى موجة الإلغاءات، فإن تفاعل المثقفين الفرنسيين مع الأوضاع المأساوية في غزة تباين بين تأييد مُطلق لإسرائيل، واستنكار لما يتعرض له المدنيون في غزة. ففي صحيفة «لوموند»، في موضوع بعنوان «الحرب بين إسرائيل و(حماس) تقسم النخبة الفكرية» يشرح الفيلسوف بيار شاربونيي أنه بعد هجوم 7 أكتوبر تكوّن لدينا معسكران، من جهة من يُتهمون بمعاداة السامية ممن يؤيد القضية الفلسطينية، ومن جهة أخرى من يُتهمون «بالفاشية»، وهم الفريق الذي يؤيد الحرب التي تشنّها إسرائيل.

صحيفة «لومانيتيه» مثلاً نشرت لائحة من إمضاء مثقفين وفنانين، من بينهم الكاتبة الحاصلة على جائزة نوبل للأدب، آني إرنو، جاء فيها أن «هذه الهجمات تشكل عقاباً جماعياً بغيضاً للشعب الفلسطيني وانتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، ولا تشكل بأي حال من الأحوال ممارسة لحقّ الدفاع عن النفس». في عمود آخر بصحيفة «لوموند»، بعنوان «للدفاع عن السلام يجب الاعتراف بأن حياة البعض تساوي حياة البعض الآخر...» يحذر مجموعة من المفكرين، منهم الباحث في العلوم السياسية برتران بادي ورجان سيناك والفيلسوف إيتيان باليربار والمؤرخ جيروم سيغل من غياب التوازن في التعامل مع أطراف النزاع الفلسطيني والإسرائيلي، فبينما تتعاطف وسائل الإعلام والجهات السياسية مع ما حدث للإسرائيليين، تتجاهل تماماً آلام ومعاناة الفلسطينيين، وكأنهم مجرد أرقام. المجلة الثقافية «لي زاروكوبتيبل» سألت في عددها الـ26 المفكر المخضرم إدغار موران (102 سنة) عن أكثر حدث استاء منه هذه السنة فقال: «لا أشعر بالاشمئزاز فقط، بل بالرعب، بؤرة حرب جديدة ظهرت بعد هجوم (حماس)، والردّ القاسي والمتوحش لإسرائيل على غزة، القضية النائمة لآخر احتلال في الكون، الذي يستهدف الشعب الفلسطيني، استيقظت، نحن أمام خطر اشتعال الوضع في الشرق الأوسط وحرب عالمية جديدة».

في المقابل، عبّرت شخصيات أخرى عن تعاطفها مع إسرائيل، أحياناً بطريقة صادمة كالكاتبة كارولين فوريست، التي أعلنت في لقاء بقناة «بي إف إم تي في» أن «هناك فرقاً بين الضحايا الإسرائيليين والضحايا الفلسطينيين، لأن إسرائيل لم تقصد قتل الأطفال، لأنها كانت تدافع عن نفسها، عكس (حماس)». تصريحات كارولين فوريست انتقدت بشدة، لأنها توحي بأن أرواح الإسرائيليين أكثر قيمة من أرواح الفلسطينيين. النائبة ماتيلد بانو من حركة «فرنسا الأبية» اليسارية تقدمت بشكوى لهيئة «أركوم»، التي تراقب محتوى وسائل الإعلام للاحتجاج على تصريحات الكاتبة الصادمة.

