فلسطين بين الإسباني خوان غويتيسولو والفرنسي جان جينيه

عُرفا بدفاعهما المستميت عنها كما لو أنها قضيتهما الشخصيّة

خوان غويتيسولو
خوان غويتيسولو
TT

فلسطين بين الإسباني خوان غويتيسولو والفرنسي جان جينيه

خوان غويتيسولو
خوان غويتيسولو

كاتبان ارتبطا بعلاقة حميمية وروحية بالعالم العربي، وبالمغرب تحديداً: الأول هو الفرنسي جان جينيه الذي أوصى بدفنه في مدينة العرائش بالشمال المغربي (توفي في الخامس عشر من أبريل/ نيسان1986)، والثاني هو الإسباني خوان غويتيسولو الذي أوصى هو أيضاً بدفنه في مدينة مراكش، عاصمة الجنوب المغربي التي كان يُقيم فيها منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي (تُوفي في الرابع من شهر يونيو/ حزيران 2017). وقد اشتهر هذا الكاتبان اللذان لا يزالان يحظيان بشهرة عالمية واسعة بتعاطفهما مع القضية الفلسطينية، وبدفاعهما المستميت عنها كما لو أنها قضيتهما الشخصيّة. وقد بدأت علاقة جان جينيه بالفلسطينيين انطلاقاً من أواخر الستينات من القرن الماضين، تحديداً بعد هزيمة حرب 67. ولم يكن صاحب «مذكرات لص» يكتفي بالتصريحات المؤيدة للقضية الفلسطينية، بل ظل يتردد على مخيمات اللاجئين ليعيش آلامهم وأوجاعهم عن قرب، وليقاسمهم الرغيف المر. ومن وحي ذلك كتب العديد من التحقيقات المؤثرة. دار «غاليمار» المرموقة طبعت روايته «الأسير العاشق» التي روى فيها فصولاً من حياته بين الفلسطينيين. ولم يختلف خوان غويتيسولو عن صديقه جان جينيه في تعاطفه مع الفلسطينيين. وفي ربيع عام 2002، كان ضمن وفد «البرلمان العالمي للكتاب» في الزيارة الشهيرة التي أداها هذا الوفد الذي كان يضم كلاً من البرتغالي جوزيه ساراماغو، والنيجيري فيل سوينكا وآخرين، إلى مدينة رام الله. وبعد وقوف الوفد على قبر الشاعر محمود درويش، كتب خوان غويتيسولو يقول: «الشاعر المحاصر من قبل جيش شارون في رام الله هو أحد كبار الشعراء العرب في القرن الحالي. ويعكس تاريخه الشخصي تاريخ شعبه، القرية التي ولد فيها في الجليل أزيلت من الخارطة في سنة 1948، وحين كان في السادسة من عمره كان يبحث مع أبناء أسرته عن مأوى في لبنان. ثم عاد إلى المناطق المحتلة، حيث التحق بالمدرسة الابتدائية ثم الثانوية، وسرعان ما قرر تكريس حياته للأدب والصحافة. وبعد أن اعتقل لأكثر من مرة على يد السلطات الإسرائيلية بسب نشاطاته الأدبية، غادر البلاد مرة أخرى في سنة 1970، حيث عاش في موسكو والقاهرة وبيروت وتونس وباريس».

جان جينيه

وقد بدأت علاقة الصداقة بين خوان غويتيسولو وجان جينيه في الخمسينات من القرن الماضي. ففي تلك الفترة، فر غويتيسولو من نظام الجنرال فرانكو، مُختاراً الإقامة في باريس، وهناك التقى بجان جينيه. وهو يقول إنه انجذب إلى صاحب «مذكرات لص» منذ أول لقاء معه. لذلك سوف يظل قريباً منه، وعلى تواصل دائم معه حتى وفاته في ربيع عام 1986 في فندق بسيط في الدائرة الثالثة عشر بباريس. كما يعترف أن جان جينيه حرّره من عقده الموروثة عن تقاليد عائلته الكاثوليكية المحافظة، وأتاح له التعمّق في اختبار نفسه، وتجاربه الخاصة بعيداً عن التيارات الأدبية والفكرية التي كانت تهيمن على المشهد الثقافي الفرنسي في النصف الثاني من القرن العشرين.

