«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

بين 2011 و 2024 اعتقل أكثر من 156 ألف شخص وعُذب نحو 15 ألفاً

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ
TT

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث». رفضاً للتجاهُل وتغليب السكوت، تُصدر دار «رياض الريس للكتب والنشر»، من بيروت، كتاب «معتقلون ومغيّبون» في القضية السورية، بيقين أنّ «الفنّ يوثّق والأرشيف يتحدّث»، كما أعلن غلافه الأحمر بتسجيله هذا الموقف.

انطلق الكتاب من واقع اعتمال مسألة الاعتقال والتغييب في وجدان عموم السوريين، وتحوّلها لتكون «من المشتركات الوحيدة تقريباً بينهم اليوم». تؤكد إنسانية الملف، وبُعداه السياسي والحقوقي، أهمية الكتاب، ليُكمل ما أرسته الملاحقات والدعاوى والأحكام القضائية في بلدان اللجوء، وتحديداً أوروبا، ضدّ مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.

يعود الكتاب إلى ما وثّقته «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» التي تؤكد «بلوغ حصيلة الاعتقال التعسفي في سوريا منذ مارس (آذار) 2011 حتى مارس 2024 ما لا يقلّ على 156757 شخصاً، فيما بلغت حصيلة الضحايا بسبب التعذيب خلال المدّة عينها ما لا يقلّ على 15393 شخصاً. أما حصيلة الاختفاء القسري حتى 30 أغسطس (آب) 2023، فبلغت ما لا يقلّ على 112713 شخصاً؛ بشكل أساسي على يد النظام، تليه جميع قوى الأمر الواقع المسيطِرة».

هو لا يدّعي النقد الفنّي ولا البحث التحليلي، وفق مقدّمته. «إنما الكتابة التوثيقية والراصدة، تُسهم في بناء المعرفة عن واقعنا السوري، وتبحث وتُنقّب وتجمع وتؤرشف، وتربط الأحداث والأفعال». فترصد الصفحات الـ474 ثيمة الاعتقال والتغييب منذ عام 2011 حتى نهاية 2020، استناداً إلى ما شهده مجالا الفنّ والثقافة؛ وذلك على مستويين: الأول يرصد بشكل مباشر مبدعين اعتُقلوا أو خُطفوا أو قُتلوا ضريبةَ موقفهم المُعارِض من النظام، المُعبَّر عنه في أعمالهم الفنّية أو أنشطتهم الفعلية خارج الفنّ؛ وهو ما دَرَج بكثافة في سنوات الثورة السورية الأولى، ليرصد المستوى الثاني - عبر الأعمال الإبداعية المختلفة - مَن اعتُقل أو غُيِّب من المواطنين والمواطنات بُعيد الانخراط في الشأن العام والعمل المُعارِض.

طوال السنوات العشر الماضية، تتبَّع فريق «ذاكرة إبداعية» هذه الثيمة، مُحدِّداً الاعتقال الأول بأطفال درعا الذي شكَّل شرارة انطلاق الثورة السورية، مروراً بالتطوّرات والتحوّلات في مسألة الاعتقال والتغييب، سارداً تفاصيل الأحداث اللاحقة والمتوالدة من إضرابات وعصيان في السجون، وحملات وتحرّكات ومبادرات في الداخل السوري ودول اللجوء، وصولاً إلى جهود تدويل هذه القضية سعياً نحو العدالة، والتجاذبات السياسية حولها، والمحاكمات الدولية. ذلك وسط تأكيد الموثّقين على «الموضوعية والحيادية، بغرض تثبيت الأحداث وحفظها من الضياع».

يتناول كل فصل من الفصول العشرة التي تؤلّف الكتاب، سردية عام كامل؛ فيبدأ بمقدمة تُلخّص المعطيات والأحداث المفصلية خلال السنة، يليها عرض مفصَّل لِما توصّل إليه الباحثون من «انتهاكات النظام وكل قوى الأمر الواقع، والأحداث التابعة لها والناتجة عنها، وفق المكان والزمان، استناداً إلى مئات المصادر في كل فصل، وما تبع ذلك من تحرّكات داخلية وخارجية، شعبية أو فردية أو جماعية، وحملات في وسائل التواصل».