صحيفة «ليبيراسيون»: قرار إلغاء عرض فيلم «وردي» سابقة خطيرة لم تشهدها فرنسا منذ 30 سنة من وجود هذه العروض التي يشاهدها سنوياً مليونا تلميذ

الفيلسوف رافائيل أنتوفن هو الآخر حاول تبرير جرائم إسرائيل بقوله: «هناك فرق بين المدنيين الذين يُقتلون في الشوارع على يد قوات كوماندوز إسلامية، وبين الضحايا العرضيين للتفجيرات التي أعقبت هذا الهجوم، يجب أن ننوه بهذا الفرق، بل من المهم القيام بذلك». الفيلسوف برنار هنري ليفي ذهب أبعد من ذلك، حين شرح في لقاء صحافي ما مفاده أن «المسؤول عن موت الأطفال الفلسطينيين هم آباؤهم، لأن الجنود الإسرائيليين يحذرون سكان غزة قبل إطلاق القنابل». الكاتب المثير للجدل ميشيل ويلبك أكد مرة أخرى مساندته لإسرائيل، حين صرّح في حوار مع التلفزيون الإسرائيلي بأن الجيش الإسرائيلي يفوز دائماً، وسيفوز هذه المرة أيضاً، منتقداً ردود الأفعال المُعادية لإسرائيل في فرنسا، التي أرجعها لنفوذ اليسار، الذي يحاول كسب أصوات المسلمين من سكان الضواحي.


مقالات ذات صلة

من يكشف عن الغامض وراء قصة الستينيات الأدبية؟

ثقافة وفنون جمعة اللامي

من يكشف عن الغامض وراء قصة الستينيات الأدبية؟

كان هناك جيلان متزامنان في العراق الحديث، تشكلا بعد عام 1958، الأول سياسي، جاء في سياق بواكير تشكيل الدولة الهجين، أحزاباً وزمراً عسكريةً، وتوّج أخيراً بأعتى دي

محمد خضير سلطان
ثقافة وفنون هيغل

هيغل... ليس فيلسوفاً؟

لم يحيّر عالمَ الفكر أحدٌ مثلما فعل هيغل. ما زلت ترى في أي معرض كتاب في العالم وبكل لغات الدنيا كتباً جديدةً عن هيغل بعد مائتي سنة من موته.

خالد الغنامي
ثقافة وفنون «وداعاً للسلاح»... طبعة جديدة من رائعة إرنست همنغواي

«وداعاً للسلاح»... طبعة جديدة من رائعة إرنست همنغواي

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من رواية «وداعاً للسلاح»، ترجمة مراد الزمر، التي تعدّ من أشهر ما كتبه الأديب الأميركي الشهير إرنست همنغواي «1899-

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

حين يقرر أحد رجال المال والأعمال العرب أن يكتب مذكراته، عادةً ينطلق من هدف مُعلن مفاده نقل خبراته وتجاربه للأجيال الأحدث، ما يظهر جلياً في مذكرات شخصيات مصرية

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب تجليات حضور الورود... فنياً وأدبياً

تجليات حضور الورود... فنياً وأدبياً

تطوف الكاتبة الصحافية الزميلة منى أبو النصر في كتابها «الحالة السردية للوردة المسحورة» بين فنون شتى، فهي لا تتوقف عند حدود الأنواع الأدبية المعروفة من شعر

عمر شهريار (القاهرة)

من يكشف عن الغامض وراء قصة الستينيات الأدبية؟

جمعة اللامي
جمعة اللامي
TT

من يكشف عن الغامض وراء قصة الستينيات الأدبية؟

جمعة اللامي
جمعة اللامي

كان هناك جيلان متزامنان في العراق الحديث، تشكلا بعد عام 1958، الأول سياسي، جاء في سياق بواكير تشكيل الدولة الهجين، أحزاباً وزمراً عسكريةً، وتوّج أخيراً بأعتى ديكتاتورية في المنطقة، والثاني ثقافي وأدبي قصصي، خاض صراعاً تقنياً وفنياً في النفق الديكتاتوري نفسه، وجاء ضمن تدرّج وتطور الريادة القصصية في سبيل ترسيخ النوع الأدبي، وكلاهما في الغالب يشتركان معاً في قاعدة الحلم الثوري، وينطلقان منها في التعبير عن سلوكهما السياسي والأدبي.

