سيرة ذاتية افتراضية لغائب طعمة فرمان

خضير فليح الزيدي أخرج الشخصيات الروائية نهائياً من العالم الواقعي

غائب طعمة فرمان
غائب طعمة فرمان
TT
20

سيرة ذاتية افتراضية لغائب طعمة فرمان

غائب طعمة فرمان
غائب طعمة فرمان

رواية «بنات غائب طعمة فرمان» للروائي خضير فليح الزيدي، الصادرة هذا العام، تقوم على افتراضات تخييلية متطرفة، ينهض فيها الموتى من قبورهم، في مقدمتهم الروائي الراحل غائب طعمة فرمان، الذي يستحضره المؤلف ليلتقي بأبطال رواياته الذين طلبوا منه الحضور لتصحيح أوضاعهم الحياتية، بعد أن خرجوا من عالم الورق الافتراضي إلى العالم الواقعي، وهو مشهد يذكرنا بمسرحية الكاتب الإيطالي لويجي بيرانديللو الموسومة بـ«ست شخصيات تبحث عن مؤلف»، إذْ وجدنا شخصيات رواياته يطالبونه بتصحيح أوضاعهم، منهم كريم الذي خاطب غائب بغضب: «لقد أجرمت بحقي أيها المؤلف حين تركتني في صفائح بغداد دائخاً ومرعوباً وهربت... وجعلت آمنة تفر من شباكي وتتركني وحيداً وتائهاً هنا» (ص 29).

لكن المؤلف يعيد ثانية شخصيات «غائب» من العالم الواقعي، الأرضي الذي تسللت إليه، إلى الفضاء السردي الورقي بتعبير رولان بارت عندما يعلن «هاني بارت» للمحقق أنه كاتب، وأن «كل هؤلاء شخصيات في روايتي الجديدة بما فيهم أنت، والعون الذي سيطرق الباب بعد لحظات، رفقة محامٍ يحمل لك وثيقة عن حقيقة هويتي» (199).

وبذا فقد أعاد المؤلف الشخصيات الروائية إلى سياقها الفانتازي، وأخرجها نهائياً من العالم الواقعي. فكل شيء، وكل الشخصيات، هي مجرد كائنات ورقية كما يقول الناقد الفرنسي رولان بارت. وبذا أكدت الرواية كونها فانتازيا تخييلية تتوسل بلعبة التغريب في المسرح الملحمي البريختي لكسر حالة الإيهام والتماهي مع الفعل الدرامي، وإشعار المتلقي أن ما يتلقاه مجرد تمثيل ليس إلا، وتحريضه على التفكير المتسائل حول ما تلقاه من مشاهد وأفعال.

ويستهل الروائي روايته بإعلان علق على حائط المسجد بلافتة سوداء عن إقامة مجلس فاتحة على روح المرحوم غائب طعمة فرمان، لكن الروائي سرعان ما يتدخل، مستدركاً: «والحق أنه لا يوجد فقيد، ولا وفاة مسجلة رسمياً، ولا هم يحزنون. فقد أشبع المؤلف موتاً» (ص 9).

وبذا يختلط الواقع بالتخييلي، منذ البداية، خصوصاً عندما يحضر الفقيد بشخصه ليتلقى كلمات العزاء من المعزين، كما حضر جميع أبطال رواياته، في مقدمتهم سليمة الخبازة ومصطفى الدلال وأسومة العرجة وحمادي العربنجي وخاجيك ودبش والسيد معروف وغيرهم، فضلاً عن ذلك فقد انتشرت إشاعات عن حضور كبير تجار الشورجة السيد المرحوم عبد الرزاق البيرقدار، والد دلال، إلى مجلس العزاء.

ويمهد الروائي تدريجياً لظهور شخصيات الرواية الرئيسية عندما ينقل محامي عائلة البيرقدار السيد جبر الشوك مضمون هذه الإشاعات إلى «دلال» الابنة الصغرى للمرحوم عبد الرزاق البيرقدار، لتشهد بنفسها عودة الغائب إلى بغداد (ص 12). ويعترف غائب للسائق الذي أقله من المطار إلى فندق بغداد بأن سليمة الخبازة ضحيته، وأنه جاء لتغيير مصيرها (ص 38).