وبفعل البحث، اكتُشفت مئات الأعمال الفنية والثقافية، المرتبطة بالثيمة المُعالَجة بمختلف أنواعها، وجُمعت، ثم وُثِّقت تباعاً؛ لترصد خاتمة الكتاب امتداد الأحداث الرئيسية المتتابعة المتعلّقة بالاعتقال والتغييب، التي حصلت بعد عام 2020 حتى تاريخ الانتهاء من إعداده.

يضيف عرض الأعمال الفنية والإبداعية والثقافية، إلى جنس الكتاب التوثيقي، بُعداً بصرياً. فاللافتات، والغرافيتي، ولوحات الفنّ التشكيلي... المُحاكية للإشكالية، يَسْهُل تصفّحها بواسطة وسوم وفلاتر متنوّعة، مثل: أصناف، أصحاب أعمال، مناطق جغرافية، تواريخ، وسوم عامة ووسوم خاصة؛ إذ وُضعت لهذه الأعمال، بأغلبيتها، السياقات المرتبطة بها. أما دليل مشروع «معتقلون ومغيّبون»، فيحسبه الكتاب «الأول من نوعه الذي يجمع في مكان واحد جميع أنواع المبادرات المتخصِّصة أو التي تُولي موضوع الاعتقال والتغييب اهتماماً فريداً». ويتابع أنه «يحوي توثيقاً كبيراً للمبادرات، بلغت 155 مبادرة موزَّعة في تصنيفات متعدّدة، مثل: مراصد حقوقية دولية، ومراصد محلية وإقليمية، ومنظمات وجهات، ومجموعات، وحمَلات مُناصرَة ومبادرات فردية، ووسائل تواصل اجتماعي»، مع التأكيد على دور هذا الدليل في فهم طبيعة عمل المبادرات والأنشطة والفئات المُستهدَفة.

من الصعوبات والتحدّيات، وُلد الإصدار. فالكتاب يشير إلى شقاء تلك الولادة، لتضارُب تواريخ الاعتقال أحياناً، وتواريخ تخلية سبيل المعتقلين، وتواريخ تنظيم الحملات والمبادرات. ثم يتوقّف عند «تباين المصادر الحقوقية لدى تناول حدث بعينه واختلافها، بشأن أعداد المعتقلين والمختفين قسراً والشهداء تحت التعذيب». ويُكمل عدَّ صعوبات المسار: «صعوبات مُرهقة تتعلّق بروابط بعض المصادر، لاختفاء بعضها في أثناء العمل أو بعده لأسباب خارجة على إرادتنا؛ ما فرض البحث عن مصادر بديلة، وإضافة أخرى جديدة لدى مراجعة الدراسة وتدقيقها»، من دون استثناء تحدّي شحّ المعلومات والمصادر عن حدث، والتحدّي المعاكس ممثَّلاً بغزارة المصادر والمراجع والمقالات المتعلّقة بأحداث أخرى.

كثيراً ما تساقط دمعٌ خلال البحث والكتابة، وغدر النوم بالباحثين أمام هول الاعتقال والتغييب. ولأنّ كثيرين فقدوا قريباً، أو صديقاً، أو جاراً، أو حبيباً، شاؤوا الاعتراض على «وحشية الظلم»، مدركين أنّ «طريق العدالة الطويلة بدأت، ولو خطوة خطوة».


مقالات ذات صلة

غضب وطني في بريطانيا بعد بيع أرشيف جورج أورويل بالقطعة

ثقافة وفنون جورج أورويل

غضب وطني في بريطانيا بعد بيع أرشيف جورج أورويل بالقطعة

بـ10 آلاف جنيه إسترليني يمكن شراء رسالة كتبها بخط اليد، مؤلف رواية «1984» إريك بلير (1903 – 1950)، الشهير بالاسم الأدبي جورج أورويل.

