الشعر العربي يودّع راعيه وحاضن مبدعيه... عبد العزيز البابطين

رجل الأعمال الذي سخّر ثروته لرعاية الأدب من أجل التعايش والسلام

عبد العزيز سعود البابطين في ذمة الله
عبد العزيز سعود البابطين في ذمة الله
TT

الشعر العربي يودّع راعيه وحاضن مبدعيه... عبد العزيز البابطين

عبد العزيز سعود البابطين في ذمة الله
عبد العزيز سعود البابطين في ذمة الله

فقدت الكويت، والخليج، والعالم العربي، رجل الأعمال والشاعر عبد العزيز سعود البابطين، الذي يُعدُّ صرحاً للأدب والشعر، وحاضناً للإبداع الشعري العربي، ورائداً في مسيرة الحوار بين الثقافات والحضارات، وفاعلاً مهماً لترسيخ ثقافة السلام في جميع أنحاء العالم، ورجل الأعمال الذي سخرّ جزءاً كبيراً من ثروته لرعاية الأدباء وإقامة الأنشطة الثقافة والمواسم الثقافية في العالم العربي ودول أوروبا والعالم.

وكان آخر مشاريعه الإعلان عن مسابقة تقدمها جائزة البابطين للكتابة الشعرية عن مأساة غزة، التي استجاب لها عشرات الشعراء العرب، ولم تعلن نتائجها بعد.

يُعد الشاعر عبد العزيز سعود البابطين صرحاً للأدب والشعر وحاضناً للإبداع الشعري العربي

وقد توفي البابطين في مزرعته بالشيط، في السعودية، عن 87 عاماً، قضاها في خدمة الثقافة والأدب ورعاية الإبداع الشعري في العالم العربي، وهو رئيس مجلس أمناء مؤسّسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافيّة، ورئيس مجلس أعضاء مؤسّسة البابطين الثقافيّة بالاتّحاد الأوروبي. كما أنّه عضو في العديد من المجالس والجمعيّات والرابطات الناشطة في مجالات مختلفة.كما يُعدّ الراحل من أبرز رجال الثقافة والشعر في المشهد الثقافي الكويتي والعربي وأصدر ثلاثة دواوين شعرية: «بوح البوادي» 1995، و«مسافر في القفار» 2004، و«أغنيات الفيافي» 2017.

والبابطين حائز على أكثر من 14 شهادة دكتوراه فخرية عربية وأجنبية، من قبل عدد من الجامعات المرموقة تقديراً من دوائرها لجهوده في المجال الثقافي والعمل الخيري الإنساني ونشاطه الداعم للسلام وحوار الثقافيات، كما نال العديد من الأوسمة الرفيعة والدروع والجوائز تقديراً لما قام به من جهد في ميدان الثقافة في المحافل العربيّة والدوليّة.

ونعت الأمانة العامة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت رجل الأعمال الأديب والشاعر عبد العزيز سعود البابطين، حيث نقلت الأمانة العامة في بيان لها تعازي وزير الإعلام ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عبد الرحمن المطيري لذوي الفقيد ومحبيه على هذا المصاب.

كانت مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، والجائزة التي تحمل الاسم ذاته، عنوانين لحشد جمهور الشعراء العرب وتشجيع إبداعهم وإقامة الفعاليات الدورية والمسابقات الشعرية التي تكرم مسيرتهم، وكان أحد أهم إنجازاته إصدار معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، وإصدار كتب محققة عن الشعر العربي قديماً وحديثاً، فضلاً عن طباعة العديد من الكتب والبحوث في كل فنون الأدب واللغة.

كان البابطين رائداً في مسيرة الحوار بين الثقافات والحضارات وفاعلاً مهماً لترسيخ ثقافة السلام في جميع أنحاء العالم

حديث لـ«الشرق الأوسط»

