ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

إعادة الاعتبار إلى فكره تساعدنا على مواجهة الظلاميين المتزمّتين

ابن رشد
ابن رشد
TT

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

ابن رشد
ابن رشد

أعتقد أن محمد أركون كان يتماهى إلى حد ما مع ابن رشد، كان يجد نفسه فيه، بأي معنى؟ بمعنى أنه كان يجد نفسه مستبعَداً ومنبوذاً من قِبل الجمهور الإسلامي العريض، مثل سلفه الأكبر أيام قرطبة والأندلس ومراكش، ولكن الفارق هو أن أركون أصبح مقبولاً الآن، ويحظى بالإعجاب والتقدير من قِبل الجمهور المثقَّف الذي يتزايد عدده أكثر فأكثر في العالم العربي والإسلامي كله. ومعلوم أن ابن رشد رُفض من قِبل التيار الإسلامي المركزي، وماتت كتبه في أرضها، هذا في حين أن أوروبا تلقَّفَتها بتلهّف، وترجمَتها، وبنَت عليها نهضتها المقبلة، وهنا يكمن الفرق بين الأذكياء والأغبياء، ولا ننسى ابن سينا بطبيعة الحال الذي كان تأثيره عظيماً على أوروبا، بل وسبق تأثير ابن رشد من حيث الزمن.

ولكن قوم ابن رشد من عرب ومسلمين رفضوه، ورفضوا إعجابه بأرسطو، ورفضوا الفلسفة كلها، بل وكفَّروها باعتبار أن «مَن تمنطق فقد تزندق»، كما كانوا يقولون. كانوا يظنون (وربما لا يزالون حتى الآن) أن الفلسفة تُبعِد عن الله والدين، وهذا سبب ازدرائها وتحريمها من قِبل الفقهاء على مدار التاريخ حتى وقت قريب. والسؤال الذي يطرحه أركون هو التالي: لماذا فشل فكر ابن رشد في العالم الإسلامي، ونجح نجاحاً باهراً في العالم المسيحي الأوروبي اللاتيني؟

للجواب عن هذا السؤال يقول لنا ما معناه: لقد سقط فكر ابن رشد في مهاوي النسيان وسط جماعته العربية الإسلامية منذ القرن الثالث عشر الميلادي، أي بعد وفاته عام 1198، هذا في حين أن الفلسفة الرشدية راحت تشهد إشعاعاً كبيراً في كل أنحاء أوروبا المسيحية، وكانت أطروحاته تُدرَّس في جامعات بادوا بإيطاليا، والسوربون في فرنسا، وأكسفورد في إنجلترا... إلخ.

محمد أركون

هكذا نلاحظ الوضع؛ فشل كامل من جهة، ونجاح دائم من جهة أخرى. ولهذا السبب يرى أركون أن المسلمين لم يساهموا في تشكيل الحداثة الفكرية والعلمية والفلسفية منذ القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، فقد تجاهل شيوخ السلطنة العثمانية، وشيوخ الإسلام عموماً، كل فتوحات غاليليو وديكارت وسبينوزا وفولتير وكانط وهيغل... إلخ، بل واحتقروها وازدرَوها وكأنها لم تكن، في حين أنها شكَّلت فتح الفتوح بالنسبة للروح البشرية، هنا يكمن جوهر الحداثة.

ولكن لماذا نلومهم على ذلك إذا كانوا قد تجاهلوا فكر ابن رشد ذاته وهو العربي المسلم؟ لماذا نلومهم إذا كانوا قد تجاهلوا فكر ابن سينا وكفَّروه منذ أيام الغزالي؟ وقُل الأمر ذاته عن الفارابي المعلِّم الثاني بعد أرسطو، وقل الأمر ذاته عن عبقري العباقرة شعراً ونثراً أبي العلاء المعرّي، هو الآخر كفَّروه وزندقوه ولعنوه، شيء مُخجِل ومُرعِب، ولكن هذه هي الحقيقة. هل نحن أمام شرق كسول وعقيم من جهة، وأمام غرب ديناميكي ناشط منفتح على الفلسفة والعلم من جهة أخرى؟ يحق لنا أن نطرح هذا السؤال: لماذا انقرضت الفلسفة في العالم العربي الإسلامي منذ القرن الثالث عشر، وانتعشت في العالم الأوروبي المسيحي؟

