صور الطفولة المغدورة في الشعر المعاصر

قتل الأطفال كمحاولة يائسة لقطع الطريق على المستقبل

محمد علي شمس الدين
محمد علي شمس الدين
TT

صور الطفولة المغدورة في الشعر المعاصر

محمد علي شمس الدين
محمد علي شمس الدين

لطالما كانت الطفولة في بعدها العميق تجسيداً بالغ الدلالة، لا لما يتصل ببداية الكائن الفرد فحسب، بل لما يتصل في الوقت ذاته ببداية التكوين وتفتح العناصر وبراءة الخلق. وإذا كان الجريان السريع للزمن يدفع البشر الشبيهين بالأنهار بعيداً عن مساقط رؤوسهم، معرضاً نفوسهم لمختلف أنواع الأدران، فإنهم يتلفتون بالقلب إلى زمن البدايات، حيث تتحول الينابيع التي تركوها وراءهم إلى فراديس مفقودة، لا قبَل لهم باستعادتها. ولأنها كذلك فقد رأى فيها الكتاب والمبدعون الصورة الأبهى للحياة في انبثاقها التلقائي، الذي لم يكن العقل قد تدخل بعد لإفساده، وفق نيتشه. وفيما عدها فرانز هيلينز «الكنز الأكثر حياةً والدم الجديد في دمنا القديم»، هتف الشاعر الفرنسي هنري بوسكو من جهته «وسط المساحات التي عراها النسيان، كانت تبرق باستمرار تلك الطفولة الرائعة، التي طالما بدا لي بأنني اخترعتها».

محمود درويش

كان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي الشعراء بالطفولة، باعتبارها منجم اللغة البكر والحديقة الخلفية للتخييل، كما كان من الطبيعي بالمقابل أن تشكل الطفولة المغتالة والمبتورة في أوجها مادة غنية للأدب والفن. ومع أن الرغبة في قتل الأطفال قد اتخذت وجوهاً متباينة عبر الزمن، فهي قد بدت في بعض مناحيها محاولة يائسة لتأبيد الاستبداد ولمنع التاريخ من التقدم. وهو ما عكسه بشكل جلي قرار فرعون قتل الأطفال الذكور، ونجاة موسى بأعجوبة من موت محتم بعد وضعه في اليم، وصولاً إلى قرار هيرودس قتل أطفال أورشليم وجوارها، منعاً لظهور المسيح المخلص، الذي بشّر بولادته الرعاة المجوس.

أدونيس

وإذا كان الكثير من الأطفال قد رزحوا وما زالوا يرزحون، خصوصاً في المجتمعات التي لا تقيم وزناً يذكر لمفاهيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان، تحت وطأة التجويع والتجهيل والتعنيف والتشريد، فإن الحروب على أنواعها تختزل بوجهها الكالح كل هذه الوجوه مجتمعة. وقد تكون الحرب الكارثية الدامية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة وأهلها وأطفالها منذ أسابيع إحدى أكثر الحروب وحشيةً وعنفاً وانتهاكاً لبراءة الأطفال وحقوقهم، في التاريخ الحديث. ومع أن قصيدة نازك الملائكة «مأساة الأطفال» تعود إلى عقود عديدة سابقة، إلا أنها بدت أشبه بقصيدة استباقية تمنت فيها الشاعرة على ملائكة العالم الصغار أن يعبوا من مباهج الحياة قدر ما يستطيعون، قبل أن تطيح حروب الكبار وضغائنهم بهذه المباهج:

امرحوا الآن في ظلال أبٍ يشقى وأمٍّ جنَتْ عليها الحياةُ

فغداً تحملون أنتم هموم العيش إذ ذاك تُسفر المأساةُ

تتشفى بكم يدُ القدر القاسي وتلقي عليكمُ بالرزايا

وتبيع الشبابَ بالأدمع الحرّى وتلهو على رفات الضحايا

وقد لا تكون قصيدة بدر شاكر السياب «الأسلحة والأطفال» هي الأولى من نوعها في مجال التنديد بفظاعات الحروب وأهوالها الكارثية، وما تتركه في أعماق البشر من شروخ وتصدعات. ولكن ميزتها الأهم تكمن في التركيز على خواء الحضارة المعاصرة، وعلى الطبيعة اللاأخلاقية للرأسمالية المتوحشة، التي تنحصر اهتماماتها في تسويق ما تنتجه مصانعها من أسلحة فتاكة، دون أن تبدي اهتماماً يُذكر بآلاف الضحايا المحتملين، وبالأطفال الأبرياء الذين يسقطون على مذبح الجشع والاستبداد والأنانيات المتفاقمة. والسياب الذي يجعل من قصيدته سردية مطولة يتعقب فيها الحروب الكابوسية للقرن المنصرم، ما يلبث أن يهتف متسائلاً:

حديدٌ، لمن كلّ هذا الحديدْ

لنصلٍ على حلْمةٍ أو وريدْ؟

وأصغي إلى الصبْية الضاحكينْ

وكالجرح إذ ينزفُ

أرى الفوّهات التي تقصفُ

تسدّ المدى، واللظى والدماءْ

ومع أن تجربة أدونيس كانت تتمحور على نحو عام حول قضايا كبرى متعلقة بأسئلة الوجود والرفض والحرية، والبحث عن أفق مغاير للفكر واللغة والحياة، فإن ذلك لم يمنعه من التفاعل مع ما شهده العالم العربي عبر عقود، من حروب وأهوال وتحولات سياسية دراماتيكية. وقد تكررت صور الحرب وفظاعاتها في أعمال صاحب «أغاني مهيار الدمشقي»، الذي عاين خلال إقامته في بيروت الفصول الأكثر دمويةً للحرب الأهلية اللبنانية، فضلاً عن الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة للوطن الواقع على خط التماس الدائم مع الزلازل.

ولا بد لمن يتفحص أعمال أدونيس أن يلاحظ احتفاءه المتواصل بالطفولة، بحيث إنها تتغلغل ببعديها الواقعي والرمزي في نسيج قصائده ونصوصه النثرية، وتشكل أحد المفاتيح الأهم للولوج إلى عوالمه النفسية والإبداعية. ومع ذلك فإن الكائن الجنيني الذي يستعجله الشاعر في كتابه «مفرد بصيغة الجمع» للخروج، عبر قوله «اخرج إلى الضوء أيها الطفل»، ما يلبث أن يصطدم حين يكبر بميل البشر المتعاظم إلى العنف الوحشي، وصولاً إلى ارتكاب المذابح اللاأخلاقية بحق الأطفال، الأمر الذي لم يتوان الإسرائيليون الغزاة عن القيام به في فلسطين ولبنان وغيرهما من بلاد العرب. غير أن ذلك الدم الطفولي النازف لن يلبث أن يصبح وفق أدونيس لقاحاً للربيع القادم، ونسغاً لضوء الصباحات الوليدة:

أحمدُ، مريمٌ، كريمٌ

نزل الموت في حيّهمْ

يتصيد آخر ما يتوالد في ماء أحلامهمْ

وأقول، أنا الراوية

إنه اللعب - الطفل، نرد الرياحْ

ولهم ما يلقّح جذع المساء بنسغ الصباحْ

ومن يتتبع تجربة محمود درويش لا بد له أن يلاحظ أنه كان واحداً من أكثر الشعراء العرب احتفاءً بالطفولة، بأبعادها الواقعية والرمزية. فهي لم تعد بالنسبة له مساحة زمنية تقتصر على السنوات الأولى من الحياة فحسب، بل هي خزان الذكريات، بقدر ما هي خط التماس اليومي مع طراوة العيش وبراءة اللغة وصفاء النظرة إلى العالم. وهي قهوة الأم وجغرافيا الروائح التي لا تنفذ، وبرعم الحنين إلى الماضي الذي يكبر في داخله «يوماً على صدر يوم». ومع تحوُّل الحنين في الحالة الفلسطينية إلى شكل من أشكال المقاومة والدفاع عن الهوية الجمعية، فقد رأى درويش أن سعي جنود الاحتلال إلى قتل محمد الدرة، اللائذ دون جدوى بجسد أبيه، هو في عمقه الأخير محاولة اغتيال مزدوجة، للعودة إلى الجذور المتمثلة بالأب وبروح الأسلاف، كما للحلم بالحرية، ممثلاً بصورة الابن. والأرجح أن الخشية مما سيصيره الطفل فيما بعد هو الذي يقف وراء ضغط الجندي الإسرائيلي على زناد الكراهية والقلق والخوف مما سيكونه الدرة الابن في المستقبل، وهو ما يعكسه الشاعر:

كان في وسع صياده أن يفكر بالأمر ثانيةً،

ويقول: سأتركه ريثما يتهجى فلسطينهُ

دونما خطأ،

سوف أتركه الآن رهن ضميري

وأقتله في غدٍ حينما يتمردْ

محمدْ

يسوعٌ صغيرٌ ينام ويحلم في قلب أيقونةٍ

صُنعت من نحاسٍ

ومن غصن زيتونةٍ

ومن روح شعبٍ تَجدَّدْ

أما الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين، فتتكرر صور الطفولة المغدورة في نصوصه ومقطوعاته، كما لو أنها واحدة من سمات تجربته أو علاماتها الفارقة. وهذه الميزة في شعره لا تعود إلى الصدفة المجردة، بل تجد تفسيرها في تعلق الشاعر بمسرح طفولته الريفية في الجنوب اللبناني، تلك الطفولة التي ما لبثت الحروب المتلاحقة أن كسرت هناءتها الفردوسية، دافعة المكان إلى التشظي، والشاعر إلى الترحل. وإذ يلح شمس الدين على تظهير صورة الطفل مقتولاً، فلأنه يريد أن يدفع المفارقة إلى ذروتها، حيث الموت يقصف الحياة لحظة انبلاجها، وحيث المسافة بين الولادة والموت لا تتعدى السنوات القليلة. والواقع أن تركيز الشاعر على إلباس أطفاله الموتى لبوس النوم أو النعاس، ما هو إلا إذكاء مضاعف للشعور بهول الحدث، الذي يستعصي لشدة فظاعته على التصديق. ويصب في الخانة نفسها استحضار الألعاب والرسوم والأزهار والدمى إلى مسرح الموت، كما في قصيدة «نوم هشام»، التي يقول فيها:

لهشامْ

غنت أزهار الحقل طويلاً

لكنّ الأزهار المرسومة في دفتره ناحتْ

وبكى القلم المكسورْ

وبكت لعبتهُ..

وفي قصيدته «أغنية كي تنام زينب»، التي كتبها الشاعر في رثاء الطفلة التي قضت نحبها في إحدى المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ذات اجتياح سابق للجنوب اللبناني، لا يبتعد شمس الدين، صوراً وإيقاعاً وحقلاً معجمياً، عن مناخات القصيدة السابقة، بل تبدو إحداهما استكمالاً للأخرى، وتنويعاً على عوالمها ومناخاتها المؤثرة. والأرجح أن لجوء الشاعر إلى استخدام إيقاع الخبب في القصيدتين معاً، ناجم عن رغبته في محاكاة الإيقاع السريع والمرح لحركات الأطفال من جهة، وفي محاكاة الطقوس المتداخلة لثنائية الجنازة - الكرنفال:

زينبْ

جرسُ المدرسةِ - الخوفُ

الكتبُ - الخوفُ

القلم المكسورُ الممحاةُ، لماذا؟

من ألبسكِ الثوب الأسودَ؟

من قصَّ ضفيرتكِ الشقراءَ وقصّ الشفةَ المرجانة؟

قومي نلعبْ

قبل رحيل الأشجارْ


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.