ندى حطيط (لندن)
ثقافة وفنون «مريم ونيرمين».. الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء

«مريم ونيرمين».. الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء

عن دار «الشروق» بالقاهرة، صدرت رواية «مريم ونيرمين» للكاتب عمرو العادلي، التي تعزف في قضيتها الكبرى على وتر الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء عبر لغة بسيطة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «توسيع دائرة الشكوكيين» لخالد الغنامي

«توسيع دائرة الشكوكيين» لخالد الغنامي

صدر للباحث خالد الغنامي كتاب جديد بعنوان «توسيع دائرة الشكوكيين»، وحسب المؤلف، فإن الداعي لهذه الدراسة في أول الأمر قبل توسع البحث هو خطأ يتكرر في الدرس الفلسفي

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

ثمة بحر من الكتب المرجعيّة عن تاريخ النّازية والنّازيين ودورهم في الحرب العالمية الثانية، كما دراسات كثيرة عن أدولف هتلر، وسير ذاتية لمعظم قادة ألمانيا النازية

ندى حطيط
كتب جديد «الفيصل»: السعودية تحتفي بعام الإبل.. في الثقافات

جديد «الفيصل»: السعودية تحتفي بعام الإبل.. في الثقافات

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة. وكرست المجلة ملف العدد لتقصي صورة الإبل في الثقافات، يأتي ذلك بمناسبة احتفاء السعودية بعام الإبل 2024.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

بندول بنعبدالعالي!

عبد الفتاح كيليطو
عبد الفتاح كيليطو
TT

بندول بنعبدالعالي!

عبد الفتاح كيليطو
عبد الفتاح كيليطو

بنعبدالعالي يقومُ بتفكيكِ المفاهيمِ الفلسفيةِ والنفاذِ إلى لُبِّها، من دون أن يدّعيَ أنَّه فيلسوفٌ، فهو ليس لديه ثقافةٌ كلاسيكيةٌ حسب قوله يقول الناقدُ المغربيُّ عبد الفتّاح كيليطو في أحد استجواباتهِ الصحافية إنه لم يرَ نفسَهُ جديراً بالخوضِ في الأدبِ الفرنسي. وهكذا حين ناقشَ، في إطارِ شهادةِ الدراساتِ العليا، رسالتَهُ عن رواياتِ فرنسوا مورياك، سنحتْ لهُ فرصةٌ ثمينةٌ لنشرِها، لكنه رفضَ لأنها بدتْ لهُ ضعيفةً جدّاً مقارنةً بكتبِ النقدِ التي كان قد اطّلعَ عليها في ذلك الوقت (رولان بارت، شارل مورون...). بعد مدةٍ من الترددِ قامَ بتسجيلِ «المقامات» موضوعاً للدكتوراه.

بنعبدالعالي

ومن المعلومِ أن مقاماتِ الهمذانيِّ والحريريِّ تُعدُّ من نماذجِ النثرِ الفنّي، الذي اشتغلَ عليهِ «الدكاترة» زكي مبارك في منتصفِ الثلاثينات من القرن المنصرم، في أطروحتهِ «النثرِ الفني في القرنِ الرابع الهجري» في جامعةِ السوربون تحتَ إشرافِ المسيو ميرسيه. وقد اختلفَ تلميذُهُ الحادُّ الطبعِ والنبرةِ مع أستاذهِ المتمركزِ أوروبياً حولَ نشأةِ النثرِ عند العربِ، دونَ أن ينصاعَ لأمرهِ الأكاديميِّ بحذفِ ما كتبَهُ مبارك حولَ هذه النشأةِ، رغمَ نصيحةِ بعضِ الأساتذةِ الفرنسيين المستشرقين، وفي طليعتهم ماسينيون. ومع ذلك فقد رضخَ الأستاذُ لرغبةِ الطالبِ الحادة!.. لقد أخبرَهُ ماسينيون بعدَ الانتهاءِ من حصولهِ على الدكتوراه بأن «ميرسيه لا يحبُّك لكنه لا ينساك».

وقد ترجمَ الدكتور مبارك أطروحتهُ بنفسهِ إلى اللغةِ العربية. مبارك لم يكن بعيداً عن قضيةِ الفلسفةِ في أطروحتَيه الأخريين «الأخلاق عند الغزالي» و«التصوف الإسلامي».