في حوار أجرته معه «الشرق الأوسط» في أكتوبر (تشرين الأول) 2014، قال عبد العزيز البابطين متحدثاً عن انطلاق مؤسسة البابطين للإبداع الشعري: «كانت انطلاقة المؤسسة عام 1989 البذرة التي أنبتت الجذع فالأغصان. كانت البذرة عبارة عن تأسيس لمشروع أدبي شعري تحديداً. ثم وجدنا أن الأغصان تتفرع في اتجاهات مختلفة يصب جميعها في خانة الأدب والفكر الإنساني وتلاقي الحضارات. وألفينا أنفسنا ننشئ مراكز متعددة، مثل (مركز البابطين لحوار الحضارات) في جامعة قرطبة، و(مركز البابطين للترجمة) في بيروت، و(مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية) في جامعة الإسكندرية، و(مركز الكويت للدراسات العربية والإسلامية) في جامعة الإمام الشافعي بجزر القمر. وأقمنا دورات في اللغة العربية وعلم العروض، فيما يزيد على 40 جامعة في مختلف الدول العربية والإسلامية. ونؤسس اليوم لكراسٍ للدراسات العربية في الجامعات الأوروبية. وهذا يعني أن الطموح يتجدد كل مرة مع تجدد الحياة، ووجود معطيات جديدة تستوجب منا النهوض بمسؤولياتنا الثقافية تجاهها».

وفي سؤال عن نجاح المؤسسة فيما فشلت فيه وزارات الثقافة في العالم العربي، لجهة جمع شمل الأدباء والشعراء والمثقفين، قال: «النجاح كان لافتاً ومتميزاً، بدليل الاستمرارية التصاعدية وليس العكس. ولا أدري ما هو الوضع بالنسبة لوزارات الثقافة، لكي أعتقد أن العمل الثقافي للهواة أنجح من العمل الثقافي للموظفين الرسميين في الوزارات، لأن هاوي الثقافة يعطيها بشغف ومحبة، ويكرس لها وقتاً وجهداً كبيرين، ليس فقط في أوقات العمل الرسمي الذي يخصصه الموظف عادة، فالهواة يعملون طيلة النهار، وأثناء الليل أحياناً. أما الموظفون في الوزارات، فيلتزمون ساعات العمل المحددة، لذلك تتحول العلاقات الثقافية في حالة الهاوي إلى ما يمكن اعتباره علاقة عائلية منسجمة، فالضيوف الذين يحضرون أنشطتنا يشعرون معنا بجو أسري، وكأن كل واحد فيهم أسهم في تكبير عمل المؤسسة بجهوده الأدبية والفكرية. الأمر الآخر هو أن الوزارات مضطرة للعمل الثقافي بحكم وظيفتها، بينما في الثقافة الخاصة التي يؤسسها أفراد، لا أحد يجبرهم على ذلك، بل يقومون به بحب ورغبة حقيقية في العمل الثقافي».

كما تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن مسيرة التطور لمؤسسة البابطين من مجرد مانحة لجوائز للشعراء لتصل إلى حوار الحضارات، قائلاً: «في بداية إنشاء المؤسسة، اقتصر الأمر على حفل تكريم للفائزين بجوائزها المتمثلة في أفضل قصيدة، وأفضل ديوان، وأفضل كتاب في نقد الشعر، إلى جانب جائزة تكريمية لشاعر من الرواد. ثم أصبح الأمر مصحوباً بندوة أدبية عن شاعر له تاريخ عريق. بعد ذلك، في عام 2004، أدخلنا ندوة عن حوار الحضارات بدأناها في الأندلس مهد تعايش الحضارات والديانات السماوية إبان الحكم العربي الإسلامي. ومن ثم بدأت التوسعات الكثيرة التي ذكرتها في إجابة سابقة، وإنشاء المعهد العربي الأوروبي لحوار الحضارات في إيطاليا».

الشعر من أجل السلام

وبعد أن نظّم ملتقى «الشعر من أجل التعايش السلمي»، سألته «الشرق الأوسط» هل يمكن للشعر أن يوفّر للناس وللمبدعين خاصة سفينة تعبر بهم عواصف الصراعات المحتدمة في العالم العربي اليوم؟ فأجاب: «نعم، وجوابي هنا عملي وليس نظرياً، من خلال الملتقى الذي أقمناه في دبي عن الشعر والتعايش السلمي بين الشعوب (2011). فقد قدم الباحثون ندوات تؤكد حقيقة أن الشعر عنصر مهم وحيوي في التعايش بين الأمم، كونه نتاج فكرٍ إنساني متشابه ومتماثل في أذهان كل الشعوب من دون استثناء. والشعر هو المتوغل في وجدان القارئ في أي مكان. وبالتالي يمكن اعتماد الشعر أداة إنسانية للتواصل الحضاري. كما وقف شعراء عرب وأجانب جنباً إلى جنب في الأمسيات الشعرية، وتبين عمق الرغبة المشتركة في العيش بسلام على هذه الأرض».

