«معرض بيروت للكتاب»... زوّاره يبحثون عن فلسطين

عودة الحياة إلى «عميد المعارض العربية»

نشاط في أحد الأجنحة
نشاط في أحد الأجنحة
TT

«معرض بيروت للكتاب»... زوّاره يبحثون عن فلسطين

نشاط في أحد الأجنحة
نشاط في أحد الأجنحة

في ظل أجواء الحرب على غزة، انطلقت أعمال «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» الذي ينظمه «النادي الثقافي العربي» منذ 65 عاماً. وإذ جاءت الهدنة وتوقف القتال، ليعطي دفعة غير منتظرة للمعرض، فإن الأيام الأولى تشي بحماسة وإقبال غير متوقعين، أسرّتا قلوب الناشرين.

«منذ يوم الافتتاح الخميس الماضي، بدا واضحاً أن الجمهور آتٍ ليشتري، هذا لاحظناه على رواد جناحنا»، تقول لنا رنا إدريس مديرة «دار الآداب». عطلة نهاية الأسبوع بحيويتها كانت مفرحة للناشرين، والإقبال على الأنشطة، زاد المنظمين إحساساً بالرضا.

ومن حسن الحظ أنه بالتزامن مع هدنة غزة، هدأت جبهة الجنوب اللبناني أيضاً، وكأنما شيء من الارتياح خيّم على البلاد.

ما يحدث خالف كل التوقعات. فمع أحزان الحرب، وتعلق الناس بشاشاتهم، أكثر من انشغالهم بحاجاتهم الثقافية، وبسبب أن «نقابة الناشرين اللبنانيين» كانت قد نظّمت «معرض لبنان الدولي للكتاب» قبل شهر فقط، وحشدت له حملة إعلامية كبيرة، وأقامته في «فوروم دو بيروت» حيث المساحة فسيحة والتقسيمات أنيقة؛ بدا أن هذا المعرض التقليدي الذي صار عمره أكثر من ستة عقود، قد ضُرب في مقتل، لكن المفاجأة السعيدة، أن الرواد بدوا مخلصين لمعرضهم المعتاد، أكثر مما تصوره البعض. مساحة المعرض الحالي صغيرة، في «سي سايد أرينا» الواجهة البحرية، المكان الذي نال منه انفجار المرفأ عام 2020، ولا يزال استرجاع المساحة السابقة مستعصياً، لكنها ليست مشكلة على ما يبدو. «نحن معتادون على هذا المعرض، وله تاريخ وعراقة، وصغر حجمه لا يعيبه، بل يبدو لنا دافئاً وحنوناً. المعرض السابق كان تنظيمه أفضل، لكننا شعرنا فيه بشيء من الغربة»، تشرح رنا إدريس.

رغم الوقت الضيق بين المعرضين، حرصت «دار الآداب» على الإتيان بكتب جديدة، لعل أقربها إلى قلب صاحبة الدار هو كتاب شريكها وشقيقها الأديب الراحل سماح إدريس. وهو رواية «قمر» التي كتبها قبل وفاته، ولم تبصر النور قبل اليوم. وأطلق الكتاب بحفل يشبه صاحبه الذي كان شغوفاً بفلسطين. ومن إصدارات الدار الجديدة لمواكبة المعرض: «عام واحد من العزلة» لإيمان اليوسف، و«الكلمة الأجمل» لأودور آفا أولافسدوثير، و«النكبة المستمرة» لإلياس خوري.

بالمناسبة توضح إدريس، أن إقبالاً لافتاً جداً تلاقيه كل إصدارات الدار عن فلسطين، وكأنما الناس تعود من جديد لتقرأ عن القضية التي نسيتها لفترة طويلة. هناك طلب كبير على كتب إدوارد سعيد، وإلياس خوري خاصة كتابه الجديد عن فلسطين «النكبة المستمرة»، و«حكاية جدار» للأسير الفلسطيني ناصر أبو سرور، وكذلك مؤلفات جبرا إبراهيم جبرا خاصة كتابه «البئر الأولى» الذي يروي فيه سيرة حياته وطفولته في القدس، و«صناعة الهولوكوست» لنورمان غاري فنكلشتاين، وبالطبع رواية عدنية شبلي «تفصيل ثانوي» بعد حرمانها من جائزة معرض فرانكفورت للكتاب. وهناك إقبال أيضاً على رواية «قناع بلون السماء» لباسم خندقجي، أسير في السجون الإسرائيلية، صدرت حديثاً.

