«مختبرات السَّرد العربية»... هل أصبحت لافتةً أنيقةً دون مضمون؟

مثقفون وأدباء يناقشون مرجعياتها وأهدافها الفكرية والنقدية

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

«مختبرات السَّرد العربية»... هل أصبحت لافتةً أنيقةً دون مضمون؟

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

شهد الحراك الثقافي العربي في السنوات الأخيرة عدداً من الظواهر التي عدّها مراقبون علامةً أدبيةً مهمةً تحرك المياه الراكدة، تأتي «مختبرات السرد» على رأس هذه الظواهر. اللافت أنه قبل 20 عاماً كان المصطلح نفسه غريباً يثير التساؤل، وربما السخرية، بسبب غرابته وإحالاته العلمية والطبية، لكنه الآن بات من المفردات البديهية للنشاط الأدبي والثقافي هنا وهناك، ولا يكاد يخلو بلد عربي منه، بل إن بعض البلاد مثل مصر والمغرب أصبح لديها أكثر من مختبر سردي.

في هذا السياق، إلى أي حد تبدو تلك المختبرات ضرورية، وما هي الأهداف التي حققتها خصوصاً بعد نضوج التجربة وانتشارها؟... في هذا التحقيق يجيب مديرو ومؤسسو تلك المختبرات، بالإضافة لأدباء ومثقفين، عن هذه الأسئلة وغيرها.

عبد الرحمن غانمي

كانت شرارة البداية انطلقت من المغرب، حيث شهدت الساحة الثقافية هناك الإرهاصات الأولى لتلك التجربة، وكان للمثقفين المغاربة فضل كبير في صك المصطلح وتقديمه للساحة العربية لاحقاً. اللافت أن «مختبر السرد» بكلية الآداب، جامعة السلطان مولاي سليمان بني ملال، يمتد نشاطه ليشمل «الأشكال الثقافية: الأدب واللغة والمجتمع»، فهل ثمة دلالة ما؟ طرحنا السؤال على مدير المختبر د. عبد الرحمن غانمي فأجاب قائلاً: «في الواقع لم تنشأ الفكرة من فراغ، فهي حصيلة تراكمات أكاديمية أملت علينا في آخر المطاف تأسيس المختبر بأفق ورؤية مغايرة، ليست غايتنا تكرار التجارب، أو أن نكون مجرد رقم إضافي، ولا (مزاحمة) أيِّ من كان، وإنما فقط من أجل ترجمة المشروع الذي نؤمن به على أرض الواقع، ولذلك لم نقدم على هذه الخطوة إلا بعد مخاض مهم ونقاش مع مكونات المختبر ومرجعياته الفكرية في بدايات العقد الأول من هذا القرن».

سمير الفيل

وحول أبرز الأهداف الخاصة بالمختبر، أوضح أنها تتمثل في الاشتغال على قضايا وموضوعات ما زالت في حاجة إلى التناول، أو تلك التي لم تنل حظها من العناية والاحتضان، تبعاً لتصورات فيها قسط محترم من الاجتهاد والمثابرة، وعقد مؤتمرات وندوات وطنية ودولية ولقاءات منتظمة. والاهتمام كذلك بالتأطير الأكاديمي للطلبة في تكوين أطروحات الدراسات الأدبية واللسانية والثقافية.

لكن مع «تكاثر» مختبرات السرد من المحيط إلى الخليج، يرى البعض أنها تحولت إلى نشاط روتيني ولافتة أنيقة دون مضمون حقيقي، يجيب د. غانمي: «هناك عدد من مختبرات السرديات العربية تؤدي خدمة ثقافية لافتة، في سياقات أدبية ونقدية وفكرية بدلاً من أن يظل ذلك حكراً على بعض المؤسسات، ومن الأكيد أن التجارب تتنوع ولا تشتغل بالضرورة بإيقاع واحد، وتقوى في حين، وقد يخفت صوتها في لحظات أخرى، وقد تتحول بعض الأنشطة في بعض الأحايين إلى إعادة إنتاج الموجود».