إننا دخلنا في عصور الانحطاط الطويلة بدءاً من القرن الثالث عشر وحتى القرن التاسع عشر، أي حتى عصر محمد علي الكبير وانطلاقة النهضة العربية على يد رفاعة رافع الطهطاوي، وكل ذلك الجيل النهضوي العظيم، بل ليس فقط الفلسفة هي التي انقرضت في العالم العربي، وإنما فكر المعتزلة أيضاً، ومعلوم أنهم كانوا يُشكِّلون التيار العقلاني في الإسلام في مواجهة الحنابلة، والأشاعرة، وتيار النقل والتقليد والانغلاق الديني اللاهوتي. هل نعلم أن ابن رشد كان يشتكي في عصره من عدم قدرته على التوصل إلى كتب المعتزلة وهو الأندلسي القرطبي؟ كان يبحث عنها في كل مكان دون أن يجدها، وذلك لأن التيار الظلامي كان يلاحقها ويمزِّقها ويحرقها، بل ويحرق أصحابها! هذه حقيقة. نحن شهدنا محاكم التفتيش قبل الأوروبيين بزمن طويل، وهي تفسِّر لنا سبب انحطاط العالم العربي على مدار القرون.

أركون يطرح هذا السؤال: لماذا دخلنا بدءاً من القرن الثالث عشر في عصور الانحطاط الظلامية الطويلة التي لم نخرج منها حتى الآن، بدليل ازدهار كل هذه الموجة الأصولية العارمة؟ ما هي هذه القوى الاجتماعية الانحطاطية التي جعلت حتى مفكراً كبيراً كابن خلدون يشتم الفلسفة ويغرق في التصوف، بل وحتى الانغلاق اللاهوتي والتعصب؟ نقول ذلك على الرغم من إبداعاته وكشوفاته العبقرية في مجال دراسة الاجتماع والعمران، وسبب نشوء الحضارات وصعودها ثم انهيارها. ثم يقول لنا أركون ما يلي:

لا ريب في أن الفقهاء مارسوا قمعاً آيديولوجياً ولاهوتياً كبيراً على جميع الناس في كل الغرب الإسلامي، أي في بلاد الأندلس والمغرب الكبير، وقد عانى ابن رشد ذاته من إرهابهم اللاهوتي في أواخر حياته كما هو معلوم، لقد عانى من تعصُّبهم وتزمُّتهم، ومحدودية أفُقهم، وعقلياتهم الضيقة، لقد هاجَموه دون حق؛ لأنه هو ذاته كان ينتمي إلى عائلة من كبار الفقهاء، لدرجة أن الناس يتحدَّثون عن ابن رشد الجد وابن رشد الحفيد، فجده كان أيضاً قاضي القضاة في قرطبة، وعالماً كبيراً في الدين، ومع ذلك لم ينجُ من شرِّهم، والمشكلة هي أن المثقفين العرب التجديديِّين لا يزالون يعانون من التزمُّت ذاته حتى في عصرنا الحالي، بل ويتعرَّضون للضرب والقتل والاغتيال، كما حصل لفرج فودة في مصر، أو لنجيب محفوظ، وكما حصل للدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق، وكما حصل للمثقف الأردني التنويري اللامع ناهض حتر... إلخ. القائمة طويلة، وإرهاب الحركات الإخوانية الظلامية يخيِّم على الجميع.

ثم يتحدث أركون عن فضل النزعة الإنسانية والحضارية العربية على الفكر الأوروبي، وهو يقصد بذلك فضل العصر الذهبي ومفكريه الكبار، كابن رشد وابن سينا والفارابي وابن باجه وابن الطفيل، وعشرات آخرين على المثقفين الفرنسيين في العصور الوسطى، فبعد أن ترجموا النصوص العربية الكبرى إلى اللغة اللاتينية انطلقت فعلاً الحركة النهضوية العقلانية الأوروبية. نقول ذلك في حين أن هذه النصوص كانت مجهولة من قِبل أصحابها خاصةً، أي العرب والمسلمين، بل وكانت محتقَرة ومُدانة لاهوتياً من قِبل الفقهاء المزمجِرين أسلاف الإخوان المسلمين الحاليين، ما أشبه الليلة بالبارحة!

