سيرة مفتوحة على تراجيديا الغياب

الشاعر الفلسطيني غسان زقطان في «تحدّث أيها الغريب تحدّث»

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

سيرة مفتوحة على تراجيديا الغياب

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

لا يمكن للشاعر الفلسطيني أنْ يحتفي باللغة إلّا بوصفها طقساً، ليس للتطهير فحسب، بل لاستعادة الغائب، ووعي وجوده، حتى وإن كان «وعياً شقياً» أو قاسياً، إذ تتحول لعبة التدوين/ الكتابة إلى رغبة حميمة في تقويض ما يصنعه الغياب، وفي التلمّس القصدي لاستيهامات ذلك الوجود، عبر استعادة المعنى والامتلاء به، أو عبر الكشف عن شواظ الجسد المنفي والمطرود، أو عبر ما يعانيه من مكوثٍ قلِقٍ في المكان الطارئ، وكذلك عبر ما يتبدّى من سؤال الكينونة المهجوسة بالخوف، حيث تكون القصيدة هي استعارة كبرى لممارسة فعل الاستعادة، مثلما تكون هي المجسّ والدليل للمعرفة والاستكناه، أو هي العصا المثيولوجية للبصيرة، حيث تعني توظيف ذلك الوعي الشقي، أو القلِق في لعبة التصريح، في تمثيل خطاب الاحتجاج، أو في نفي الغياب والفراغ، أو ربما في ترميم التاريخ المُهدد بالمحو دائماً.

في كتابه الشعري «غرباء بمعاطف خفيفة» منشورات «ملتقى الطرق» (الدار البيضاء/ 2021) يأخذنا غسان زقطان عبر عناوين فارقة، وقصائد مكثفة، إلى عوالم تضجُّ بأسئلته، فهو يستغور عبرها هواجس الفلسطيني المسكون بنقائض ثنائية الحياة والموت، فتحضر فكرة «الطريق» بوصفها بحثاً عن الوجود، أو تعرّفاً على ما يجري، أو على ما يعانيه من فقدٍ وغيابٍ، فتبدو القصيدة وكأنها نصٌ موازٍ للحياة، واضحة، لكنها ضاجّة بأصواتٍ عميقة، تستنفر استعاراتها للإيهام باستعادة الغائب، بوصفه النظير لاستعادة «الوطن»، فضلاً عن كونها مكشوفةً على التفاصيل التي تحتشد بالوجع والانتظار والخوف والموت، إذ يصطنع الشاعر عبر تمثله للغة النثر المتوهجة صوراً تتسع لتلك الاستعارات التي لا تنفصل عن الحياة ذاتها، ولا عن ذاكرةٍ تحفل بسيرِ الموتى والهجرات وأرواح العالقين بدوستوبيا الأمكنة:

لم تكن تنقصهم الشجاعة ولا المرح،

أولئك الفتية الذين رفعوا أيديهم المحترقة بالبارود،

وقمصانهم المدماة في ذلك الفجر من أكتوبر.

كتابة زقطان تنزع إلى ما يشبه الاستذكار، حيث تستعيد القصيدة وجوه الغائبين، المسكونين بالحلم، الذين يحملون معهم ذاكرة المدن المكشوفة على الحرب والضحك والحلم، فيجد الشاعر في ذلك النزوع نوعاً من الشغفِ بسحرِ الاستعادة، وأحسب أنّ قصيدته المُهداة إلى أمجد ناصر«أقف بجانبك» تجاهر بذلك السحر النقيض للغياب، فنجد في لعبة الاستعادة تعرية صاخبة للموت، بوصفه خطفاً مريعاً، ليس للكائن الصديق فحسب، بل للوجود وللتفاصيل الحافلة بالأسرار واليوميات، التي لا يملك الفلسطيني سوى استعادة علاماتها التي تُذكّره بالحياة المطعونة بالغياب..

أقف إلى جانبك ولا تراني،

ولكنك تتذكر شجاراتنا على الفتيات الغيرة التي عضت أحلامنا.

ثيمة التذكّر تكشف عن الشغف بتلك الحياة، عبر الإيحاء برمزية الحضور، إذ يكون الوقوف تشفيراً لذلك الحضور، مقابل الغياب الذي توحي به جملة النفي الفعلية «ولا تراني»، التي يجعلها الشاعر استعارته النفسية لاستيهام مجاز الإشباع عبر استدعاء الغائب، وعبر تحويل هذا الاستدعاء إلى ما يشبه الحفر في التفاصيل التي يمكن لحضورها أن يُقوّض ذلك الغياب.