ومعلوم أن جان جينيه أحب العالم العربي منذ أن كان جندياً في الجيش الفرنسي في دمشق في الثلاثينات من القرن الماضي. وفي سيرته «مذكرات لص»، يروي أن المدينة التي كانت تفتنه أكثر من غيرها في سنوات شبابه عندما كان يعيش التشرد والجوع، هي طنجة. فلما حصل على الشهرة، بدأ يتردد على هذه المدينة ليرتبط بعلاقات مع بسطاء الناس في مختلف مدن المغرب، موصياً في النهاية بأن يدفن في العرائش. وفي السبعينات من القرن الماضي، أقام جان جينيه في مخيمات الفلسطينيين. ومن وحي ذلك كتب رائعته «الأسير العاشق» التي صدرت بعد وفاته، التي كانت وستظل من أفضل وأروع الشهادات الأدبية عن محنة الشعب الفلسطيني. وفي خريف عام 1982، وبعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت طار جان جينيه إلى لبنان بمساعدة ليلى شهيد التي كانت آنذاك ممثلة لمنظمة التحرير الفلسطينية في باريس، ليكون شاهداً على مجزرة صبرا وشاتيلا، وليدينها، من خلال نص بديع نشر بعد المجزرة المذكورة ببضعة أشهر.

وبسبب «الأسير العاشق»، ونص «صبرا وشاتيلا»، شنت وسائل الإعلام الإسرائيلي، واللوبيات اليهودية في الغرب، هجومات عنيفة على جينيه، متهمة إياه بـ«معاداة السامية». وفي كتاب بعنوان «إقامة قصيرة في القدس»، صدر في نهايات عام 2003، هاجم الفرنسي إيريك مارتي، جان جينيه، مُتهما إياه بـ«مساندة الإرهاب والإرهابيين»، ومعاداة «ديمقراطية إسرائيل»، الدولة «الأفضل والأكثر حرية» بالنسبة له في منطقة الشرق الأوسط. وقد بادر الراحل خوان غويتيسولو بالرد على إيريك مارتي بنص حمل عنوان: «جان جينيه والفلسطينيون». وفي هذا النص، كتب يقول: «أحدث لي كتاب (إقامة قصيرة في القدس)، نفس ما كان قد أحدثه لي المجلد الضخم لجان بول سارتر الذي حمل عنوان: (القديس جينيه، ممثلاً وشهيداً). فالكتابان سقطا من يدي قبل أن أكمل الثلاثين صفحة الأولى. وإصرار الكاتبين على (عقلنة) أعمال صاحب (مذكرات لص)، وتقليصها إلى سلسلة من الخلاصات المعدة سلفاً، وربطها بفلسفة هايدغر، وهيغل، وهوسرل، وكلّ هذا يبدو لي عملاً بلا جدوى، ولا نفع من ورائه. فكما لو أننا نسعى لالتقاط مياه البحر بواسطة الشباك. إن جوهر أعمال جان جينيه كما يعبّر عنه هو نفسه، يتملّصُ من القراءة الضيّقة والمُحْبطَة. وفي حالة إيريك مارتي هي قراءة مُشْبَعَة بالغضب المقدس الذي فجّره حسب ما أعتقد ردّ فعل الصحافة الفرنسية على (جولة) شارون في فناء المسجد الأقصى. تلك الجولة التي فجرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية (...) وقد استخرج إيريك مارتي من العالم الشعري لجان جينيه المُعَقد والمُتَضمن خليطاً غريباً، بعض الخلاصات والقاطعة: جان جينيه معاد للسامية، ويكره دولة إسرائيل، ويحلم بتدميرها! إلاّ أن الأمور ليست بمثل هذه البساطة، ولا بمثل هذا الوضوح. ففي مقالتي التي خصصتها لـ(الأسير العاشق)، والتي حملت عنوان: (جان جينيه والفلسطينيون: اللبس السياسي والتجذر الشعري)، كنت قد لخّصتُ المشاعر التي خلّفتْها في نفسي قراءتي لهذا الكتاب، والتي كانت، ويجدر بي التذكير بذلك، قراءة متحررة، من أيّ وازع سياسي أو أخلاقي أو فلسفي. إن هذا العمل الذي تركه لنا جينيه يحدثنا عن فشل الثورة الفلسطينية. فالجاذبيّة التي كان يشعر بها تجاه الفدائيين الفلسطينيين، الذين سوف يتمّ سحقهم في ما بعد، ليس من قبل إسرائيل، وإنما من قبل جيوش عربية، كانت بداية لطريق مزروع بالأشواك وبالمسالك المسدودة وبالقفزات إلى الخلف التي تفقد القارئ اتجاهه تماماً مثلما هو الحال في المتاهة الميثولوجية لجزيرة كريت، وتجعله يغضّ الطرف عن ما تبقى حقاً من الكتاب: تصفية الحساب مع حياته ذاتها (منذ أن كان طفلاً مُهْملاً ويتيماً وحتى رفضه لوطنه فرنسا)، واكتشافه لحرارة الأمومة من خلال العلاقة بين الفدائي الفلسطيني حمزة ووالدته». ويواصل خوان غويتوسولو مقاله قائلاً إن «(الأسير العاشق) ليس كتاباً يتحدث فقط عن الثورة الفلسطينية قبل الانتفاضتين، واتفاقيات أوسلو، وإنما هو كتاب يولي اهتماماً كبيراً لمسائل ولمواضيع أخرى. إنه قاموس للمعرفة فيه نحن نعثر على سمات أساسية للتاريخ البشري: تفكير صادم، ودائماً غريب حول الكتابة والذاكرة والمجتمع والسلطة والمغامرة والأسفار والتمرد والإيروسية والموت. وهو تفكير الشخصيات التي تظهر في العمل، وأيضاً في تفكير مؤلفه أثناء وضعه للمسات الأخيرة له».