طه حسين

يبدو أن كيليطو عاشقٌ للسانينِ، كما يكتبُ عنهُ صديقهُ عبد السلام بنعبدالعالي في كتابهِ الأخير بعدَ كتابهِ الأولِ «الأدب والميتافيزيقيا» باللغتين العربيةِ والفرنسيةِ، وكأنه بمخاطبتهِ العربَ والفرنسيينَ أسواريٌّ جديد! نعم، يبدو كيليطو هو الآخرُ يحاولُ التخلّصَ من تأثيرِ المركزيةِ الأوروبيةِ، وقد اشتغلَ - خصوصاً في أحدِ مؤلفاتِه الأولى (الكتابةُ والتناسخ) الذي ترجمَهُ بنعبدالعالي من الفرنسيةِ إلى العربيةِ - على إعادةِ قراءةٍ نقديةٍ مبدعةٍ لنصوصٍ تراثيةٍ، مستلهماً رولان بارت في أطروحتِه عن «موت المؤلف»، حيثُ ركّزَ فيها كيليطو على الجاحظِ، الذي قدّمَ في أدبِهِ الموسوعيِّ شارل بيلا كتاباً رائعاً، بدّدَ سأمَهُ من دراسةِ الأدبِ العربي. وهذا ما فتحَ عينَ كيليطو على براعةِ الجاحظِ، ومنها ما ذكره الجاحظُ في كتابِهِ «البيانِ والتبيين» عن موسى سيار الأسواري الذي «كان من أعاجيبِ الدنيا، كانت فصاحتُهُ بالفارسيةِ في وزنِ فصاحتِهِ بالعربية، وكان يجلسُ في مجلسِهِ المشهورِ به، فتقعدُ العربُ عن يمينِهِ، والفرسُ عن يسارِهِ، فيقرأُ الآيةَ من كتابِ الله، ويفسّرُها للعربِ بالعربيةِ، ثم (يحوّل) وجههُ إلى الفرسِ، فيفسّرُها لهم بالفارسية. فلا يدري بأي لسانٍ هو أفصح».

محمد عابد الجابري

لكن هل هذا هو شأنُ عبد الفتّاح كيليطو وهو يُطلُّ على القراء العرب - بعدما تَكَوَّن في تعليمه المزدوج - متعوداً ألا يقرأَ إلا النصوصَ التي كُتِبَت بالفرنسية أو بالفصحى - قارئاً ومدوّناً - مستمتعاً بلذةٍ «بارتيةٍ» في قراءةِ النصوص الأدبية؟ هذا اللسانُ المفلوقُ - كما يُعبر كيليطو - هو بصورةٍ أخرى ما أصبح عليه دارسُ الفلسفةِ العربيةِ الإسلاميةِ القديمةِ والفرنسيةِ المعاصرة. صديقُهُ د. عبدُ السلامِ بنعبدالعالي أستاذُ الفلسفةِ بجامعةِ الملكِ محمد الخامس، متتلمذاً على يدي محمد عزيز الحبابي ومحمد عابد الجابري. ما زلتُ أتذكر لقائي ببنعبدالعالي في صيفِ الرباطِ سنة 1993 - بعد يومينِ من وفاةِ الحبابي - حيث عرفني على زميليهِ الراحلينِ سالم يفوت ومحمد وقيدي، وكذلك من أصبحَ يكتبُ معه «بيدينِ» محمد سبيلا، وقد أصبحَ بنعبدالعالي اليومَ ملءَ السمعِ والبصر، اسماً لامعاً وألمعياً في فضاءِ التأليفِ الفلسفيِّ وترجمتِه. محاولاً النزولَ بالفلسفةِ من عليائها المطلقِ وتجريداتِها الذهنيةِ، إلى أرضِ الواقعِ المغربيِّ والعربيِّ الملتبس - لا أريدُ هنا مشابهتَهُ بأستاذِ الفلسفةِ المصريِّ مراد وهبة، في أطروحتهِ ومؤتمرِه عن الفلسفةِ ورجلِ الشارعِ في القاهرةِ سنةَ 1983... خشيةَ إعادةِ سجالِ المشرقِ والمغربِ جذعة! بعد أطروحةِ أستاذهِ الجابري، في برهانيةِ المغربِ الرشديةِ وعرفانيةِ المشرقِ السينية، التي جاءت إليهِ عبرَ ابنِ عربي الأندلسيِّ من المغرب! حيث لا يزالُ من تلامذةِ الجابري من يذهبُ إلى أن حفريةَ المعنى مخصوصةٌ بمتفلسفي المغربِ، والتاريخُ للأفكارِ في شكلِ العلاقةِ بين العربيِّ والفلسفةِ محدودٌ بمتفلسفي المشرق!