«دار الآداب» ليست استثناء، فقد عملت غالبية الدور على إبراز كتبها عن فلسطين في أجنحتها، وعن الشخصيات الفلسطينية المعروفة، بسبب الطلب عليها، منها كتاب «استشهاد شيرين أبو عاقلة» الذي كانت قد أصدرته «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» العام الماضي. أما الكتاب الأكثر مبيعاً في المؤسسة فهو «التطهير العرقي في فلسطين» للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه. هكذا ربما يأتي المعرض في وقت يحتاج فيه القراء للعثور على إجابات لأسئلة عادت لتطفو على السطح من جديد، بعد صدمة الحرب على غزة ومجازرها الصادمة.

يحتفي مدير المعرض عدنان حمود، بعودة الحياة إلى هذا الحدث السنوي، فدورة العام الماضي كانت ظروفها الاقتصادية أشد وطأة. «الآن البلد أموره تسير، ونحن حالنا كما الآخرين. نعم شعرنا بوطأة الحرب ونحن ننظم المعرض، وبالطبع هناك صعوبات، لكننا تعودنا. وقد عاش هذا المعرض طوال الحرب الأهلية، ولم ينقطع، وخلال الاجتياح الإسرائيلي ولم يحتجب»، يشرح لنا حمود أنه منذ بدء التنظيم تصرف وكأن الوضع عادي، وقرر أن المعرض سيقام بمن حضر. «نعم ثمة من قرر تصغير مساحة جناحه للتوفير، وهذا يفهم، وبعض الدور قررت ألا تشارك، ولكنها ليست كثيرة»، يعد حمود أن العوائق لم تعد لبنانية فحسب، «بمقدوركم سؤال الناشرين وسيخبرونكم أن كل المعارض العربية تغيرت أحوالها، وخفتت مبيعاتها. لم تعد القراءة كما كانت، ولا الإقبال كالسابق. هذا الأمر ليس حكراً علينا»، ويروي حمود أن هذا المعرض الذي هو الأقدم في المنطقة، مديرو المعارض العربية هم الذين أطلقوا عليه عام 1992 اسم «عميد المعارض العربية» وليس نحن؛ لمكانته وأهميته، عادّاً أن الناشر اللبناني لا يزال متميزاً؛ «لأنه هو الذي يقرأ المخطوطة، ويطبع ويشرف على النشر، وهو الذي يحمل كتابه بنفسه ويسوقه في كل مكان، ولا يعهد به لأي أحد آخر». ورأت سلوى بعاصيري رئيسة «النادي الثقافي العربي» أن «إقامة المعرض في هذا الظرف العصيب ليست مغامرة في غير أوانها ولا تغريدة خارج هموم الناس وأولوياتهم، بل هو نوع من أنواع النضال».

ثمة ارتياح عام لدى الناشرين أن يروا «معرض بيروت للكتاب» كما عرفوه يعود إليه الزخم بعد فترة انقطاع بسبب وباء «كورونا» من جهة، والأزمة الاقتصادية من جهة أخرى، ومن ثم عودته المتعثرة قبل أن ينتعش هذه المرة. «الكلمات هي ذاتها يكررها الناشرون الذين سألناهم: (هو معرضنا الذي تعودنا عليه)»، هذا ما تقوله نسرين كريدية، المديرة التنفيذية لـ«دار النهضة العربية»، متأسفة لغياب دور نشر وازنة مثل «الرافدين» و«الراتب» و«نوفل»، و«التنوير»، بسبب الانقسام بين منظمي المعرضين المتتاليين زمنياً، لكنْ هناك سبب آخر لغياب بعض الدور اللبنانية، بحسب ما يشرح لنا مدير المعرض حمود، هو أن «اتحاد الناشرين العرب» برمج «معرض كتاب الكويت» في نفس الوقت؛ لأنه تعامل مع المعرض الذي عُقد الشهر الماضي على أنه الأساسي، ويضيف حمود: «رغم أن تعاوننا مع (اتحاد الناشرين) يمتد إلى عشرات السنين، فكيف يشطبون موعدنا بهذه الطريقة؟!».