في السبعينات من القرن الماضي أقام جان جينيه في مخيمات الفلسطينيين. ومن وحي ذلك كتب رائعته «الأسير العاشق»

ومناقشاً أفكار إيريك مارتي بشأن معاداة جان جينيه للسامية، كتب خوان غويتيسولو يقول: «لنعد للنواة الأساسية لأطروحة مارتي، أي إلى المسألة التالية: هل كان جان جينيه معادياً للسامية كما أكد على ذلك سارتر؟ وأنا أقول إنني سمعته يشتم بحدة، أو أحياناً بنوع من المداعبة، البورجوازيين البيض، والولايات المتحدة الأميركية، والشوفينية الفرنسية، وإسرائيل. لكنني لم أسمعه يشتم اليهود البتة». وقد ختم خوان غويتيسولو مقاله قائلاً: «خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، دافع جان جينيه عن مشروع دولة فلسطينية ملائكية. وهي نفس الدولة التي دعا لها ياسر عرفات، فيها يتعايش المسلمون والمسيحيون على قدم المساواة (وهذا يمكن أن يفترض ذوبان إسرائيل في محيطها العربي، ثم اختفاؤها كدولة). وقد كنّا من ضمن القلائل الذين آمنوا بقوة بهذا المشروع قبل أن ندرك أنه مشروع مستحيل التحقق. فالضغوطات التي يفرضها التاريخ والعقل ترسم في واقع الأمر حدود حقل الحلم، والسياسة لم تتوقف منذ أمد بعيد عن السباحة بينه وبين صلابة الواقع. إن السلام الذي سيقام في الشرق الأوسط لا بد أن يقوم على احترام الشرعية الدولية، وعلى اتفاق عادل ودائم بين الدولة الإسرائيلية والدولة الفلسطينية المُرْتَقَبَة. وقد عاش جان جينيه، ومات في زمن آخر. وكانت رؤيته الثورية المعقدة والمتناقضة تنتمي إلى مناخ ابتكاره الشعري. لهذا فإن قراءة أولية، وعلى ضوء مذهب فلسفي معيّن، تبدو عملاً خالياً من أي جدوى، ومن أي منفعة. وفي النهاية، هو عمل خارج عن الموضوع، ومحكوم عليه بالفشل الذريع».