من المفارقات شديدة اللبس والتعقيد أن النزاعات الشرسة للأحزاب والتنظيمات السياسية وألويتها الأدبية في ما بينها التي أعقبت العهد الجمهوري من 1958 وحتى عام 2003، ارتبطت عضوياً بصيغة الحلم الثوري الزائف بوصفه منهجاً آيديولوجياً صارماً، يمزج بين السعي إلى تسلم إدارة الحكم وتطبيق التصورات القومية والوطنية وإغواء حركة التحرر الدولية والأممية وما سمّي بالمعسكر الاشتراكي آنذاك، الحلم الذي يفرض على الأدباء أو نصوصهم، ولا يأبه من الجانب السياسي بالعنف أبداً مهما بلغ من تنكيل وقتل وإبادات ما دام الوصول للهدف وسدة الحكم هو الأول.

محمد خضير

بعد عقود من خوض التجربة المرّة، وصل العنف إلى ذراه في الصراع داخل الحلم الثوري نفسه في الغالب بين الأحزاب الثورية على وجه التحديد، سواء كانت في السلطة والمعارضة، أو قريبة منهما إلى الحد الذي شطر الأحلام الثورية في معادلة متوازنة ومتضادة ومنعكسة من العنف بينهما، بين سدة الحكم وأبواب السجون، فالاثنان الجلاد والضحية، ثوريان، يشتركان في تقمص الحلم نفسه وتبني فراديسه المنشودة وتبادل الأدوار بين السلطة والسجن، وكلاهما صادق في التعبير والسلوك، وربما كلاهما متواطئ مع الآخر في لعب الأدوار حتى أن السلوك العنفي والميليشياوي الذي تمارسه السلطة من وقت لآخر في تصفية خصومها الثوريين المعارضين على شاكلتها هو نفسه ما تمارسه الفئات المهيمنة للسجناء أنفسهم ضد بعضهم داخل أسوار السجن.

والواقع كان للجلاد أسماؤه الأدبية والثقافية المنظمّة معه مثلما كان للضحية أسماؤها التي لا تخفى، ومنهم من غادر دور الضحية وأصبح جلاداً، والعكس صحيح، وتظل قاعدة الحلم الثوري مشتركة بينهما.

في ظل هذه المفارقة الشرسة، ولد هذان الجيلان المتزامنان في الستينيات من القرن الماضي، أحدهما تمثل في ارتقاء الديكتاتورية، وثانيهما أدبي وثقافي لم يخرج عن الإجهاز الكلي على الأدب والثقافة من قبل السلطة قبل وأثناء ارتقاء الديكتاتورية، الأول، لم يتخط مخاضات القتل والتنكيل فقط إنما أوصلها إلى ذراها في الحروب والهجرة والحصارات الاقتصادية، والثاني، الجيل الأدبي الذي نشأ بين السلطة والمعارضة والسجن والمهجر وما بينهم، وشهد اصطفافاً واستقطاباً ضمنياً هنا وهناك.

في غضون ذلك، استطاع الجيل الستيني الأدبي أن يحيا ربيع النشر والانتشار في بداية السبعينات إذ كان عدد يسير من الأحزاب الثورية متحالفة بهشاشة مع السلطة، وتيسر لها عن طريق دور النشر الخاصة بها أن تصدر عدداً من المجاميع القصصية لأدباء يحسبون منها وسط احتراز ومراقبة السلطة.

وفي ظل هذه المعادلة السياسية للأدب، استفحلت أزمة هذا الجيل الأدبي والقصصي بالتعبير عن نفسه داخل المنظومة الحزبية، سواء في السلطة أو المعارضة، وشعر البعض من القاصين بأنهم سوف يفقدون النسق الإنساني كلياً في قصصهم طالما كان التعبير جارياً ومتعسفاً على وفق الحلم الثوري المنشود الذي هو مجرد تلقين لفكرة استشراف مستقبلي للناس والمجتمع، وشرعة أمل زائفة، وكان العمال والكادحون والفقراء هم إشارات سياسية ملقّنة أكثر منها مصائر واقعية في ظل مجتمع شبه تحولي بين الريف والمدينة.

