مجامر من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

«متحف أرض اللبان» في صلالة يضم عدداً كبيراً منها

أربع مجامر موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أربع مجامر موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

مجامر من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أربع مجامر موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أربع مجامر موقع سمهرم في سلطنة عُمان

كشفت أعمال المسح المستمرة في سلطنة عُمان عن سلسلة من المواقع الأثرية، من أبرزها موقع خور روري الذي ضمَّ في الماضي مدينة عُرفت باسم سمهرم، وميناء اشتهر بتجارة اللبان من جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية. خرجت من هذه المدينة الأثرية مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من المجامر الحجرية، دخل عدد كبير منها المتحف المعروف باسم «متحف أرض اللبان» في مدينة صلالة بولاية ظفار.

عُثر على عدد من هذه المجامر في المعبد الكائن وسط الجانب الشمالي من سمهرم، وعُثر على عدد آخر منها في مبانٍ سكنية، والأكيد أنَّها كانت مخصَّصة لحرق البخور. شاعت صناعة المجامر بشكل واسع في الشرق القديم، وارتبطت بشكل كبير بالعبادات الدينية، كما يشهد كثير من النصوص الأدبية، وأشهرها تلك التي وردت في التوراة. حسب ما ورد في «سفر الخروج»، كان هارون يوقد البخور ليكون «بخوراً دائماً أمام الرب» (30: 8)، وكان هذا البخور مزيجاً من مواد عدَّة: «ميعة وأظفاراً وقنة عطرة ولباناً نقياً»، في «أجزاء متساوية»، تُنتج «بخوراً عطراً صنعة العطَّار، مملحاً نقياً مقدساً» (30: 34-36).

مُنع استعمال هذا البخور خارج «بيت الرب»، وعهد إلى الكهنة وحدهم بإشعاله، وهم «الكهنة من بني هارون المقدّسين للإيقاد»، كما جاء في سفر الأخبار الثاني (26: 18). هكذا ارتبط هذا البخور المتّقد بالعبادة، وكان رمزاً للصلاة، كما يقول المزمور 141: «لتستقم صلاتي كالبخور قدامك».

شاع تقديم البخور في الاحتفالات الدينية في سائر أنحاء الشرق القديم، وبات لكل أمة من هذه الأمم تقليد خاص بهذه الخدمة. كان هذا البخور يُحرَق في آنية تحوي جمرات مشتعلة، وهي المجمرة، وكانت صناعة هذه المجامر تعتمد على أساليب محلّية متعدّدة تتجلّى في صياغتها.

خرجت من جنوب الجزيرة العربية مجموعة كبيرة من المجامر، تشهد لأسلوب خاص تعدّدت فروعه على مرّ قرون طويلة من الزمن. ومن شرق هذه الجزيرة، خرجت مجموعة أخرى من المجامر تعكس أثر هذا التقليد، وأبرزها تلك التي تعود إلى قرية الفاو التابعة لمحافظة وادي الدواسر في منطقة الرياض.

تشكّل مجامر سمهرم فرعاً آخر من فروع هذا التقليد، كما تشهد تكويناتها ونقوشها المختلفة. يصعب تأريخ هذه المجامر، والأكيد أنها تعود إلى القرون التي شهدت ازدهار سمهرم واندثارها التدريجي، في الفترة الممتدة بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الخامس للميلاد.

تعتمد هذه القطع في أغلب الأحيان تكويناً مختزلاً يتألف من وعاء مكعّب يستقر فوق قاعدة مستطيلة. تزيّن هذه الأوعية المكعّبة نقوش يغلب عليها الطابع الهندسي، تمتدّ على مساحة قواعدها المستطيلة.

يظهر هذا التقليد بشكل جلي في 3 مجامر وصلت بشكل شبه كامل، تُعرَض اليوم في «متحف أرض اللبان» الذي شُيّد في متنزه البليد الأثري بمنطقة الحافة، في مدينة صلالة التابعة لمحافظة ظفار.