هذه المقدمات التي قدمها المؤلف كانت هي المدخل لحبكة الرواية المركزية والمتمثلة في العلاقة الثنائية بين «دلال» ابنة البيرقدار الصغرى، وكاتب شاب يدعى «هاني بارت»، وهو أحد الأدباء المنضمين إلى جمعية أدبية هدفها تفجير اللغة وتحديثها. وتهدف هذه العلاقة إلى البحث عن الروائي الراحل غائب طعمة فرمان، الذي دارت الإشاعات حول وجوده حياً في بغداد، ورغبة دلال في أن تسلمه أمانة، هي عبارة عن مخطوطة سبق للروائي الراحل أن كتبها لكنه لم ينجزها وتركها في مكتبه في معمل القطن الذي يملكه والدها المرحوم عبد الرزاق البيرقدار.

وبعد جولات ماراثونية في شوارع بغداد ومحلاتها الشعبية، في مقدمتها محلة المربعة في شارع الرشيد، التي كان يقيم الأديب الراحل فيها أثناء إقامته في العراق، تقتنع «دلال» بلا جدوى البحث عن غائب طعمة فرمان، جسداً، وتوافق على تسليم المخطوطة للأديب الشاب «هاني بارت» ليقوم بتحريرها لغرض نشرها باسم الروائي الراحل وفاءً لذكرى الأديب الراحل الذي تعدّه «دلال» بمثابة عمها. ونكتشف بعد إنجاز مهمة التحرير وإعادة الكتابة، أن المخطوطة هي رواية «بنات غائب طعمة فرمان» بالذات، وأن المحرر (هاني بارت) هو القناع الذي ارتداه المؤلف خضير الزيدي.

ومما يربك القارئ معرفة أن «دلال» الفتاة الجميلة (قمر الرصافة) كانت تخطط للتخلص من شقيقتها الكبرى تماضر: «.. أما هي، فكان كل همّها ألا تفشل الخطة التي وضعتها لتوريط أختها في جريمة القتل والاستحواذ على إرث البيرقدار» (ص 194).

ففي هذا الاتهام تنهار صورة البراءة والجمال والنبل التي رسمها المؤلف لبطلة الرواية (دلال) لأنها تفتقد إلى التبرير، كما تفتقد إلى مقدمات سردية تدعم هذا التخطيط الشيطاني. ومن اللافت للنظر أن محرر الرواية (هاني بارت) وجه مثل هذا الاتهام إلى «دلال» أثناء التحقيق:

«– دلال فاتنة استخدمتني لتورط أختها.

- فيم تورطها؟

- في قتل زوجها ابن الأغا.. لتستأثر بالإرث لنفسها» (ص 198).

وكان من الأفضل حذف هذا الاتهام غير المدروس لإبقاء صورة «دلال» على ما هي عليه.

ويبلغ المنحى الميتا سردي ذروته في نهاية الرواية، عندما يعلن المحرر (هاني بارت) أنه كاتب، وأن جميع هذه الشخصيات موجودة في روايته الجديدة، وبذا أعاد الروائي شخصيات الرواية من العالم الواقعي الذي انسلت إليه إلى العالم الورقي للسرد، في تأكيد آخر على أن كل الأحداث تخيلية ولا علاقة لها بالواقع، وهو ما دفع بالمحقق لأن يعدَّ ذلك جنوناً لا معنى له.

رواية «بنات غائب طعمة فرمان» لعبة سردية ماكرة، فيها الكثير من المستويات السردية وتنفتح على تأويلات لا نهائية. فثمة إشارة إلى أن غائب طعمة فرمان أثناء عودته عام 2006 وهو عام الصراع الطائفي، قد حلُمَ بعودته إلى حي المربعة: «ظل الغائب حتى عام 2006 يغط في نومته الطويلة، فطار به الحلم، ونقله أولاً إلى حي المربعة في وسط رصافة بغداد» (ص 67).

وهذا الحلم، يكشف عن فانتازية السرد الروائي، ولا واقعيته.