على أيِّ حالٍ فإن د. بنعبدالعالي يقومُ بتفكيكِ المفاهيمِ الفلسفيةِ والنفاذِ إلى لُبِّها، دون أن يدّعيَ أنَّه فيلسوفٌ، فهو ليس لديه ثقافةٌ كلاسيكيةٌ - حسب قوله - فلم يسبق له - غالباً - أن تبنَّى أيَّ أطروحةٍ، ما دامَ لا يشعرُ بامتلاكِه القدرةَ على صياغةِ عملٍ مرتبٍ (أكاديمياً)، وإنما هو يستلهمُ المفاهيمَ سواءً من دولوز أو غيرِه من فلاسفةِ فرنسا وألمانيا. فالمفهومُ الفلسفيُّ بالنسبةِ إليهِ آليةٌ لإعمالِ الفكرِ في اللامفكَّر فيه، متفاعلاً مع متغيراتِ الحياةِ وفوائضِ المعرفة - في جملةٍ من كتبِه (المقالية) العديدة ذات الصفحاتِ القليلةِ المكثفةِ الرشيقة - تأليفاً وترجمةً - نائياً بكتاباتهِ المثيرةِ للأسئلةِ عن مطولاتِ باحثي الفلسفةِ ومنظريها المشارقةِ والمغاربة. بل إنَّهُ يثورُ على نَسَقهِ الجينيالوجيِّ من آبائهِ (الحبابي والعروي والجابري)، وإن كان يبدو أقربَ إلى مؤلفِ «النقد المزدوج» و«الاسم العربي الجريح» تلميذِ رولان بارت عبدِ الكبيرِ الخطيبي بـ«ذاكرتهِ الموشومة»، مستخلصاً - بنعبدالعالي بجرحهِ وتعديلِه - من تجربةِ الخطيبي في النقدِ الأدبيِّ المتفلسفِ والكتابةِ الاجتماعيةِ والتاريخيةِ، ما جعلهُ يتماهى معه ويختلفُ معهُ في آن.

محمد رضا نصر الله

وإذ يشتغلُ بنعبدالعالي بعالمِ الفلسفةِ وكونيةِ الأدبِ والترجمةِ بتاريخِها المثقلِ بترجمةِ النصوصِ متعدّدةِ اللغاتِ، يقوم بمحو فعل الترجمة، نصّاً لا تشتم فيه رائحة اللغة الأخرى، بوصف الترجمة عملاً تراكمياً منعشاً... أو كما يُعبرُ كيليطو في مقدمتهِ المنبهرةِ بكتابِ صديقهِ «انتعاشةِ اللغة»، فلأنَّ تاريخَ الفلسفةِ هو في العمقِ تاريخُ الترجمة، كما هو ابنُ رشدٍ في ترجمتِه أرسطو، معتمداً على ما قامَ بهِ السريانُ العربُ المسيحيونَ من قبل، في ترجمةِ كتبِ أرسطو، خاصةً كتابيهِ «فن الشعر» و«فن الخطابة»، بوصفِهِما كتابينِ في المنطق. إذ عكف السريانُ على نقلِها لاستخدامها في مجادلاتِهم الدينية، التي «انتعشت» على أفكارهما، فقامَ تراجمتُهم وفي طليعتهم متى بن يونس، بترجمةِ كتاب «فن الشعر» لأرسطوطاليس، الذي شكّكَ أبو سعيد السيرافي في مناظرتهما أمام الخليفةِ المقتدر، بأنَّ متى لا يُحسنُ الترجمةَ من اليونانيةِ، رغم وجودِ رواياتٍ عن ترنُّمِ متى (منتعشاً) بأشعارِ هوميروس بأصلها اليوناني. وبسببِ تسلُّلِ المنطقِ الأرسطيِّ إلى بغدادَ العباسيةِ في ذروةِ انفتاحِها الفكري، وجدنا أبا نصر الفارابي - لبنعبدالعالي أطروحةٌ لافتةٌ في فلسفتهِ السياسيةِ المدنية - يهتمُّ بالفكرِ اليونانيِّ ويؤلفُ عن «فلسفةِ أرسطوطاليس» و«الجمعِ بين الحكيمين» أي أفلاطونَ وأرسطو، وهما كتابانِ عُني بهما أستاذُ كرسي الدراساتِ العربيةِ بجامعةِ هارفارد العراقي د. محسن مهدي، الذي ألّف كتاباً عنه: «الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية».