سهير المصادفة

الرهان على الغرابة

في أواخر ديسمبر (كانون الثاني) 2009، تم الإعلان عن انطلاق «مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية». ورغم غرابة الاسم وقتها، إلا أن مؤسس ومدير المختبر الكاتب منير عتيبة راهن على أن هذه الغرابة ستكون نقطة تميز تلفت الأنظار إلى ما يقوم به المختبر، حتى لو واجه الاسم في البداية بعض التندر.

ويشير عتيبة إلى تبني المختبر فكرة «زمن السرد» مقابل «زمن الرواية»، وهو المصطلح الذي أطلقه الناقد المصري د. جابر عصفور، وذلك حتى لا يظن البعض أن الرواية قتلت بقية الأشكال السردية. وتم التوسع في مفهوم السرد بالمختبر، فلم يعد يقتصر على «السرد الكتابي» من قصة قصيرة ورواية، بل أضيف إليه «السرد المسموع» ممثلاً في الدراما الإذاعية، و«السرد المرئي» ممثلاً في الدراما التليفزيونية والسينمائية، إضافة إلى المسرح الذي يعد أب الفنون، باعتبار أن كل هذه الفنون «تسرد» فكرة في إطار فني باستخدام أدوات مختلفة من النص المكتوب إلى جسد الممثل وصوته إلى الحركة المسرحية والمؤثرات الصوتية والموسيقى والديكور والإضاءة. ويتم تنظيم لقاء شهري بـ«بيت السناري» التابع لمكتبة الإسكندرية بمنطقة السيدة زينب بالقاهرة لمناقشة عمل سردي أو مناقشة مجمل أعمال سارد. كما يتم تنظيم لقاء شهري آخر بالمكان نفسه تحت عنوان «مختبر السرديات للفتية ببيت السناري»، وهو ورشة عمل دائمة لتدريب الشباب تحت سن العشرين ومناقشة أعمالهم بالتواصل مع كبار المبدعات والمبدعين.

جعفرالعقيلي

ويوضح منير عتيبة أن مختبر السرديات بالإسكندرية حقق الكثير من أهدافه، مثل دعم جسور التعاون بين الجهات الثقافية في البلاد العربية المختلفة، وهو ما تجلى في العديد من المؤتمرات التي نظمها المختبر مثل مؤتمر «البحر والصحراء: قصة مدينتين (الإسكندرية والرياض)» الذي جاء ثمرة تعاون بين مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية وبين «وحدة السرد» بكلية الآداب بجامعة الملك سعود.

رد الاعتبار للمنجز السردي

وحسب البيان التأسيسي لمختبر السرديات بالأردن، فإن الهدف من ذلك الكيان يتمثل في «الانفتاح على جميع أشكال السرد ومنتجيه دون أي مرجعية سوى جِدّة النص وسعيه الحثيث للمقاربات الحقيقية بغرض رد الاعتبار إلى المنجز السردي باعتباره منصة للانفتاح الإنساني».

منير عتيبة

وينفي الكاتب والناشر الأردني جعفر العقيلي، نائب رئيس المختبر، فكرة أن ظاهرة مختبرات السرد تحمل شيئاً من الرفاهية أو الرغبة في التقليد، مؤكداً أن تأسيس المختبر الأردني جاء انطلاقاً من الوعي بأهمية السرد وضرورة معاينته عبر الرواية والقصة والمسرحية والنصوص، بعين واعية وناقدة، والإسهام في خلق بيئة مبدعة حرة خلاقة، من خلال المراجعات والقراءات، واستنطاق النص الحاضر، واستحضار النماذج المبدعة، وفتح الأبواب للمغامرات السردية الجديدة، كي تعزز الحضور الإبداعي المهم فيما يخص الأجيال المبدعة في مجال السرد في الأردن، ليكون تلمّسه بتجلياته وأبعاده الإنسانية ومساحاته الإبداعية.