هذه الخلافات لا تنغص فرحة الناشر سليمان بختي صاحب «دار نلسن» الذي يعد أن عودة الرواد إلى هذا المعرض تؤكد أن «من يصنع معرض الكتاب هم الناس، وليست نقابة (اتحاد الناشرين)، ولا (النادي الثقافي)، ولا التمويلات السخية. الكتاب ليس حكراً على أحد. هو نتاج المجتمع والناس، وهو لهم ومن أجلهم. والنشاطات الثقافية الغنية المصاحبة، بتنوعها، وبنوعية الحضور وطبيعة الحوارات، تظهر بوضوح دور بيروت، وكيف أنها صدى لكل ما يحدث في العالم العربي». ويعد بختي أن «بيروت أكبر من هذا الكباش الذي يدور بين الطرفين، ولا يليق تصغيرها على هذا النحو. وسأبقى - مع محبتي للجميع - مع معرض موحد فعّال، يحفظ لبيروت دورها». هذا المطلب تصرّ عليه رنا إدريس أيضاً التي تطالب بأن «تمارس دور النشر ضغطاً، باتجاه العودة إلى معرض واحد. ما حصل بشع ومزعج، وهو ليس لمصلحة الناشر ولا القراء». لنسرين كريدية الرأي عينه، عادة «أننا مع بعض الدور الأخرى على علاقة جيدة بالطرفين، وسنلعب دور حمامة السلام. فمن جهة هناك نقابتنا، ومن جهة أخرى النادي الذي لنا علاقة تاريخية معه، وعلينا أن نسعى معهما لتوحيد المعرض، فليس منطقياً ما يحدث».

البداية الطيبة للمعرض الحالي، شجعت على إعلاء الصوت لإنهاء الانقسام، وإن كان الناشرون يعدون أن الصيغة الحالية لمعرض بيروت بحاجة إلى تطوير مستمر.

لا تزال الكتب القديمة ملجأ

ويتميز المعرض في دورته الحالية، بكثافة الأنشطة. فقد خُصص العديد من الندوات لمناقشة الكتب الجديدة. وثمة جلسة للاحتفال بمئوية كتاب «النبي» لجبران خليل جبران، وأخرى لقراءات في شعر نزار قباني بمناسبة مرور مائة عام على ولادته. كذلك هناك «احتفالية بيروت عاصمة الإعلام العربي»، وندوة حول «المفاعيل القانونية والأخلاقية للذكاء الاصطناعي»، ويتحدث عبيدو باشا عن كتابه الجديد «مئوية ولادة عاصي الرحباني»، وندوة حول «الخيار الاقتصادي البديل». ثمة يومياً ستة أنشطة في قاعتي المحاضرات وحدهما، فضلاً عن التواقيع والبرامج التي تنظمها الدور في أجنحتها.

وبما أن فلسطين هي موضوع الساعة، فقد نُظمت أمسية شعرية بعنوان «فلننصر غزة بالشعر والموقف»، شارك فيها الشعراء: جهاد الحنفي، وجمانة نجار، ووجدي عبد الصمد، وعماد الدين طه، وميراي شحادة، ومردوك الشامي، وعصمت حسان. وقد ألقيت مجموعة من القصائد التي تُحاكي فلسطين وجراحها ومعاناتها وبطولات مقاوميها والجرائم التي ارتكبها الاحتلال بحق أبناء غزة.

وضمن الأنشطة أربعة معارض، بينها معرض لأغلفة كتب تخص أنيس منصور ونجيب محفوظ وخيري شلبي، رسمها الفنان المصري التشكيلي حلمي التوني، وجمعها اللبناني عبودي أبو جودة، ومعرض آخر للفنان معتزّ الصواف، وثالث لطلاب الجامعات الذين فازوا بمسابقة لرسم أجمل لوحة تجسد علاقتهم بالكتاب، ورابع للفنان كميل حوّا.

يستمر المعرض حتى الثالث من الشهر المقبل، وحركة الزوار مرهونة بهدوء الحال.