كما سألته «الشرق الأوسط» قلتم إن «الشعر والحوار هما من نبع واحد»، يمكنهما إخراج الناس «من الخنادق التي حفرت لهم، والكهوف التي حشروا فيها إلى الفضاء الإنساني العام». أليست التصورات هذه رومانسية في عصر الانفجار الدموي للكراهيات؟ فأجاب: «كلما انخرط العالم في صراعات أكثر، كلما ازدادت الحاجة للقريحة الإنسانية المتمثلة بالشعر والأدب الداعي للسلام. أصلاً، ما حاجتك إلى أدب يدعو إلى السلم في أوقات السلم؟ أنت في زمن الحروب تحتاج إلى الشعر الداعي إلى إطفاء لظى الكراهية بين الشعوب، حين تتأجج الصراعات الدامية. والأدب بشكل عام، هو الوحيد الذي لا يتأثر بالخلافات بين الشعوب. فلا أحد يمتنع عن قراءة أشعار شاعر ينتمي إلى بلد يعاديه، لأنه وليد فكر بشري خلاق نحو الإبداع وليس نتاج فكرٍ عسكري أو حربي. وإذا استطعت نشر الأدب الداعي إلى السلم بين الناس، فسوف تتشكل شرائح مناهضة للحروب وداعية للسلام».

لكن الشاعر الذي سخّر الأدب من أجل الحوار والتعايش السلمي قال لـ«الشرق الأوسط» رداً على سؤال عن دور الانقسام السياسي بين المثقفين العرب: «الانقسام السياسي بين المثقفين العرب لا يعيقنا، بل يؤرقنا ويشكل بالنسبة إلينا هاجساً لتلافيه وردم الفجوات بين هؤلاء المثقفين، لعلهم يؤثرون في شعوبهم وفي سياسات بلدانهم لدفعها نحو التقارب لا التناحر. وكل ما نقوم به، يقع ضمن مشروعنا الداعي إلى هذا التقارب، لذلك تجد في دوراتنا وملتقياتنا وأنشطتنا بشكل عام، ضيوفاً من بلدان هي فعلاً في حالة خلاف ونزاع سياسيين، وقد تكون هذه البلدان ذات تاريخ مشترك وثقافة مشتركة، لكن الخلافات السياسية باعدت بين شعوبها. فهم يلتقون في ندواتنا ويتحاورون ويتصافحون دلالةً على أن الثقافة تسمو على الخلافات التي يتسبب بها السياسيون».

أدباء ينعون

نعاه الشاعر الكويتي دخيل خليفة، عبر منصة «إكس» قائلاً: «فقدت الكويت والعالم العربي اليوم رجل الأعمال الشاعر عبد العزيز سعود البابطين، الذي خدم الشعر العربي من خلال مؤسسة البابطين الثقافية التي قدمت مواسم ودورات كثيرة في عواصم عربية وغربية».

كما نعاه الشاعر السعودي جاسم الصحيح قائلاً: «أحرّ التعازي أرفعها إلى الأسرة الثقافية في مؤسسة البابطين والكويت وكل الأقطار العربية والإسلامية في رحيل رائد الثقافة الكبير الشاعر عبد العزيز البابطين».

وأضاف الصحيح عبر منصة «إكس»: «لقد نذر (أبو سعود) نفسه وكلَّ ما يملك لخدمة اللغة العربية في أجمل تجليَّاتها (وهو الشعر) منذُ أنْ فتح عينيه على بحرين: بحر الخليج وبحر القصيدة، فاتَّحَدَتْ في يديه الأشرعةُ والقوافي، المجاديف


مقالات ذات صلة

مصر تحتفي بـ«اليوم العالمي للغة العربية» بندوات وأمسيات شعرية

يوميات الشرق جانب من احتفال المجلس الأعلى للثقافة باليوم العالمي للغة العربية (وزارة الثقافة المصرية)

مصر تحتفي بـ«اليوم العالمي للغة العربية» بندوات وأمسيات شعرية

احتفت مصر باليوم العالمي للغة العربية الذي يحل في 18 ديسمبر (كانون الأول) بتنظيم ندوات وأمسيات شعرية.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون الشاعرة روضة الحاج (الشرق الأوسط)

قافلة من الشعراء تشعل ليالي الكويت الباردة في «دورة البابطين» الثقافية

أشعلت كتيبة من الشعراء، تقاطروا من كل أرجاء العالم العربي، لياليّ الكويت الباردة بالدفء والمشاعر الصاخبة، في توليفة من العشق والغزل والحنين والافتجاع.