ولعل قصيدة «الأمل بقلبه المعشب» التي اختارها الشاعر للغلاف الخلفي لكتابه الشعري، توحي، وربما تختصر وجود الشاعر في اللغة، فيجعلها الشاعر عتبته أو مناصته المتعالية، التي تُحرّض على إعادة القراءة، وكأنها هي التحريض العلني على التمسك بالحياة، إذ تبدو رغبة الشاعر مفتوحة على انشغالات فكرية وصورية واستعادية تستفزه لمقاربة أشياء تتكثف فيها دلالات وجوده عند أمكنة غائرة، أو عند حكايات تتسع لاستذكار غائبين، أو لمجازات «قصائد عابرة» تمنحها عنونة «الأمل والقلب المُعشب» نوعاً من الحساسية التي تجعل من وجودها عناداً ضدياً للبقاء إزاء ما يفرضه الغيابُ من فقدٍ أو محوٍ أو موتٍ.

أكتب أشياء لا يحبها أصدقائي،

حواشي لا ينتبه إليها جيراني الذين تسرقهم الحياة كل يوم،

نصوصًا متكتّمة لا يلتفت إليها زملائي في المقهى،

قصائد لا يحبها أحد،

مشغولة بالغياب والافتقاد،

أكتب مراثي للحبّ والأسماء القديمة،

تتخفّى وراء مجازات لا تشي بالرثاء،

الأمل فقط،

الأمل دون غيره،

بقلبه المعشب،

موحشًا وعنيدًا، يدفعها نحو الضوء.

فرادة الكتابة عند غسان زقطان تتكشفُ عبر ما تستغرقه رؤيته القلقة، المشوبة بحذر مَن يبحث عن ذاته، فيجد في تدوين هذا القلق كشفاً فاضحاً عن سلالة الفلسطيني الأسطوري والمهاجر والمنفي والمقتول، وبما يجعل من تدوينه شهادةً لوجوده، وعلى نحوٍ يجعله يستدرج له الاستعارات والأقنعة لكي يصطنع للبقاء/ المكوث وجوداً رمزياً عبر قصيدته الشخصية، تلك القصيدة التي تنأى بنفسها بعيداً عن حرائق التكرار، فسيرة الفلسطيني - كما اعتدنا- لا تحضر إلّا بوصفها سيرةً للغائب، بعيداً عن استيهامات الاحتشاد الشعري، الواقف تحت يافطة «القضية» التي استغوت الكتابة عنها كرهانٍ على القربِ منها، أو في البُعدِ عنها، حتى بدا البعض منهم يُضلل الوجود، عبر تكرار وظيفة المُغنّي العالق بحنجرة الوقت والتاريخ، وهذا ما يجعل شغف غسان بالفرادة ليس بعيداً عن «وعيه الشقي»؛ الوعي المدسوس مثل جرحٍ نازف، يقاوم الاندمال، لكنه يجاهر بالوجع والنزف، وكأنه نظيرٌ لوجع القلق والاغتراب، مثلما يجاهر بالمغايرة، بوصفها حقه الشعري، ليس للخروج النافر عن «السيرة» و«السلالة»، بل لـ«خصخصة» وعي هذه السيرة وسلالتها، وليصطنع عبر طقسه الشخصي، طقس الاحتفاء بحضوره إزاء ما تمور به «سرديات غيابه» في المكان والهوية، فيكتب باستعارة عاليةٍ عن «غرباء المعاطف الخفيفة» بوصفه واحداً منهم، فيكتب عن «الحقائب المنسية في الليل» وكأنه يستعير عصا التائه الشعري الذي أضناه المنفى، فراح يتقصى وضوحه في ليل الاغتراب، ويكتب عن الآخرين والمدن وكأنه يكتب من خلالها عن سيرته الشخصية، بوصفه الشاعر الرائي، الكاشف والعارف بأسرار العابر والغائب وأطراسهما.