مقالات ذات صلة

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

ثقافة وفنون ابن رشد

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

أعتقد أن محمد أركون كان يتماهى إلى حد ما مع ابن رشد، كان يجد نفسه فيه، بأي معنى؟

هاشم صالح
ثقافة وفنون «سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

«سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

لطالما اقترن الرقم «سبعة» بخصوصية سِحرية في مُخيلة سرديات البِحار، فحكايات السندباد البحري وأسفاره السبعة تُحيلنا إلى متاهات البحور التي لا تنقطع حبائل غرابتها

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية
TT

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً، كما عاشت شخوصه وأحداثه في ذاكرة الكاتب طويلاً تُلحُّ عليه أن يخرجها إلى النور. هو كتاب في حب البشر، خاصة أولئك المستثنين من حب بقية البشر. يبحث الرحيمي عن قاع المجتمع، فإذا ما وجده راح ينبش فيه عن قاع القاع. عن تلك الطبقة الدنيا التي ليس هناك ما هو أدنى منها. عن الطبقة التي أقصاها المجتمع عنه، حتى لم يعد يراها وإن رآها فلا يراها بشراً ولا يعدّها من جنسه، حتى نسيتْ هي أيضاً بشريتها. يلتقط الكاتب تلك الطبقة ويكتشف إنسانيتها ويكشف لنا عنها، يلتقط أفراداً منها، ويكشف لنا أنهم مثلنا تماماً وإنما طحنتهم قوى تاريخية ومجتمعية قاهرة حتى حجبت إنسانيتهم عمن حولهم، بل وعن ذواتهم. ينتشلهم الكاتب من قاع القاع ويغدق عليهم من فيض روحٍ مُحِبَّة للبشر ترفض أن تنسى من نسيهم المجتمع والتاريخ.

يكتب الرحيمي عن الريف المصري في شيء كثير من العاطفية والنوستالجيا. يكتب عن الريف الذي نشأ فيه قبل أن ينزح إلى المدينة ويكتب عن التحولات الهائلة التي ألمت به منذ الخمسينات من القرن العشرين إلى يومنا هذا. يكتب عما عاصره في نشأته ولكن أيضاً عما سمعه صغيراً من الأجيال الأسبق. يكتب عن بؤس الفلاح المصري في العصر الإقطاعي وخاصة عمّال «التملية»، المعروفين أيضاً بعمال التراحيل، والذين كتب عنهم يوسف إدريس في قصته الأشهر «الحرام» (1959)، وعن مجيء ثورة 1952 والإصلاح الزراعي الذي طال الكثيرين، لكنه أغفل «التملية» أو هم غفلوا عن الانتفاع منه لأنهم كانوا مسحوقين إلى حدٍ لا يمكنهم معه إدراك أن ثمة تغيرات كبرى تحدث في المجتمع وأنه يمكن لهم الانتفاع منها. يكتب أيضاً عن سائر التحولات التي جرت في الريف المصري بعد انتهاء الدور الإصلاحي لثورة 1952 والنكوص عن إنجازاتها المجتمعية في عصري السادات ومبارك، حتى لم يعد الريف ريفاً وتقلصت الزراعة واختفت المحاصيل ومواسمها التي من حولها نشأت تقاليد الريف المصري الحياتية وقيمه الأخلاقية التي دامت قروناً طويلة حتى اندثرت تدريجياً في العقود القليلة الماضية. يكتب على حد قوله «فيما جرى لبلدنا وقرانا».