لقد شرح لنا المفكر الفرنسي الكبير إيتيان جيلسون كيف استفاد أساتذة السوربون من التراث الفلسفي العربي الخصب والغني جداً، في ذلك الوقت ابتدأت أوروبا تخرج رويداً رويداً من ظلمات العصور الوسطى المسيحية، ولكي تخرج فإنها كانت بحاجة إلى دعم فلاسفة العرب والمسلمين، كنا وقتها أساتذة أوروبا، في حين أن مفكريها أصبحوا اليوم هم أساتذتنا، كان المثقف الفرنسي أو الإيطالي أو الإنجليزي يفتخر آنذاك بأنه يعرف ابن رشد أو ابن سينا أو الفارابي، مثلما نفتخر نحن اليوم بأننا نعرف ديكارت أو كانط أو هيغل، الحضارات دوَّارة، وكذلك العصور الذهبية، مَن سرَّه زمن ساءته أزمان.

أخيراً السؤال الجوهري الذي يطرحه أركون هو التالي: ماذا يفيدنا فكر ابن رشد اليوم؟ هل له راهنية حقاً أم عفّى عليه الزمن؟ وجوابه عن ذلك هو بالإيجاب طبعاً، فإعادة الاعتبار إلى فكر ابن رشد في العالم العربي تساعدنا على مواجهة الظلاميين المتزمِّتين من إخوان مسلمين وخُمينيين وسواهم، فقد خاض فيلسوف قرطبة معركة متواصلة ضد أسلافهم من فقهاء عصره المتزمِّتين، لقد خاض هذه المعركة على صعيد العلوم الدينية التي فسَّرها بشكل مختلف عن تفسيرهم الضيق المتعصب، وقد استخدم كفاءاته الفلسفية في هذا المجال أفضل استخدام، صحيح أنه لم يصل به الأمر إلى حد الخروج من السياج الدوغمائي اللاهوتي العقائدي المغلق على ذاته، وهو السياج أو الإطار العقائدي الذي ينحصر داخله جميع المؤمنين أو جميع المسلمين قاطبةً دون استثناء. لكن هذا الشيء ما كان ممكناً في عصره؛ لأنه كان محكوماً بسقف العصور الوسطى وما هو مستحيل التفكير فيه في تلك العصور، ولكنه عقلَن مفهوم الدين عن طريق دحض أطروحات الغزالي الواردة في كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة». لقد دحضها ليس فقط من خلال كتاب «تهافت التهافت»، وإنما أيضاً من خلال كتاب «مناهج الأدلة». أهم شيء قدَّمه لنا ابن رشد هو النص على مشروعية الفلسفة والفكر العقلاني في العالم العربي الإسلامي، ونفهم من كلامه أن الفلسفة لا تتعارض مع الدين، وإنما فقط مع المفهوم المتزمِّت والخاطئ للدين.

الفلسفة لا تتعارض مع الدين... وإنما فقط مع المفهوم المتزمّت والخاطئ للدين

لكن بعد كل هذا التمجيد لابن رشد فإن أركون يحذِّرنا قائلاً هذا الكلام الخطير: من ناحية أخرى، لقد أصبح فكر ابن رشد ذا قيمة تاريخية فقط، لقد أكل عليه الدهر وشرب، ينبغي ألا ننسى أنه تفصلنا عنه ثمانية قرون. ولكن هذا الكلام لا ينطبق عليه وحده فقط، وإنما ينطبق على كل فكر العصر الذهبي القديم، على الرغم من روعته وعظمته، لماذا؟ لأن كل فكر فلاسفتنا القدماء حصل تحت سقف العصور الوسطى، ونحن نعيش الآن تحت سقف العصور الحديثة، وشتان ما بينهما، ما كان مستحيلاً التفكير فيه في عصر ابن رشد أصبح ممكناً التفكير فيه بعد عصر ديكارت وسبينوزا وبقية فلاسفة الأنوار الذين تحرَّروا من هيمنة اللاهوت الديني كلياً.