مقالات ذات صلة

«جدة للكتاب» يسدل الستار عن 10 أيام حافلة بالإبداع والمعرفة

يوميات الشرق إقبال كبير شهده معرض جدة للكتاب طوال عشرة أيام (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب» يسدل الستار عن 10 أيام حافلة بالإبداع والمعرفة

أسدل «معرض جدة للكتاب 2024» الستار عن فعالياته التي امتدت لـ10 أيام قدَّم خلالها رحلة استثنائية لعشاق الأدب والمعرفة، وسط أجواء ثقافية ماتعة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
يوميات الشرق من لوحات معرض «المسافر» للفنان وائل نور (الشرق الأوسط)

«المسافر»... رؤية المصري وائل نور التشكيلية لفلسفة الترحال

لا يتيح السفر مَشاهد وأصواتاً وثقافات جديدة للفنانين فحسب، وإنما يوفّر أيضاً لحظات من التأمّل والعزلة، وثروة من اللحظات ما بين عظمة الطبيعة والتفاعل بين البشر.

نادية عبد الحليم (القاهرة )
يوميات الشرق يحمل عمال «سوذبيز» أقدم لوح حجري منقوش عليه الوصايا العشر في نيويورك (أ.ف.ب)

بيع أقدم لوح حجري منقوش عليه الوصايا العشر بأكثر من 5 ملايين دولار

بيع أقدم لوح حجري معروف منقوش عليه الوصايا العشر في مزاد علني بأكثر من 5 ملايين دولار.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

القصيدة التي تكتبُها الحرب

القصيدة التي تكتبُها الحرب
TT

القصيدة التي تكتبُها الحرب

القصيدة التي تكتبُها الحرب

مثّلت شِعرية الحرب مدخلاً رئيسياً للكتابة المتزامنة مع تراجيديا الحدث الواقعي عند عدد مهم من الشعراء العرب المعاصرين. فقد شكَّل هذا الاتجاه الفني في الشعر حالة كتابية مميزة تراوح بين الوصف والامتداد الفلسفي والسيكولوجي للغة الشعرية وطاقتها الحية مجازاً ودلالة. إنها كتابة شعرية بقصائد وأشكال مختلفة، وحساسيات متقابلة، لكنها جميعها تقرأ سيرة الحرب بنفَسٍ متجاوِزٍ يبتعد عن إسهاب السرد لمصلحة الحالة القلقة في الكتابة. وبالوقوف عند نخبة منتقاة من هذه القصائد، نجد أنها انحازت في مجملها للرؤية الإنسانية التي ترى في الحرب جزءاً يسيراً من درامية هذا العالم الملتبس. كما أنها حاولت النظر إلى تفاصيل الحياة في لحظة الحرب بوصفها هوامش صغيرة ودالّة، بحيث تتكثف عناصرها الإيحائية وتتكتل على نحو درامي يختزل المشهد العام من خلال ثنائية الصراع والوجود.

وخلافاً لما كان عليه الحال في العصور المبكرة للشعر العربي، حين كانت معظم قصائد «الوغى» محمّلة بنفس الغنائية التي ترى في الحرب مفتتحاً نصيّاً لحالات الزهو والحماس والفخر، فإن الحرب لدى الشعراء المعاصرين شكلت نقطة تحول حاسمة على مستوى الموقف. ابتعد الكلام الشعري عن الأسلوب الممجد للقتال، مما جعل القصيدة العربية الحديثة تعيد النظر في مفاهيم المواجهة والشجاعة والفروسية والبأس، منفتحة بالأحرى على قراءات تأويلية أكثر هشاشة وأكثر واقعية أيضاً.

لقد أخذ الشعر العربي منذ أواسط القرن العشرين وصولاً إلى اللحظة الراهنة من الكتابة موقفاً آخر يناوئ فيه كل مرادفات الخراب بشتى أشكاله ومسبباته ودوافعه آيديولوجية كانت أو عقائدية. لذا تبدو النصوص الشعرية الحديثة في خضم وصفها للاحتراب أقرب إلى المرثيات منها إلى قصائد الموقف، رغم الاختلاف التعبيري الذي يفرضه موقع الإنسان العربي داخل مشهد المأساة. مشهدٌ غالباً ما كانت الأرض العربية ساحته الأولى. هكذا وجد الشعر العربي نفسه يبتعد شيئاً فشيئاً عن الغنائية الحماسية والبكائيات الطويلة، وعن المنبرية التي تقتل صفاءَ الهمس في الشعر والفن عموماً. لقد أصبحت القصيدة تستحضر رمزية الحرب في الوجود بوصفها تعبيراً فنياً عن حالات محددة من الصراع الإنساني الذي يلبس ثوب العنف مخلفاً وراءه ندوباً قاسية ومضاعفات حضارية أكثر خطورة.