يتجول الكتاب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة» في شرق الدلتا. تصبح القرية بؤرة لمصر كلها. تصبح رمزاً للثابت والمتحول، أو بالأحرى للثابت الذي تحوَّل إلى غير عودة بعد قرون وقرون من الثبات، ولا يساعدك النص أن تقرر ما إذا كان تَحَوَّلَ إلى الأفضل أو الأسوأ. فالأمران ممتزجان، وليس النص إلا محاولة لاسترجاع الأنماط الجميلة للحياة البشرية والبيئية التي ضاعت إلى الأبد ضمن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القاهرة التي تُصنع في العاصمة لتطال موجاتها العاتية قرى مصر ونجوعها في كل مكان من حيث لم تكن تحتسب.

ما نراه في هذا الكتاب هو نماذج عديدة لآلام التحول ولكن أيضاً لأفراحه. نماذج للعامّ حين يقتحم حياة الأفراد فيرفع من يرفع ويخفض من يخفض ويعيد تشكيل ما يُسمى بالمجتمع. يخبرنا التاريخ المعاصر بحرب اليمن الفاشلة ضمن مشروع القومية العربية التوسعي لجمال عبد الناصر في ستينات القرن الماضي، لكن هذا النص يشعرنا بمأساة مجندي القرية مثل «المسكين» وآلاف أمثاله الذين ذهبوا ولم يرجعوا ليحاربوا حرباً لا يفهمون لها سبباً في بلد لم يسمعوا به قبلاً. يحدثنا التاريخ الذي عاصرناه أيضاً عن تهجير أهل مدن القناة حماية لهم من القصف الإسرائيلي عبر قناة السويس عقب هزيمة 1967. لكن الكتاب الذي بين أيدينا في الفصل المعنون «المهاجرون» هو الذي يرينا مذلة أولئك المهاجرين (أو المُهجَّرين كما عُرفوا وقتها في تسمية أصحّ) لدى وصول بعضهم للعيش في قرية «الدراكسة» بعيداً عن الخطر. لكنه أيضاً هو الذي يرينا قدرة المهاجرين على التأقلم مع الظرف الجديد، ويرينا الروح المصرية الأصيلة وقت الأزمة حيث يكرم أهل القرية ضيوفهم طويلي المكث خير إكرام. لكنه فوق هذا وذاك يحكي لنا من واعية الطفل الذي كأنه الكاتب في ذلك الوقت عن الأثر التمديني العميق الذي مارسه هؤلاء الضيوف الآتون من مدينة بورسعيد الساحلية ذات التاريخ الكوزموبوليتاني على القرية النائية المعزولة عن الحضارة، فلم يتركوها بعد سنوات إلا وقد تغيرت عاداتها العريقة في المأكل والملبس والمشرب والسلوك الاجتماعي. هكذا تختلط المآسي والمنافع في الحياة كما في كثير مما يصوره الكتاب.

يصعُب تصنيف «طباطيب العبر». هل هو تسجيل لتاريخ شفهي؟ هل هو مجموعة تحقيقات صحافية متأدِّبة؟ هل هو دراسة أنثروبولوجية عفوية تخففت من المناهج والتقعر الأكاديمي؟ هل هو رصد واقعي أم خيال قصصي؟ هل فصوله وحدات منفصلة أم أن ثمة شيئاً يصهرها معاً في كلٍّ؟ الأرجح أن الكتاب فيه من كل هذه الصفات وأن مرونته السردية جاءت نتاجاً للعاطفة الاسترجاعية الكامنة وراءه والتي كان من الصعب أن تُصبَّ في قالب جامد أو تسلسل زمني، وكان لا بد أن تكتب في هيئة زخات شعورية متباعدة. مرونة السرد هذه هي نفسها التي تجعل الكتاب في بعض المواضع يلتحق برومانسية محمد حسين هيكل في روايته الشهيرة عن الريف المصري «زينب» (1912؟ 1914؟)، بينما في مواضع أخرى نراه يلتحق بواقعية «نائب في الأرياف» (1937) لتوفيق الحكيم وبالتصويرات الواقعية لكتّاب الريف الآخرين، أمثال عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف القعيد وغيرهما، وعلى الأخص يوسف إدريس الذي لا أشك أنه كان له أثر كبير أسلوبياً وفكرياً على الرحيمي.