هذا... وقد نفختِ الترجمةُ الحياةَ في نصوصِ الأغارقةِ، لتسري إلى الغربِ الأوروبي القروسطي، ممزقةً الظلامَ الكنسيَّ بنورِها المتثاقفِ المنعش، عبر الرشديةِ اللاتينيةِ حسبَ وصفِ إرنست رينان في كتابه الشهير «ابن رشد والرشدية». يقول بنعبدالعالي في كتابه «انتعاش اللغة» (لا تعني كونيةُ الآدابِ تطابقاً يذيبُ الآدابَ المحليةَ في وحدةٍ ميتافيزيقية، وإنما وعي الذاتِ بأن الآخر مكوّنٌ من مكوّناتها، فعندما «تذبل» الآدابُ القوميةُ «تنتعش» وترى الحياةَ من جديدٍ عن طريق الآخر).

نعم.. وهاك شعراء التفعيلة - مثلاً ساطعاً - فمنذ ترجمَ علي أحمد باكثير «روميو وجولييت» سنة 1936 من الإنجليزية إلى العربيةِ على وزنِ وحدة التفعيلة، خارقاً بمغامرتِه الجريئةِ جدارَ الوزنِ الخليليِّ التاريخي الصلب. ووجدنا الشعرَ العربيَّ المعاصرَ ينتعشُ على آثارِ تداعياتِ الحربِ العالمية الثانية، مع بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة متثاقفين - مباشرةً أو مترجمين - مع نصوصِ شكسبير وت. س. إليوت وأديث ستويل وغيرهم، مشكلين بإبداعهم الشعري نقيضاً موضوعياً لجثوم الاستعمارِ الأوروبيِّ المثلثِ بلغاتِه وآدابه، على مشرقِ العالمِ العربي ومغربِه. وكان اللبنانيُّ أمينُ الريحاني قد ألقى إلينا قبلهما من مهجرهِ الأمريكي - مبدعاً ومترجماً - بقعةَ ضوءٍ غيرَ معهودةٍ بقصيدة النثر، متأثراً بخطى الشاعرِ الأميركي والت ويتمان.

أما السيّاب فقد ألهبَ ذائقةَ المستعربِ الفرنسي جاك بيرك، وهو يُلقي قصيدة «أنشودة المطر» بلسانهِ الفرنسي على أبناءِ قريته، فوجدهم يبكون - كما أخبرني في لقاءٍ متلفز - وكأنَّه «جعلَ الغريبَ ضيفاً على دارهم»، كما يعبر بنعبدالعالي في كتابهِ، حيث تفاعلَ فلاحو القرية الفرنسية بعدما «أنعشتهم» ترجمةُ القصيدة، وكأنهم وجدوا في أجواءِ قصيدةِ السيّابِ قريتهِ جيكور ونخيلها وأشجارها ونهيرها الصغير... وجدوا فيها قريتهم مؤتلفين إنسانياً مع فلاحي جيكور، رغم بُعد المسافةِ بين ضفتي لغتهم.

إذن فالترجمةُ كما يقول بنعبدالعالي عبورٌ وحركةُ انتقالٍ عبر جسرٍ يأتي بالضفتينِ إليهما، متوسلاً بتعبير هايدغر الألماني «أن التعددية ليست تساكناً بين عدةِ أشكال، حيث لا ترمي الترجمةُ إلى توحيدِ اللغاتِ وإلغاء الاختلافِ بينها، وإنما إلى بعثِ الغرابة»، وهو ما يُمثِّله بنعبدالعالي عن ترجمةِ الشاعرِ والمترجم البريطاني إدوارد فيتزجيرالد لرباعيات الخيام، حيث أعطى عمر الخيام مكاناً خالداً بين الشعراء العظام في فضاءِ الإنجليزية الثقافي. وكذلك فإن الشاعر الغنائي المصري أحمد رامي - هو الآخر - أعطى رباعيات الخيام عبر صوتِ أم كلثوم، بإعادةِ كتابتها مكاناً مؤثراً في الذوق العربي العام، بترجمتها من الفارسيةِ مباشرةً، وقد تعلَّمها في معهد اللغات الشرقية بباريس سنة 1924، سابقاً بها ترجمةَ أحمد الصافي النجفي العراقي، وإبراهيم العريض البحراني الأدق من الفارسيةِ مباشرةً، لتصبحَ هذه الترجمات لغةً ثالثةً، ذات طاقةٍ تأويليةٍ هائلةٍ في النص الخيامي المترجم.