«أبصرُ شمساً محطّمة وقُرى تمّحي

وقلباً يُرفرفُ كالرّاية المظلمة

وأرى الشيءَ يمشي إلى عكْسهِ، الضدَّ يمشي إلى ضدّهِ

وأرى كيف تكون الأكُفُّ محاربة والأصابِعُ مُستسلمة»

بهذه الصور الوصفية يرسم الشاعر اللبناني شوقي بزيع لوحة الحرب التي قد تكون ألوانها الشاحبة بقية من كلامٍ كثير قاله «الرجل الذي لم يمت في الحرب الأخيرة». إن أبرز ما تشير إليه الجمل الشعرية في هذا المقطع هو التناقض في حركة الواقع الدموي للحرب، واللامنطقية الحادّة التي تحيط بتفاصيل الحدث بين الفعل وضده. يحدث هذا الأمر كثيراً في عالمنا اليوم، فاليد القابضة على الزناد تواجه أصابعها المستسلمة أو أصابع الآخر الخصم المستسلمة. هذا الملمح الشعري في قصيدة بزيع يمكن أن يكون تعبيراً مناسباً في جزء من معناه الدلالي عن بدايات الحرب الأهلية في لبنان، والتي جعلت اليد الوطنية الواحدة منقسمة على نفسها ودفعت بالشيء إلى أن يصبح ضده في كثير من الأحيان. ولعل هذه الأسطر الشعرية تصبح ذات دلالة ممتدة في الزمن حين نستحضر واقع لبنان الآن.

إن الشعرية العربية ما زالت تقرأ سيرة الواقع الدموي لدوائر الحرب الكثيرة، لكن بصيغ جديدة لا ترى في لحظة الاحتراب مجرد ظرف زمني تتراكم فيه المأساة، بل حالة وجودية تتفاعل فيها الطبيعة مع نبضات الإنسان الخائف والمُضحّي وغير المتصالح مع قدره... هكذا تنضج في جسد القصيدة ألوان غير مرئية تعبّر بحساسية عالية عن التضامن الكوني مع الضحايا، وعن مقدرة اللغة الخارقة في الشعر على إنصاف الإنسان المنتمي لجغرافيا الحرب. وبالمحصلة، من خلال هذا التمثل الافتراضي للمُتخيَّل الدرامي ينبعث شيء من النفَس الرومانسي في الشعر، فتبدو الطبيعة والكون أقرب إلى معانقة الإنسان الضحية والانتصار لمظلوميته.

يقول الشاعر المغربي محمد بنيس في مقطع مُجتزأ من قصيدته «أرضٌ بدماءٍ كثيرة»:

«الأرْضُ هنا تتذكّرُ قتْلاهَا

وتسيرُ بهمْ من حُلم الأرْضِ إلى أرْضِ الحُلمِ، مُزيّنة برمُوزِ العْودة

صرْختُهم أبْعدُ من ليْل الموْتِ، طيورٌ تحْملُهمْ

فانْزعْ عنهُمْ يا صمْتُ بُرودة وحْدتِهمْ

واتْرُكْ في أقصى الدمْعة ورْدتَهُمْ تنْمو

وزّعْ نجَماتِ البحْرِ عليْهمْ واسْهرْ قُربَ الأمْواجِ لكي لا يسْرقهَا أحدٌ

بجَناحيْكَ احْضُنْهمْ في أُفُقٍ يتجدّدُ، واجْعلْ منْ صرْختِهِمْ ظلاًّ يمْشي

ويوسّعُ شوقَ الأرْضِ إلى أبناءِ الأرْضْ»

على هذا المستوى من خيال اللغة وضمن ما تسمح به طاقة المجاز من اقتراحات، يمكن أن يساهم الكون في رسم عالم موازٍ للبشر المستضعفين داخل جغرافيا الحرب. وحين يتأمل المتابع لمأساة الإنسان الفلسطيني في غزة ولاقتراحات المجازية التي ترسم أفق الخلاص من تراجيديا الحرب، يجد فيها شيئاً من المنطقية. فالخارق الطبيعي هو على الأرجح من يمكنه أن يتعاطف بشكل مُجدٍ مع الضحايا على نحو يجعلهم أحسن حالاً وأقل عذاباً وأقربَ إلى لحظة الانتصار الرمزي على الأقل.