يضيف العقيلي: «نقوم في المختبر بتنظيم أنشطة غير نمطية كانت بمثابة سبل مدروسة تلقي الضوء على السرد المكرس وتأخذ بيد التجارب السردية الجديدة وفق رؤى وأدوات لا تتحقق إلا بثالوث الروائي والناقد والقارئ». ويؤمن مؤسسو المختبر، الذي يرأسه الكاتب مفلح العدوان، أن من أبرز معالم التنوير الثقافي في البلاد العربية ازدهار حالة النقد الذي يترافق مع وجود حركة تأليف مميزة وذات فعالية.

وعلى الدرب نفسه وفي ديسمبر 2019، أطلق مثقفون من مدينة دمياط الساحلية، شمال مصر «مختبر السرد بدمياط». ومن بين هؤلاء المؤسسين الشاعر والقاص سمير الفيل الذي يشير إلى أن أنشطة المختبر تتم في مقر حزب «التجمع» بالمدينة رغبة في الاستقلال عن الهيئات الرسمية. ويضيف الفيل: «نجح المختبر في تقديم جيل جديد من النقاد إلى الساحة الثقافية المصرية منهم محمد طاهر عشعش، دعاء البطراوي، هبة عادل السويسي، إضافة إلى النقاد أصحاب الخبرة مثل د. حمدي سليمان، د. عيد صالح، د. رشا الفوال، ود. إبراهيم منصور».

ويقول الفيل إن الهدف الأهم للمختبر، الذي بدأ في التبلور والتحقق، يتمثل في مد الحركة الثقافية بنشاط نوعي حقيقي، والتعرف على أقلام لا تحظى بدرجة كبيرة من الشيوع والانتشار لكنها تملك الموهبة ولديها هاجس التجاوز والتجريب. وينفي الفيل تحول المختبر إلى مجرد نشاط روتيني، نظراً لحرص الإدارة على اختيار أعمال مرموقة وذات مصداقية، ولإسناد مهمة النقد لأقلام عُرف عنها التجرد والنزاهة.

تفاؤل وتحذير

من جهتها، تشير الكاتبة الروائية سهير المصادفة إلى أنها شاركت في معظم فعاليات مختبرات السرديات، سواء في مصر أو في العالم العربي. لعل أشهرها وأكثرها تأثيراً مختبر السرديات بالمغرب، وكذلك ملتقى السرد الذي تقيمه الشارقة، وهو في أحد وجوهه مختبر للسرد أيضاً. وحول رؤيتها لتلك التجربة بعين المبدع تقول المصادفة: «فعاليات هذه المختبرات مهمة بالتأكيد للبحث الأكاديمي والنقد الأدبي والأدب المقارن، وبالتالي هي مهمة لمسيرة السرد. ولكن لا يساهم في الارتقاء بمستوى السرد إلا السرد نفسه، أي الروائي أو الروائية، فنحن هنا نتحدث عن تناول ما بعد العملية السردية، أي تحليل العمل الأدبي المكتمل بالفعل، من خلال محاور تفتح الآفاق أمام الباحثين، وتشير إلى الطفرات الكبرى في مسيرة السرد، وقد تكتشف من خلاله مدارس أو تيارات أدبية جديدة».