غير أن السؤالَ المنتصب - هنا - يدورُ حول ترجمةِ النصوص عبر لغةٍ وسيطة، حيث قامَ سامي الدروبي - مثلًا - بترجمةِ رواياتِ تولستوي وديستويفسكي الروسية من الفرنسيةِ إلى العربية، ليكتشفَ المترجمُ المغربي إدريس الملياني الضليع في اللغةِ الروسية أخطاءً جسيمةً وقعت فيها ترجمات الدروبي.

أما حينما يستشهدُ بنعبدالعالي ببروست القائل «إن المؤلفات الرائعة تبدو وكأنها كُتبت بلغةٍ أجنبية»، فإنَّه يجعلني أتذكرُ على الفور مقولةَ عبد الفتّاح كيليطو (الكافكوية) في كتابه «أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية»، مخاطباً القارئ العربي «أن تمرَّ عبر البعيد لتعرفَ القريب وتعترفَ به»، مستشهداً بما كتبه د. عبد الله العروي في كتابه «خواطر الصباح» حول كتابةِ أطروحتهِ المبكرةِ عن «الآيديولوجية العربية المعاصرة» التي لقيت اهتماماً عربياً، بسبب كتابتها بالفرنسية قبل ترجمتها إلى العربية.

لكن أليسَ ذلك يُشكل عقدة نقصٍ ثقافية؟

يُجيب كيليطو في نفس مورد كلامهِ أنها «لعنةٌ تثقل كاهلَ العربِ منذ أكثر من قرن».المعروف أن جهاتٍ فرنسيةً رسمية أصبحت تتبنى نشرَ بعض النصوصِ الروائية (المغاربية) المكتوبةِ باللغةِ الفرنسية، باعتبارها إبداعاً «فرانكفونياً»، خصوصاً حين يجدون في معالجاتها ما يدعم الصورةَ النمطية المقلوبة عن المجتمعاتِ العربية المرسومة (استشرافياً) في مخيلاتهم الأوروبية.

الكاتبةُ والمخرجةُ الجزائرية آسيا جبار التي قابلتها في فندق الوحدة بالجزائر صيفَ سنة 1978، واجهتْ هذه الصورةَ الاستخذائيةَ الذليلة، وقد جاءتني تحمل أحد مؤلفاتها المسرحية «عند احمرار الفجر» عن الثورةِ الجزائرية مترجماً من الفرنسية إلى العربية، فقد عجز - وقتذاك - لسانُها عن الحديث بالعربية، رغم استشهادها في مسرحيتها بأبياتٍ من الشعر العربي القديم، فما كان منها إلا أن ترقرقت دمعةٌ متحسرةٌ في مآقي عيونها، وهي تغادرني معتذرةً عن إجراء لقاء تلفزيوني إلى دارها.

هل لهذا اندلعت الخصومةُ القديمةُ الشهيرة بين طه حسين وزكي مبارك المتخرجينِ في فرنسا، وقد أخذ مبارك على طه حسين أنه خضع لأستاذه كازانوفا، بينما أصرَّ هو على الاختلاف مع أستاذه مرسيه، وهما يناقشان أطروحتيهما، مراهنين على ما نجح فيه بعدهما عبد الفتّاح كيليطو بمهارة، وهو يسعى في كتاباته النقدية الآسرة المبهرة «ألا يكتبَ كالأوروبيين وأن يختلفَ في الآن نفسه عن الكتاب العرب».

فيا ترى، هل هو نفسُ الرهانِ الصعب الذي يُحاوله بنعبدالعالي، وبندول أطاريحه يتراوحُ منذ عقودٍ، بين قطبي الفلسفةِ العربيةِ الإسلامية القديمة والفلسفة الأوروبية المعاصرة - مؤلفاً ومترجماً، محاولاً خلخلة الثقافة النمطية والمفاهيم السائدة؟