جهاد مجيد

وللخروج من هذا المأزق، طفق القاصون والروائيون محمود جنداري وجمعة اللامي ومحمد خضير وجهاد مجيد وعبد الإله عبد الرزاق وآخرون، يستخدمون التشفير والتجريد والترميز والأسطرة والمكابدة الصوفية ومحاولة استيقاف الحاضر والمستقبل الزائفين والعودة إلى الماضي بوصفه منطقة تقنية آمنة لبناء قصصهم ورواياتهم.

وعبر تلك المناورة الأسلوبية البارعة، تمكن القاصون والروائيون من التسامي والتعالي على أزمتهم السياسية والفنية، واستطاعوا على نحو معين من تضليل الرقيب المؤسساتي ونشر نتاجهم وتلقيه على مستوى عام ومقبول داخل النفق الديكتاتوري نفسه.

ولعل هذه المناورة الأسلوبية، لم تكن نابعة عبر شكلها الطبيعي ضمن سياقات نشأة ونمو القص والروي في البلاد، وحسب قدر ما كانت تخفي خلفها كواليس وندوب تعرض هؤلاء الأدباء للتنكيل والاحتواء السياسي التي كانت تمارسه المؤسسات المتسلطة بمعنى أن التقنية التي نشرت فيها مجاميع مثل «المملكة السوداء» و«لأوفيليا جسد الأرض» و«الثلاثيات» و«حكايات دومة الجندل» وغيرها كثير، تتضمن مضمراً مستتراً من حجم صراعها الفني مع الرقيب السلطوي، وبحاجة إلى الكشف والتحليل بعد سقوط الرقيب، ولا يعني ذلك الاعتراف بل وضع المعادلة الأدبية في مواقعها الصحيحة بين المجتمع والثقافة وليس قاعدة الحلم الثوري واحتكار السلطة للأدب.

بعد عام 2003 الذي يمثل نهاية الجيل الستيني السياسي، وخروج الجيل الستيني الأدبي من نفقه المعتم، لم يستعد أحد من الأدباء الستينيين إلا في حدود ضئيلة المعادلة الواقعية للأدب الحقيقي بين المجتمع والسلطة، لم يلق أحد منهم أردية النفق الآيديولوجي الخانق ويعيد وصفها على نحو جديد، يتصل بالمرجع والمحيط الأدبي الاجتماعي والإنساني حين كانت السلطات تصادره باسم الحلم الثوري السائر في رسم هزيل للانعطافات المجتمعية الموهومة المقبلة، وما كانت المرحلة التي أسدلت الستار على هذا الجيل مجرد طور زمني عابر، يمكّن الأدباء الستينيين من التواصل والإنتاج بنفس القدرة السابقة.

وإذا كان الجيل السياسي على نحو عام قد تمخض عن دنس التجربة، فإن مخاض الطهر الأدبي لدى الأدباء على نحو عام أيضاً، يساويه في نتائج الخيبة والفشل العميقين لكل التجربة اليسارية عربياً ومحلياً طالما أصيب الحلم الثوري بالإخفاق المريع، وهذا ما جعل القاص والروائي إبراهيم أحمد «وبالرغم من أنه يحسب على جيل ما بعد الستينيين»، ينظر بنفور إلى سنين الدنس، ويصب جام غضبه على الفاعلين السياسيين، فيما كشف جمعة اللامي الكبير في كتابه «مذكرات السومري» التمزقات السياسية وممارسة العنف والتنكيل داخل السجون من قبل السجناء أنفسهم.

إنها دعوة إذن لكتابة المذكرات على نحو يزيح العتمات عن الغامض وراء قصة الستينيات العراقية. بعد 2003 لم يستعد أحد من الأدباء الستينيين إلا في حدود ضئيلة المعادلة الواقعية للأدب الحقيقي بين المجتمع والسلطة