يضاف إلى ذلك أن مرجعياتنا الفلسفية أصبحت لايبنتز وكانط وهيغل وماركس ونيتشه وفرويد، وحتى برغسون وهابرماس... إلخ، وبالتالي فلا ينبغي أن نبالغ ونهوِّل في قيمة ابن رشد، إنه لا يستطيع إنقاذنا، يُنقذنا فقط فكر الحداثة العلمية والفلسفية الذي تجاوز ابن رشد وسواه بسنوات ضوئية.

أخيراً يمكن القول بأن المعرِّي تجاوز ابن رشد، وتحرَّر من النطاق الديني اللاهوتي التكفيري المنغلق على ذاته أكثر منه بكثير، وذات الكلام يمكن أن يقال عن ابن سينا والفارابي. المعرّي طرح أسئلة تتجاوز سقف عصره، وترهص بالعصور الحداثية الحالية، ولم يكن ذلك فقط في «اللزوميات»، وإنما أيضاً في «رسالة الغفران» التي تُعدّ جوهرة الجواهر الأدبية والفكرية العربية، بحياته كلها لم يستطع الخيال الإبداعي العربي التوصل إلى هذا المستوى المذهل من الابتكار الخلّاق الذي استعصى على الجميع.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق مسلسل «مئة عام من العزلة» يعيد إحياء تحفة غابرييل غارسيا ماركيز الأدبيّة (نتفلكس - أ.ب)

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»
TT

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته، وشجاعته، وطارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجالا للبحث والاهتمام.

يعيدنا وزير خارجية ليبيا السابق، في روايته الجديدة «القائد العاشق المقاتل»، الصادرة عن «دار الرواد للنشر والتوزيع» إلى فترة تاريخية، كان لا يزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة المعارك، وللشهامة قيمة أخلاقية. تحكي الرواية سيرة مقاتل ليست ككل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ بالمزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف المعرفة.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته المتوثبة والكاريزما التي تمتع بها، وحبه للثقافات، أصبح صديقاً للعرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس لمجالسهم. وحين أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسياً نشطاً، وسائحاً هائماً.

«القائد الشيطان»

تقول الرواية: «عشق أميديو السلاح كما عشق المرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد المقدام الذي تقترن بطولاته بغرام دائم، وعشق لا ينقطع. ويتنقل القارئ بين الأحداث السياسية وشراسة الأطماع الاستعمارية، وحكايات أميديو مع عشيقاته اللواتي شغلن الجزء الذي لم تملأه الحروب من يومياته.

«القائد الشيطان»، هذا هو لقبه، الذي استحقه عن جدارة. فبعد أن خاض أميديو الحرب الأهليّة الإسبانيّة إلى جانب قوات الملكيّين قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيين، وحارب المقاومة الليبية، عاش قصة حب حارقة مع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علاجه في مستشفى في طرابلس، من إصابة تعرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لريزا بـ«قوامها الممشوق ووجهها الأبيض الوضاء وعينيها الواسعتين وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تهديد النازيين لها ولعائلتها ولملتها، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القوانين العنصرية التي فرقت بينهما.

الحبيبة ريزا

ريزا هي كما غيرها من اليهود الذين «اضطروا إلى الهرب خارج العاصمة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأماكن إقامتهم». لكن مهمة الضابط المغامر الذي يمتطي صهوة جواده، ويتقدم الفرسان، ويهاجم كما لو أنه نسي الموت، لا تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريتريا، حيث يطور هناك أساليبه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حين يعيش قصة حب جديدة مع خديجة الإثيوبية، التي «بثت فيه عشقاً لم يعرفه أبداً». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الجمال الخمري التي تحفظ الشعر العربي، تتسلل إلى خيمته كل ليلة، تجالسه، تحادثه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة المحاربين. يصف الكاتب خديجة «الطويلة الرشيقة، بلباسها الملون، وعطرها الفواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نسي حبيبته الطرابلسية ريزا، التي صارت إلى المجهول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته الإيطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجه القديم منها، فقد طوتها عيون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها».

خديجة تشد أزره

على هذا النحو الآسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من اضطرابات، وتوترات وقلق، مع العقيد الذي يخوض غمار معاركه، مستعيناً على ذلك بنساء كنّ له الظهر والسند. غير أن خديجة هذه بقيت شيئاً آخر. و«لأول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى الأبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب».