ميرزا الخويلدي (الكويت)
يوميات الشرق حمل سعيد عقل في قلبه وعقله روح لبنان الخالدة (فيلوكاليا)

لبنان سعيد عقل... أملٌ بين الركام

في كل مرة تنظّم «فيلوكاليا» أمسية، تنهمك رئيستها الأخت مارانا سعد بتتبُّع التفاصيل والحرص على الأناقة. تقول لـ«الشرق الأوسط» إنّ حجم الحضور بدا مفاجئاً...

فاطمة عبد الله (بيروت)
تكنولوجيا غالبية القُرَّاء يرون أن الذكاء الاصطناعي يكتب قصائد شعر أفضل من البشر (رويترز)

دراسة: الذكاء الاصطناعي يكتب قصائد أفضل من البشر

أكدت دراسة جديدة أن قصائد الشعر التي تكتب بواسطة أنظمة الذكاء الاصطناعي أفضل من تلك التي يكتبها البشر.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

القصيدة التي تكتبُها الحرب

القصيدة التي تكتبُها الحرب
TT

القصيدة التي تكتبُها الحرب

القصيدة التي تكتبُها الحرب

مثّلت شِعرية الحرب مدخلاً رئيسياً للكتابة المتزامنة مع تراجيديا الحدث الواقعي عند عدد مهم من الشعراء العرب المعاصرين. فقد شكَّل هذا الاتجاه الفني في الشعر حالة كتابية مميزة تراوح بين الوصف والامتداد الفلسفي والسيكولوجي للغة الشعرية وطاقتها الحية مجازاً ودلالة. إنها كتابة شعرية بقصائد وأشكال مختلفة، وحساسيات متقابلة، لكنها جميعها تقرأ سيرة الحرب بنفَسٍ متجاوِزٍ يبتعد عن إسهاب السرد لمصلحة الحالة القلقة في الكتابة. وبالوقوف عند نخبة منتقاة من هذه القصائد، نجد أنها انحازت في مجملها للرؤية الإنسانية التي ترى في الحرب جزءاً يسيراً من درامية هذا العالم الملتبس. كما أنها حاولت النظر إلى تفاصيل الحياة في لحظة الحرب بوصفها هوامش صغيرة ودالّة، بحيث تتكثف عناصرها الإيحائية وتتكتل على نحو درامي يختزل المشهد العام من خلال ثنائية الصراع والوجود.

وخلافاً لما كان عليه الحال في العصور المبكرة للشعر العربي، حين كانت معظم قصائد «الوغى» محمّلة بنفس الغنائية التي ترى في الحرب مفتتحاً نصيّاً لحالات الزهو والحماس والفخر، فإن الحرب لدى الشعراء المعاصرين شكلت نقطة تحول حاسمة على مستوى الموقف. ابتعد الكلام الشعري عن الأسلوب الممجد للقتال، مما جعل القصيدة العربية الحديثة تعيد النظر في مفاهيم المواجهة والشجاعة والفروسية والبأس، منفتحة بالأحرى على قراءات تأويلية أكثر هشاشة وأكثر واقعية أيضاً.

لقد أخذ الشعر العربي منذ أواسط القرن العشرين وصولاً إلى اللحظة الراهنة من الكتابة موقفاً آخر يناوئ فيه كل مرادفات الخراب بشتى أشكاله ومسبباته ودوافعه آيديولوجية كانت أو عقائدية. لذا تبدو النصوص الشعرية الحديثة في خضم وصفها للاحتراب أقرب إلى المرثيات منها إلى قصائد الموقف، رغم الاختلاف التعبيري الذي يفرضه موقع الإنسان العربي داخل مشهد المأساة. مشهدٌ غالباً ما كانت الأرض العربية ساحته الأولى. هكذا وجد الشعر العربي نفسه يبتعد شيئاً فشيئاً عن الغنائية الحماسية والبكائيات الطويلة، وعن المنبرية التي تقتل صفاءَ الهمس في الشعر والفن عموماً. لقد أصبحت القصيدة تستحضر رمزية الحرب في الوجود بوصفها تعبيراً فنياً عن حالات محددة من الصراع الإنساني الذي يلبس ثوب العنف مخلفاً وراءه ندوباً قاسية ومضاعفات حضارية أكثر خطورة.