على أنني لا أظن أني قرأت عن الريف المصري كتابة تغرق مثل هذا الإغراق في فنون المدرسة الطبيعية «الناتورالية» التي تجاوز تقنياتها تقنيات المدرسة الواقعية، فلا تترك تفصيلاً من تفاصيل البيئة إلا ذكرته ووصفته مهما بلغ من قذارة ومهما كان مقززاً ومهما كان خادشاً للحياء ومهما كان فاضحاً للنفس البشرية وللجسد البشري ومخرجاته. كل شيء هنا باسمه القح وقبحه الصادم ورائحته العطنة الفائحة وأصواته الناشزة (انظر على سبيل المثال لا الحصر الفصل المعنون «روائح القيظ القديمة»). هذه كتابة غير مُراقَبة، غير مهذبة ولا منمقة، لا تحاول أن تحمي القارئ ولا تراعي نعومته وترفه المديني أو الطبقي ولا يعنيها أن تمزق تغليفه السيلوفاني شر تمزيق. ذلك أنها كتابة تريد صدم الحس المُرفَّه وتحريك الضمير المٌخدَّر وتوليد الإحساس بالذنب لدى المجتمع الغافل عن أبنائه وعن الثمن الفادح الذي يدفعه جنود الريف المجهولون من أجل رفاهتهم. هي كتابة لريفي تمدَّن ولكن بقي على حبه وولائه للريف.

يتجول الكاتب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة»

غير أنني أيضاً لا أظنني قرأت منذ يوسف إدريس كتابة عن الريف المصري تتسم بهذا الفهم المُشرَّب بالعطف الإنساني. إلا أن ثمة فارقاً. كان إدريس يكتب عن ريف موجود فلم يكن في كتابته حنين، أما هنا فنحن أمام كتابة استرجاعية، كتابة عن ريف وناس وعادات وقيم ما زالت في الذاكرة لكنها لم تعد في الواقع المعاش، وربما من هنا تنبع الرغبة في اقتناصها في كتاب قبل أن تزول من الذاكرة أيضاً بغياب الجيل الذي عاصرها، وهذا ما يفعله أسامة الرحيمي الذي يصحب حواسَّنا الخمس في رحلة نلمس فيها أشجار الريف وحقوله ونشم روائحه، الطيب منها والخبيث، ونسمع أصوات بشره وحيوانه ونرى جماله وقبحه ونذوق طعومه، كما في فصل «أكل التوت» مثلاً وفي سائر الكتاب.

يكتب الرحيمي في لغة عذبة سلسة، لا يعنيها التأنق المصطنع لأن فيها رشاقة طبيعية تتنقل بك في خفة بين الفصحى والعامية، ومن لغة القرية إلى لغة المدينة، ومن لغة الطفل في لحظة الحدث إلى لغة الكاتب الناضج المتأمل لطفولة الماضي، ويحلّق بك عند الطلب من سهول النثر إلى مرتفعات الشعر.
في هذا الكتاب السهل الممتنع في أسلوبه، الثري في شخصياته وحكاياته، المتأمل في الريف وتحولاته، والملآن بالعطف على الإنسان وسائر الكائنات، على الترع والحقول والأشجار، تنضح الصفحات بالحزن على الحيوات التي ذهبت بدداً، والأجيال التي لم تجرؤ على الأمل. إن كانت أتراحها وآلامها - وأحياناً أفراحها - ما زالت تتردد في الفضاء، فهذا الكتاب قد التقط أصداءها.