وعلى نفس هذا الإيقاع الرومانسي تعزف القصائد الحالمة سيمفونية المحبة التي يتفق عليها الفن كونياً. هكذا، يمكن أن يُشهِر الإنسان المحاصر بأسوار الحرب الشاهقة سلاح المحبة في وجه العالم، مقاوماً بذلك مأساوية واقعه الصعب. على هذا النحو، يمكن أن يكون العشق نوعاً من أنواع المقاومة الحديثة أو تعريفاً معاصراً للشجاعة في سياق الحرب.

يقول الشاعر السوري ياسر الأطرش في قصيدته «نحِبُّ ما دُمنا نعيش»:

«سنحبُّ ما دمنا نعيشْ

ونعيش ما دمنا نُحبُّ

وأنا أحبكِ حين كان البحر مجتمعاً، وحين انشقّتِ الأنهارُ عنّي

وأنا أحبكِ حين يضحك ياسمينٌ في دمشقَ،

وحين تهطل فوق بغداد القنابلْ

بغداد منكِ وأنتِ مِنّي، فلنحاولْ أن نُغنّي

كي يظلَّ غناؤنا معنا يقاتل»

إن المشهد العام للحرب يوحي ضمن الإطار الكلاسيكي بالحاجة إلى المحبة بديلاً للصراع المفضي في النهاية إلى الاحتراب. لكن أن يكون العشق تحت زخات القنابل، فهو اقتراح شِعري مُوحٍ بالدلالة ومشجع على فهم جديد للحياة في الحرب كما يتخيلها الفن، لا سيما حين يحدث كل هذا وسط عواصم يجتاح القتل دروبها وتتعايش فيها الشوارع مع الانفجارات بين لحظة وأخرى.

لكن من جانب آخر، يُطرح سؤال مُربِك عن مدى قدرة القلب عاطفياً ووجدانياً على خوض هذا النوع من التجارب في مقارعة الحرب بالحب. ذلك أن الحرب لا تلقي بوقعها المدمر على مورفولوجيا المدُن والأحياء والشوارع فحسب، بل تتوغل عميقاً داخل خوالج الذات الإنسانية فتجعلها ركاماً من الأحاسيس المهشمة والمتناقضة وغير الواعية أحياناً. وحين تطول الحرب وتتشعب مسالكها دون مسارات محددة تصبح هذه الذات عاجزة حتى عن الوصول إلى آفاق اللغة التي تحلم بالشعر قبل الحب وقبل السلام.

تصف الشاعرة الكويتية سعاد الصباح شيئاً من هذا التبعثر الوجداني وهذا الإخفاق الفني في قصيدتها «القصيدة السوداء» حين تقول:

«كم غيّرتْني الحربُ يا صديقي

كم غيّرَتْ طبيعتي وغيّرتْ أُنوثَتي، وبعثرَتْ في داخلي الأشياءْ

فلا الحوارُ ممكنٌ، ولا الصُّراخُ ممكنٌ، ولا الجنونُ ممكنٌ

فنحنُ محبوسانِ في قارورة البكاءْ

ما عدتُ بعد الحربِ، أدري من أنا؟»

إن فقدان قدرة الشاعر على إدراك الجزء الذهني والعاطفي من كيانه في خضم صدمته بمجريات الحرب وأهوالها، سيفضي به في النهاية إلى حالة أخرى من عدم الفهم، أو بالأحرى التساؤل المزمن دون أملٍ بامتلاك أجوبة. هكذا يسقط الشاعر في شرَك استفهام تراجيدي يجعل قصيدته تحاكم العالم على عبثية حربه وعدوانيتها، وتسائل الإنسان داخل الوطن الواحد عن جدوى هذه الحرب.

يقول الشاعر العراقي عماد جبار:

«ما الذي نَجني من الحربِ،

سِوى ما يجعلُ الأطفالَ مَرمِيينَ في كُل تقاطُعْ

يغسلونَ العرباتْ

ويبيعونَ السّجائرْ

ويُذِلّونَ كثيراً كبرياءَ العيشِ في ضجّة شارعْ

فالإطاراتُ تدوسُ القلبَ والعُمرَ وأغصانَ المشاعرْ

ما الذي نَجني من الحربِ سوى أن يَقتُلَ الشّاعرُ شاعرْ

وسوى أنْ يفقدَ الحبّة طائِرْ».

* كاتب وشاعر مغربي