تتكوّن أصغر هذه المجامر من مكعب عريض يستند إلى قاعدة هرمية قصيرة. يزيّن واجهة هذا المكعّب نقش ناتئ يمثّل هرماً هو قاعدة لهلال يحتضن قرصاً دائرياً. يُعرف هذا العنصر التشكيلي بالزخرف الكوكبي، وهو من العناصر التي اعتُمدت بشكل واسع في جنوب شبه الجزيرة العربية منذ القرن الخامس قبل الميلاد، ودخلت نواحي أخرى من الجزيرة، كما يشهد كثير من القطع الأثرية التي خرجت من جزيرة الفاو. يُعد الهلال والقرص الدائري من الرموز الكوكبية، والأكيد أن هذه الرموز لم ترتبط حصرياً بمعبود واحد؛ إذ نجدها على مذابح ومجامر مهداة إلى كثير من المعبودين، منهم ودّ والمقه وشمس.

يحتلّ هذا الزخرف الكوكبي واجهة مجمرة أخرى من سمهرم يبلغ طولها 31 سنتيمتراً؛ حيث يحضن هلالاً آخر أصغر حجماً يستقرّ في وسط أعلى التأليف. في المقابل، تزين جنبَي مكعّب هذه المجمرة شبكة من النقوش المكعّبة المتوازية الناتئة، وتزين قاعدتها العمودية المستطيلة سلسلة من 4 أدراج أفقية متراصة ناتئة. تظهر هذه الشبكة من المكعبات المتوازية على مجمّرة طولها 36 سنتيمتراً، تستقرّ فوق قاعدة هرمية مجرّدة من أي زينة. تحتل هذه الشبكة الهندسية واجهة المجمّرة، وتتألف من 3 صفوف أفقية، يحوي كلّ منها سلسلة من المكعّبات الناتئة. يعلو هذه الصفوف شريط أفقي مجرد، وتحدّها في القسم الأسفل سلسلة من الأسنان تتدلّى منها كتل دائرية، في تأليف غير مألوف يهب هذه القطعة طابعاً محليّاً مميزاً.

يظهر الزخرف الكوكبي على مجمّرة أخرى من سمهرم يبلغ طولها 30 سنتيمتراً، وهي من القطع التي عُرضت في معرض خاص بميراث سلطنة عُمان، أقيم في مدينة ليون الفرنسية في خريف 2022، وحمل عنوان «رحلة في بلاد البخور». عُثر على هذه القطعة خلال عام 2008، ودخلت المتحف الوطني في مسقط، وهي مكوّنة من قاعدة هرمية تزيّنها مساحات عمودية ناتئة، ومكعّب عريض يحمل نقوشاً تصويرية حيوانية، تحضر هنا بشكل استثنائي.

يحتلّ الزخرف الكوكبي واجهة المكعّب وفقاً للتقليد السائد. يحضر الهلال فوق الهرم، ومن فوقه يستقرّ القرص الذي يرمز إلى الشمس أو إلى كوكب الزهرة. يظهر طير يفتح جناحيه العريضين على أحد طرفي المكعّب، ويبدو هذا الطير أشبه بالنسر. ويظهر حيوان ذو 4 قوائم في وضعية جانبية على الطرف المقابل، ويبدو هذا الحيوان أشبه بالفهد. في المقابل، تظهر شبكة مكعبات على الواجهة الخلفية، وهي على شكل تخطيط رقعة الشطرنج، حُدّد بخطوط غائرة بسيطة.

تمثّل هذه النماذج الأربعة النهج المتبع في صناعة المجامر الحجرية في هذه الناحية من جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية. يعكس هذا التقليد الأثر الكبير الذي تركه في جنوب شبه الجزيرة العربية، كما يعكس خصوصية محلية تظهر بوجه خاص في الأسلوب المختزل الذي ساد ما وصلنا من نتاج سمهرم في هذا الميدان.