يختلط الواقع بالتخييلي، منذ البداية، خصوصاً عندما يحضر الفقيد بشخصه ليتلقى كلمات العزاء من المعزين، كما حضرت جميع أبطال رواياته

ومن الجانب الآخر تنطوي الرواية على ملامح سيرة (Biography) كتبها المؤلف خضير فليح الزيدي عن شخصية الروائي الراحل، كما تكشف الرواية عن ملامح سيرة ذاتية (Autobiography) لشخصيته يرويها الروائي غائب عن نفسه، وعن عائلة البيرقدار، وأبطال رواياته، وهي سيرة افتراضية يتداخل فيها الواقعي بالفانتازي. كما يمكن أن نتحدث عن سيرة مكان بغدادي شعبي معروف هو محلة المربعة المطلة على شارع الرشيد ببغداد.

وبذا يحق لنا أن نتحدث عن تشكل هوية سردية (Narrative Identity) بمصطلحات بول ريكور لمحلة المربعة، فضلاً عن تشكل هوية سردية افتراضية للروائي الراحل غائب طعمة فرمان. والرواية تنطوي أيضاً على كتابة سيرة لعائلة التاجر البغدادي الثري عبد الرزاق البيرقدار وبناته الثلاث، واللواتي عدّهن الروائي الراحل غائب طعمة فرمان بمثابة بناته أيضاً. وتنطوي الرواية من جانب آخر على ملامح ميتا سردية تتمثل في وجود المخطوطة الناقصة التي تركها الراحل غائب طعمة فرمان، ومشروع تحرير المخطوطة من قبل الأديب الشاب هاني بارت، فضلاً عن مطالبة شخصيات الروايات المؤلف بتصحيح أوضاعهن.

تضم رواية «بنات غائب طعمة فرمان» 26 فصلاً معنوناً. ومعظم عناوين الفصول مرتبطة بحالة الطقس وتغيراته، وهي بمثابة عتبات نصية يفترض في كونها دالة على الأحداث اللاحقة لكل فصل من فصول الرواية.

إذْ نقرأ بعض هذه العناوين: «رياح نشطة مصحوبة بزوابع نفسية» (ص 13) و«غبار يتصاعد» (ص 27) و«سماء ملبدة بالغبار» (ص 33 ) و«أجواء بغدادية غير مستقرة» (ص41) و«كتلة هوائية معتدلة» (ص 53).

ولم أجد، على مستوى القراءة والتأويل، مبرراً قوياً يدعم هذا الاختيار لعناوين الفصول، كما أن أغلبها لا علاقة له بمجريات أحداث الفصول، لكننا يمكن أن نتقبلها بوصفها لعبة سردية طريفة تسحب السرد الروائي إلى فضاء السرد البيئي. رواية «بنات غائب طعمة فرمان» تمثل نقلة روائية مهمة في تجربة الروائي خضير فليح الزيدي الغزيرة، ربما تفتح الطريق مستقبلاً أمام هذا اللون من الحبكات لإعادة صياغة سيرة حياة شخصيات ثقافية وسياسية ذات طابع تاريخي تركت أثراً واضحاً في تاريخنا السياسي والاجتماعي والثقافي.


مقالات ذات صلة

عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

ثقافة وفنون عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

يعيش المعرض الذي ينطلق غداً ظاهرة لافتة تتمثل بوجود كتب جديدة لن يتمكن مؤلفوها من رؤية أغلفتها وملامسة أوراقها.

عمر شهريار (القاهرة)
ثقافة وفنون أربع مجامر موقع سمهرم في سلطنة عُمان

مجامر من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

كشفت أعمال المسح المستمرة في سلطنة عُمان عن سلسلة من المواقع الأثرية، من أبرزها موقع خور روري الذي ضمَّ في الماضي مدينة عُرفت باسم سمهرم

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله

د. فاضل عبود التميمي
ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون عبد الله القصيمي

جيناتنا العظيمة

ثمة فرق بين النقد الثقافي الساعي لإصلاح حال أمة ما وتسليط الأضواء على الأخطاء التي تعيق التطور من جهة، وجلد الذات الذي يصبح إدماناً، من جهة أخرى.

خالد الغنامي

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT
20

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

* أكاديمي وناقد من العراق.