ويقول الشاعر والروائي السوري المقيم ببلجيكا هوشنك أوسي: «إن مختبرات السرد ظاهرة تنعكس إيجابياً على ضفتي الإبداع والنقد معاً، لكنها يُفترض أن تكون مرتبطة إمّا بالمكتبات الوطنيّة الكبرى، أو بأقسام وكُليّات الآداب في الجامعات، أو بوزارة الثّقافة، بحيث تكون مدعومة ومموّلة، وتحظى بشخصيّة أكاديميّة اعتباريّة. لكن مع ذلك، ففي ظنّي وتقديري أن التفاؤل الموجود حيال مختبرات السّرد، يفترض أن يكون مصحوباً بالتحذير مما يمكن وصفه بـانقلاب السحر على الساحر، بحيث كنا في أمس الحاجة لمختبرات السرد، كي تنقذ السّاحة الأدبية والنقدية من مظاهر الإسفاف والتهافت في الكتابة الأدبية والنقدية، لكن الخوف أن نصبح فجأة في أمس الحاجة إلى من ينقذنا من (مختبرات السّرد) العشوائيّة والارتجاليّة، أو الخاضعة لسطوة وسلطان هذا الكاتب أو الناقد أو المموّل».


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

لماذا نقرأ للقدماء؟

 أرسطو
أرسطو
TT

لماذا نقرأ للقدماء؟

 أرسطو
أرسطو

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم، خصوصاً ونحن نراه يتبنى قيماً تخالف القيم الإنسانية التي تواضع الناس في زماننا على مجافاة ما يخالفها. ما لم تشر إليه كالارد هو أننا نعلم أن الثورة العلمية التي بدأت مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) وانتهت بإسحاق نيوتن (1642 – 1727) قد دمرت علوم أرسطو، سواء على صعيد النظريات التي قال بها، أم على صعيد المنهج الذي اتبعه، فقد أسس غاليليو غاليلي المنهج التجريبي الذي نسف إدخال التأمل في دراسة الطبيعة. وغاليليو هو من قام باكتشاف أقمار المشتري التي تدور حوله فأسقط نظام أرسطو والبطالمة عن مركزية الأرض، وهو من اكتشف بمقرابه الذي صنعه بنفسه النمش على وجه الشمس (العواصف المغناطيسية) فأبطل نظرية كمال الشمس والأفلاك. ثم جاء قانون الجاذبية النيوتوني فألغى نظرية أرسطو عن المحرك الذي لا يتحرك. ما الذي بقي؟ الأخلاق.

لا يقف اختلافنا معه عند العلم، بل ينتقل إلى مستوى الأخلاق، حين نجده لا يكتفي بالتغاضي عن جرائم العبودية، ويدافع عنها، بل يراها مفيدة لاقتصاد الدولة وللمُستعبَد نفسه، على حد سواء. من وجهة نظره، هناك بشر لا يُحسنون التكسب ولا أن يستفيدوا في حياتهم، وبالتالي فالأفضل لهم أن يكونوا مجرد أدوات بأيدي غيرهم. ولا تقف معاداة أرسطو لليبرالية عند هذا الحد، بل يقرر في مواضع كثيرة من كتبه أن المرأة غير قادرة على اتخاذ القرار السلطوي، وبالتالي لا يجوز تمكينها من السلطة سوى سلطتها في بيتها. وتمتد عنصرية أرسطو وطبقيته إلى حرمان من يعمل بيده من حق المواطنة، كما أنه يحرمه من حق التعليم، في نسخته من المدينة الفاضلة. وفي موضع من كتاب «الأخلاق» يقرر أن قبيح الصورة لا يستحق السعادة ولا المعرفة، ويمكن القول بأنه قام بالتأسيس للأخلاق الأرستقراطية، فقد قرر أن المواعظ الأخلاقية لن تُفيد المستمعين، إلا إذا كانت نفوسهم في أصلها نبيلة وكريمة وشريفة، يقصد بذلك أن خطابه موجه فقط لطبقة الأرستقراطيين والنبلاء وعِلية المجتمع، أما بسطاء الناس وسوقتهم، فليسوا بداخلين في هذه المعادلة، ولن يصلوا إلى الفضيلة –بحسب أرسطو– مهما سمعوا من المواعظ الأخلاقية. «كل من كان خسيس النسب أو شديد القبح فهو محروم من الوصول للسعادة الكاملة». أما إذا حاول هؤلاء أن يتجاوزوا حدودهم وأن يسْموا على ما هم فيه، كمحاولة الفقير أن يكون كريماً جواداً وهو لا يملك ما ينفقه، فهذا في حكم أرسطو: «غبي وأحمق». إذن، فالأخلاق والفضائل عند أرسطو طبقية ولا تليق إلا بمن يقدرون عليها ممن لديهم رغبة في استثمار مكانتهم الاجتماعية واستغلالها جيداً.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية. لكن عنصرية أرسطو أسوأ وأوسع دائرة، فهو ضد كل من ليس بإغريقي. في عنصرية تشبه موقف ديكارت من الحيوانات التي يصفها بأنها آلية وبلا روح ولا وعي. ولهذا كان تلاميذه يطاردون الكلاب في شوارع باريس ويضربونها بالعصي لكي يثبتوا أنها لا تشعر، كما قال الأستاذ.