مقالات ذات صلة

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

كتب كارل يونغ

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

ربما يكون كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961)، عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي، أحد أهم مفكري القرن العشرين الذين لا يزال تأثيرهم طاغياً على فهم الإنسان

ندى حطيط
ثقافة وفنون وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني

صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

كشفت أعمال التنقيب الأثرية في سلطنة عُمان عن مجموعة من الأوعية المعدنية تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون رواية أردنية عن صراع الإنسان مع الزمن

رواية أردنية عن صراع الإنسان مع الزمن

تقوم الفكرة الأساسية في رواية «لون آخر للغروب» للكاتبة الأردنية هيا صالح، حول صراع الإنسان مع الزمن، وهو الصراع الذي من أسبابه الأساسية مفهوم السّلطة

«الشرق الأوسط» (عمان)
ثقافة وفنون بيرسيفال إيفيريت

بيرسيفال إيفيريت يقلب رواية مارك توين

بيرسيفال إيفيريت لم يقلبْ مارك توين رأساً على عقب، كما يدَّعِي العنوان، الذي لعبت دوراً في صياغته الرغبة في أن يكون لافتاً وجاذباً،

د. مبارك الخالدي
ثقافة وفنون صافي ناز كاظم تمزج السيرة الذاتية بالنقد

صافي ناز كاظم تمزج السيرة الذاتية بالنقد

تتميز نصوص الكاتبة المصرية صافي ناز كاظم بمذاق خاص من الحيوية والصدق والحرارة ينبع من مزجها الدائم بين السيرة الذاتية والرؤى النقدية

رشا أحمد (القاهرة)

صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني
وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني
TT

صيد الأسود على وعاء معدني من سلطنة عُمان

وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني
وعاء جنائزي من محفوظات المتحف الوطني العُماني

كشفت أعمال التنقيب الأثرية في سلطنة عُمان عن مجموعة من الأوعية المعدنية المزينة بنقوش تصويرية تعود إلى المرحلة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد، منها وعاء عُرض ضمن معرض أقيم في ربيع 2023 بمتحف الفنون الجميلة في مدينة ليون الفرنسية، وحمل عنوان «رحلة إلى أرض اللبان». خرج هذا الوعاء المميز من مقبرة في ناحية من ولاية سمائل في محافظة الداخلية، تُعرف بناحية الباروني، وهو من القطع التي وصلت بشكل شبه كامل، وتزينه حلقة دائرية تصوّر فارساً يحمل رمحاً وسط ثلاثة أسود.

دخل هذا الوعاء المتحف الوطني العُماني في مسقط، وهو مصنوع من البرونز، على شكل زُبْدِيَّة يبلغ قطرها 16 سنتمتراً وعمقها 4.6 سنتمتر. يُزين وسط قاع هذه الزُبْدِيَّة نجم وردي يتكون من أربع شتلات بيضاوية مروّسة، تفصل بينها أربع شتلات دائرية. يستقر هذا النجم وسط إطار دائري تلتفّ من حوله أربعة حيوانات رباعية القوائم صُوّرت بشكل جانبي. يظهر صياد يعتلي دابة ضاع الجزء الأكبر من بدنها، غير أنها حافظت على رأسها، وهو على شكل حصان ظهرت ملامحه في وضعية جانبية بشكل كامل. يظهر هذا الصياد في وضعية مشابهة، ويبدو حليق الرأس، عاري الصدر، مرتدياً مئزراً بسيطاً يلتف حول حوضه وأعلى ساقيه.

نراه يمد ذراعه اليمنى إلى الأمام، ممسكاً بزمام حصانه، ويرفع يده اليسرى في حركة موازية، شاهراً رمحاً مسنوناً في اتجاه أسد ضخم يفتح شدقيه على اتساعهما، في مواجهة مباشرة مع الحصان. حدّد تكوين هذا الأسد بدقة تشهد لرهافة كبيرة في التنفيذ الحرفي. الجسم طويل، ومفاصله مجرّدة من التفاصيل، وأعضاؤه أربع قوائم مستقيمة، وذيل طويل وملتو، تعلو طرفه جمة بيضاوية.

تتكرّر صورة هذا الليث بشكل متطابق في الطرف المواجه، حيث تحضر بشكل معاكس، وبين الأسدين المتماثلين، يظهر حيوان ضاعت ملامحه بشكل شبه مبكر، وما تبقّى منها يُظهر أنّها تمثّل أسداً ثالثاً مشابهاً على الأرجح.