«أبصرُ شمساً محطّمة وقُرى تمّحي

وقلباً يُرفرفُ كالرّاية المظلمة

وأرى الشيءَ يمشي إلى عكْسهِ، الضدَّ يمشي إلى ضدّهِ

وأرى كيف تكون الأكُفُّ محاربة والأصابِعُ مُستسلمة»

بهذه الصور الوصفية يرسم الشاعر اللبناني شوقي بزيع لوحة الحرب التي قد تكون ألوانها الشاحبة بقية من كلامٍ كثير قاله «الرجل الذي لم يمت في الحرب الأخيرة». إن أبرز ما تشير إليه الجمل الشعرية في هذا المقطع هو التناقض في حركة الواقع الدموي للحرب، واللامنطقية الحادّة التي تحيط بتفاصيل الحدث بين الفعل وضده. يحدث هذا الأمر كثيراً في عالمنا اليوم، فاليد القابضة على الزناد تواجه أصابعها المستسلمة أو أصابع الآخر الخصم المستسلمة. هذا الملمح الشعري في قصيدة بزيع يمكن أن يكون تعبيراً مناسباً في جزء من معناه الدلالي عن بدايات الحرب الأهلية في لبنان، والتي جعلت اليد الوطنية الواحدة منقسمة على نفسها ودفعت بالشيء إلى أن يصبح ضده في كثير من الأحيان. ولعل هذه الأسطر الشعرية تصبح ذات دلالة ممتدة في الزمن حين نستحضر واقع لبنان الآن.

إن الشعرية العربية ما زالت تقرأ سيرة الواقع الدموي لدوائر الحرب الكثيرة، لكن بصيغ جديدة لا ترى في لحظة الاحتراب مجرد ظرف زمني تتراكم فيه المأساة، بل حالة وجودية تتفاعل فيها الطبيعة مع نبضات الإنسان الخائف والمُضحّي وغير المتصالح مع قدره... هكذا تنضج في جسد القصيدة ألوان غير مرئية تعبّر بحساسية عالية عن التضامن الكوني مع الضحايا، وعن مقدرة اللغة الخارقة في الشعر على إنصاف الإنسان المنتمي لجغرافيا الحرب. وبالمحصلة، من خلال هذا التمثل الافتراضي للمُتخيَّل الدرامي ينبعث شيء من النفَس الرومانسي في الشعر، فتبدو الطبيعة والكون أقرب إلى معانقة الإنسان الضحية والانتصار لمظلوميته.

يقول الشاعر المغربي محمد بنيس في مقطع مُجتزأ من قصيدته «أرضٌ بدماءٍ كثيرة»:

«الأرْضُ هنا تتذكّرُ قتْلاهَا

وتسيرُ بهمْ من حُلم الأرْضِ إلى أرْضِ الحُلمِ، مُزيّنة برمُوزِ العْودة

صرْختُهم أبْعدُ من ليْل الموْتِ، طيورٌ تحْملُهمْ

فانْزعْ عنهُمْ يا صمْتُ بُرودة وحْدتِهمْ

واتْرُكْ في أقصى الدمْعة ورْدتَهُمْ تنْمو

وزّعْ نجَماتِ البحْرِ عليْهمْ واسْهرْ قُربَ الأمْواجِ لكي لا يسْرقهَا أحدٌ

بجَناحيْكَ احْضُنْهمْ في أُفُقٍ يتجدّدُ، واجْعلْ منْ صرْختِهِمْ ظلاًّ يمْشي

ويوسّعُ شوقَ الأرْضِ إلى أبناءِ الأرْضْ»

على هذا المستوى من خيال اللغة وضمن ما تسمح به طاقة المجاز من اقتراحات، يمكن أن يساهم الكون في رسم عالم موازٍ للبشر المستضعفين داخل جغرافيا الحرب. وحين يتأمل المتابع لمأساة الإنسان الفلسطيني في غزة ولاقتراحات المجازية التي ترسم أفق الخلاص من تراجيديا الحرب، يجد فيها شيئاً من المنطقية. فالخارق الطبيعي هو على الأرجح من يمكنه أن يتعاطف بشكل مُجدٍ مع الضحايا على نحو يجعلهم أحسن حالاً وأقل عذاباً وأقربَ إلى لحظة الانتصار الرمزي على الأقل.