لكن ما هو موقفنا نحن من هذا؟ هل نتجاهل مثل هذه الهفوات ونركز اهتمامنا على الأفكار العظيمة التي أدلوا بها في مواضع أخرى؟ أم أن هذه العنصرية هي جزء لا يتجزأ من فلسفاتهم؟ هذا هو السؤال الذي حاولت كالارد الإجابة عنه.

عندما نفتش في نصوص الفلاسفة فسنجد أن أرسطو لم يكن وحده، فهيراقليطس كان يحتقر عموم الناس، وصدرت عن هيوم وكانط عبارات عنصرية ضد السود، وفريجه، صاحب المنعطف اللغوي، صدرت عنه عبارات صُنفت على أنها مضادة للسامية.

في الواقع، هناك من يمكن فصل هفواتهم عن فلسفاتهم من مثل هيوم وكانط وفريجه، ويمكننا أن نعتبرها فلتات لسان أو مفردات مخزونات رشحت عن ثقافة وتربية أهل ذلك العصر. وهناك من لا يمكن فصل فلسفتهم عن أحكامهم الجائرة، ومن هؤلاء أرسطو، فكل فلسفته قائمة على عدم المساواة. مكانة الإنسان تكتسب مع النشأة، وبالتالي فلا فضيلة للنساء ولا للعمال ولا للأجانب من غير الإغريق، فكل من ليس بإغريقي بربري، كل هؤلاء ليس لهم حق في المطالبة بالاحترام. إنه لا يؤمن بمفهوم الكرامة الإنسانية الذي بُنيت عليه حقوق الإنسان، بل كل ما يتعلق بحقوق الإنسان لا يتفق مع فلسفة أرسطو.

ما فات الأستاذة كالارد أن تشير إليه هو أن هذه النظرة الأرسطية المتعالية هي أحد الأسباب المهمة لنشوء المركزية الأوروبية، وهي تلك النظرية التي تحدو بها العيس إلى الغرب باعتباره مركزاً للأحداث العالمية أو متفوقاً على جميع الثقافات الأخرى. صحيح أنه من المحبب إلى النفس أن نكون قادرين على أن نؤيد إمكانية الخلاف الجذري حول الأسئلة الأكثر جوهرية، لكن هذا لن يمنعنا من رصد الأخطاء الشنيعة في تاريخ الفكر وتفكيكها لكيلا تعود مرة ثانية. ورغم أن قسماً كبيراً مما دونه أرسطو قد ثبت أنه غير صحيح، وأن الأخلاق التي دعا إليها تنطوي على ما لا يطاق؛ فإنه ما زالت أقسام الفلسفة في جامعات العالم تُدرس أخلاق أرسطو كجزء من مناهج الفلسفة. لا يمكن أن يطالب متعلم بمحاربة أرسطو أو منع كتبه أو عدم طباعتها، فهو اسم في غاية الأهمية في تاريخ الفكر ومحطة جوهرية في رحلة الروح، وهذا الاسم قد وقع اليوم تجاوزه، لكنه علامة مهمة لكي نفهم كيف وصلنا إلى محطتنا الحالية.