بين ظهر الفرس وظهر الأسد الذي يقف من خلفه، نرى ثعباناَ يلتوي عمودياً في الأفق. وفي الطرف المقابل، نرى ثعباناً مماثلاً يفصل بين الأسد المواجه للحصان والأسد الذي ضاعت صورته. يتبنّى هذان الثعبانان في تكوينهما طرازاً شاع خلال العصر الحديدي في نواحٍ عدة من شبه جزيرة عُمان، على مدى أكثر من ألف عام. وتشهد لهذا الشيوع عشرات الأفاعي المعدنية التي عُثر عليها في مقابر أثرية تتوزّع على مواقع تتبع في زمننا سلطنة عُمان ودولة الإمارات العربية.

في المقابل، يشكّل صيد الأسود الذي يزيّن هذا الوعاء مشهداً من المشاهد الحيوانية المتعدّدة التي تزيّن مجموعة من الأوعية المعدنية الجنائزية، كشفت عنها عمليات المسح والتنقيب المتواصلة في الكثير من المقابر الأثرية الخاصة بهذا الإقليم العُماني. تعود هذه الأوعية إلى المرحلة الممتدة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث للميلاد، كما تشير اللقى المختلفة التي عُثر عليها في هذه المقابر، وتتميّز بنقوشها التصويرية التي يغلب عليها الطابع الحيواني بشكل شبه دائم. تحضر هذه النقوش في سلسلة من المشاهد تتغيّر ملامحها بين وعاء وآخر، غير أنها تتبع قالباً جامعاً يشكّل أساساً لها. ويتمثّل هذا القالب الواحد في نجم وردي مجرّد، تحيط به حلقة دائرية تصويرية تتغيّر عناصرها الحيوانية وتتبدّل.

يشابه مشهد صيد الأسود على وعاء سمائل مشهداً آخر على كسور من وعاء برونزي من موقع مليحة في الشارقة

خرج وعاء سمائل من محافظة الداخلية، حيث يقع الوادي المعروف بوادي سمائل بين سلسلتين من جبال الحجر، أولاهما سلسلة جبال الحجر الغربي، وقمتها الجبل الأخضر، وثانيتهما سلسلة جبال الحجر الشرقي، وقمتها جبل سمان. ونقع على أربعة أوعية عُمانية مزينة بنقوش حيوان تختلف مكوناتها بشكل كلّي عن مكونات نقش وعاء سمائل، ومصدر هذه الأوعية موقع عملا في ولاية عبري التابعة لمحافظة الظاهرة، وتبدو هذه المحافظة أشبه بسهل ينحدر من السفوح الجنوبية لسلسلة جبال الحجر الغربي، في اتجاه صحراء الربع الخالي.

يشابه مشهد صيد الأسود الذي يزيّن وعاء سمائل مشهداً يحضر بشكل مجتزأ على كسور من وعاء برونزي مصدره موقع مليحة في إمارة الشارقة، وفيه يظهر أسد في وضعية جانبية بين صيادَين ينقضان عليه. يرفع أحد هذين الصيادَين درعه في وجه الطريدة الوحشية، بينما يغرز رفيقه خنجره في مؤخرتها. كذلك نجد على طبق آخر مصدره موقع الدور في أم القيوين مشهداً من هذا الصنف، وفيه يظهر فارس يُطلق سهماً في اتجاه أسد ينتصب من أمامه، وفارس آخر يرفع رمحه في اتجاه أسد آخر يقف في مواجهة حصانه.تشهد هذه القطع الفنية لتقليد فني خاص بهذا الإقليم العُماني، ظهرت شواهده في العقود الثلاثة الأخيرة، وينقسم هذا التقليد كما يبدو فروعاً عدّة يجمع بينها أساس واحد. يمثّل نقش زُبْدِيَّة سمائل فرعاً من هذه الفروع، ويختزل جماليته بشكل بديع، تشهد له حرفية عالية في النقش المتقن والمرهف.