جاءته الأوامر من روما أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوساً منه. جهزت له خديجة فرساناً أشداء، وقالت له: «قاتل ولا تستسلم يا حبيبي، لقد خلقك الله لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة».

بين جبهات الحروب الشرسة، وجبهات الحب العاصفة، ينقلنا الكاتب، وهو يبدع في رسم علاقة أميديو مع عشيقاته، وتوصيف علاقته مع كل منهن، وكأن كل واحدة أنارت له جانباً مختلفاً من شخصيته، وأضافت لفضوله معارف جديدة، وفتحت أبواباً للضوء. فقد كان أميديو يتمتع بشخصية مغامرة وجذابة، مما جعله محبوباً بين النساء. يقول لخديجة وقد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على الاستمرار في محاربة البريطانيين. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلاثين نفراً، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب».

المرحلة اليمنية

ولما كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تمرده على الأوامر، والوضع المتأزم هناك، يمم وجهه صوب اليمن، وقد صار اسمه أحمد عبد الله الرضائي. وصل إلى ميناء الحديدة، بعد مغامرات كادت تودي به وبرفيق الرحلة. طلب اللجوء السياسي، شك اليمنيون في أمره، وأخضعوه شهراً للسجن والاستجواب. محادثاته المتناسلة مع سجانيه وصلت إلى قصر إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلاقة الوطيدة سريعة مع الإمام وسيكلفه تدريب كتائب جيشه وشرطته.

المرحلة اليمنية من حياة أميديو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة الاجتماعية، والأجواء السياسية في تلك المرحلة، في هذه المنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر المقوس وسط حزامه. جلسة مع خلان سيتعرف عليهم، يخزنون القات معاً، ويسهرون الليالي في مطارحات شعرية إلى أن يدركهم الصباح، ويخرجون ليروا مباني المدينة الشاهقة المزخرفة بألوان، تضيف الانشراح إلى الأرواح». وفي اليمن أيضاً سيلتقي بياتريس.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية

صفحة حب جديدة

بياتريس الحبيبة الجديدة. هذه المرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلة البزق وتهرّب الأسلحة، حين يلزم الأمر. امرأة جذابة يلفها الغموض «عندها عصارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مثقفة ودارسة متبحرة في عالم النفس، ولها القدرة على قراءة ما في فناجين الرؤوس».

لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح بالإمام، ويحلّ الجدري، وينفضّ الجمع، ولا يبقى لـ«القائد الشيطان» سوى الهرب.

بأسلوبه الرشيق والمشوق، يقصّ شلقم من خلال روايته، حكاية هذا القائد الإيطالي الذي تحول إلى أسطورة، وشبهه البعض بلورانس العرب، لتشابه بين سيرتيهما، مستفيداً من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفاً إليها حبكته ونكهته المستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مرات عدة في النص. وقد عاش أميديو من العمر قرناً كاملاً وسنة، تمكن خلالها من الانتقال إلى حياة دبلوماسية، لا تقل أهمية عن حياته العسكرية. عين سفيراً لدى عدد من الدول العربية بينها الأردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعين الرجل سفيراً لدى المغرب، ويكتب له أن يشهد حادثة انقلاب الصخيرات الشهيرة، التي نقرأ تفاصيلها في الرواية كما عاشها أميديو، وكأننا في قلب الحدث.

التاريخ يعيد نفسه

مفاصل تاريخية كثيرة، عن فترة مفصلية من عمر العرب، والتدخلات الأجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشياً، في ما يطغى حضورهم الاجتماعي في الرواية، كل ذلك مشدود إلى أوتار عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، تلهم القائد المقدام.

وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مع أميديو، وقد استقر به الحال أخيراً متقاعداً يستعيد ذكرياته ويتأمل مشواره بهدوء ودعة. وتشاء الظروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعداء الأمس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات والاعترافات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثاً، أو كأنهم كانوا جزءاً من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها.

الرواية تعيدني ثمانين سنة إلى الوراء، ولعالم غير الذي نعيشه اليوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها لا تزال هي نفسها، والمآلات تبدو متشابهة وتستحق المقارنة والعبرة والتأمل.