وعلى نفس هذا الإيقاع الرومانسي تعزف القصائد الحالمة سيمفونية المحبة التي يتفق عليها الفن كونياً. هكذا، يمكن أن يُشهِر الإنسان المحاصر بأسوار الحرب الشاهقة سلاح المحبة في وجه العالم، مقاوماً بذلك مأساوية واقعه الصعب. على هذا النحو، يمكن أن يكون العشق نوعاً من أنواع المقاومة الحديثة أو تعريفاً معاصراً للشجاعة في سياق الحرب.

يقول الشاعر السوري ياسر الأطرش في قصيدته «نحِبُّ ما دُمنا نعيش»:

«سنحبُّ ما دمنا نعيشْ

ونعيش ما دمنا نُحبُّ

وأنا أحبكِ حين كان البحر مجتمعاً، وحين انشقّتِ الأنهارُ عنّي

وأنا أحبكِ حين يضحك ياسمينٌ في دمشقَ،

وحين تهطل فوق بغداد القنابلْ

بغداد منكِ وأنتِ مِنّي، فلنحاولْ أن نُغنّي

كي يظلَّ غناؤنا معنا يقاتل»

إن المشهد العام للحرب يوحي ضمن الإطار الكلاسيكي بالحاجة إلى المحبة بديلاً للصراع المفضي في النهاية إلى الاحتراب. لكن أن يكون العشق تحت زخات القنابل، فهو اقتراح شِعري مُوحٍ بالدلالة ومشجع على فهم جديد للحياة في الحرب كما يتخيلها الفن، لا سيما حين يحدث كل هذا وسط عواصم يجتاح القتل دروبها وتتعايش فيها الشوارع مع الانفجارات بين لحظة وأخرى.

لكن من جانب آخر، يُطرح سؤال مُربِك عن مدى قدرة القلب عاطفياً ووجدانياً على خوض هذا النوع من التجارب في مقارعة الحرب بالحب. ذلك أن الحرب لا تلقي بوقعها المدمر على مورفولوجيا المدُن والأحياء والشوارع فحسب، بل تتوغل عميقاً داخل خوالج الذات الإنسانية فتجعلها ركاماً من الأحاسيس المهشمة والمتناقضة وغير الواعية أحياناً. وحين تطول الحرب وتتشعب مسالكها دون مسارات محددة تصبح هذه الذات عاجزة حتى عن الوصول إلى آفاق اللغة التي تحلم بالشعر قبل الحب وقبل السلام.

تصف الشاعرة الكويتية سعاد الصباح شيئاً من هذا التبعثر الوجداني وهذا الإخفاق الفني في قصيدتها «القصيدة السوداء» حين تقول:

«كم غيّرتْني الحربُ يا صديقي

كم غيّرَتْ طبيعتي وغيّرتْ أُنوثَتي، وبعثرَتْ في داخلي الأشياءْ

فلا الحوارُ ممكنٌ، ولا الصُّراخُ ممكنٌ، ولا الجنونُ ممكنٌ

فنحنُ محبوسانِ في قارورة البكاءْ

ما عدتُ بعد الحربِ، أدري من أنا؟»

إن فقدان قدرة الشاعر على إدراك الجزء الذهني والعاطفي من كيانه في خضم صدمته بمجريات الحرب وأهوالها، سيفضي به في النهاية إلى حالة أخرى من عدم الفهم، أو بالأحرى التساؤل المزمن دون أملٍ بامتلاك أجوبة. هكذا يسقط الشاعر في شرَك استفهام تراجيدي يجعل قصيدته تحاكم العالم على عبثية حربه وعدوانيتها، وتسائل الإنسان داخل الوطن الواحد عن جدوى هذه الحرب.

يقول الشاعر العراقي عماد جبار:

«ما الذي نَجني من الحربِ،

سِوى ما يجعلُ الأطفالَ مَرمِيينَ في كُل تقاطُعْ

يغسلونَ العرباتْ

ويبيعونَ السّجائرْ

ويُذِلّونَ كثيراً كبرياءَ العيشِ في ضجّة شارعْ

فالإطاراتُ تدوسُ القلبَ والعُمرَ وأغصانَ المشاعرْ

ما الذي نَجني من الحربِ سوى أن يَقتُلَ الشّاعرُ شاعرْ

وسوى أنْ يفقدَ الحبّة طائِرْ».

* كاتب وشاعر مغربي