ما قاله الشاعر.. ما تحدّث به الغريب

في كتابه الشعري «تحدّث أيها الغريب تحدّث» الصادر عن منشورات المتوسط/ إيطاليا 2019 يستعير غسان زقطان قناع الغريب، ليستدّل على الغائب، يدوّن سيرته، منحازاً إلى تمثيل خلاصه، ومحتفياً بحريته الشائهة، وبشهوة «الحديث» الذي يجعله الغريب قرينه، وهاجساً لوعي وجوده، ودافعاً لمواجهة ذاكرة الوصايا، إذ تكون حريته هي استعارته الكبرى، وهي شغفه في كتابة المختلف، وفي الكشف عن المخفي، فالغريب الذي يشبهه هو ذاته الكائن المتمرد على وجوده ومنفاه، مثلما هي القصيدة التي تستغرقه في سعة ما تراه الأنا، وفي سعة «النص المفتوح» الذي يجعله حراً، لكن ليس للتحرر من ذاكرة الغناء، بل لكي يهب القصيدة «سعة الخبرة» التي تُعطي للشاعر فرادته، ليس للانعتاق من «عباءة محمود درويش»، بل لتكون تلك الخبرة وعياً بالتجاوز، وطاقة بصناعة ما يشبه «معجزة القصيدة» التي تتمثلها أصداء الغربة، وأصداء الذات القلقة، المسكونة باليومي والذاتي، واللا مألوف، وربما المفتوحة على ما تنزفه الذاكرة وهي ترقب ما تصنعه قسوة الغياب، وما يتعطب من الذات النازفة في أمكنة تضيق، لكنها تتحفزُ بعناد، لتقفزَ باستعاراتها ومجازاتها إلى أفقٍ يكون الغريب هو شاهده الأكثر جرأه، وحامل زوادته في البحث عن الغائب.

امكث قليلاً أيها الغريب،

لن أسألك عن اسمك أو وجهتك،

فقط اجلس تحت ضوء الشمعة

التي أشعلتها من أجلك.

لا تذكر الهيئة التي كنتها،

وتحدّث، تحدّث أيها الغريب،

تحدّث لأجدَ صوتي

الذي أخذته الرياح حمالة الرمل..

الشاعر وتقانة الإيجاز

كثافة الشعري في تجربة زقطان لا تكتفي بتقانة الإيجاز، ولا بحيوية الجملة القصيرة، بل تكشف عن هوس الشاعر بالمغايرة، وبما يجعل هذه الثنائية شغفاً بتجاوز السائد، وكتابة القصيدة التي تحتشد بالإشارات، والأصوات التي توقظ المخفي، فيستدعي لها شفرات الصوفي واليومي والمثيولوجي والسيروي، وكأنه يصنع عبر التشكيل ما يُبرر شغفه بالطقس الذي يحتفي بالحياة عبر ما يصنعه الغريب في سيرته وتجواله.

رأيت الكثير من العيون،

تلمُّ صنعتي،

سرقتُ خوفها، ألمها وأحزانها،

وبعتها لأغرابٍ جاءوا للفرجة..

تحتشد هذه الجمل الشعرية الفعلية بإيحاءات لاستحضار الوجع الذاتي، وبهواجس الغربة والقلق، التي تضع الشاعر إزاء محمولات رمزية لما يحمله وجعه الوجودي، حيث الغياب القاسي والحضور الفاجع، وحيث النقائض التي تستلبه، وحيث يكون «الوعي القاسي» تمثيلاً لسؤال الفلسطيني الذي يساكن اللغة بوصفها سحراً للتطهير، وبلاداً للاستعارات، يكون الشاعر فيها باحثاً، ومهجوساً برعب هذا السؤال، والإنصات إلى علاماته الخبيئة، تلك العلامات التي تختصر زمنه النفسي، أو سيرته المفتوحة على تراجيديا الغياب.

اللغة عند الشاعر هي معادل وجوده الغرائبي، وربما معادل غيابه، لذا تضج القصيدة بأصواته الضاجة، جملها المكثفة واخزة ومُستَفِزة، تكشف عن المخفي من النقائض، وعن شهوة البقاء، إذ يعمد عبر «قصيدته الشخصية» إلى اصطناع وعي لمفهوم الحضور بمعناه الفلسفي، أو حتى بمعناه الصوفي، بوصف الكتابة هي التجليات العالية، وهي الحساسية الفائرة، التي تدفعه إلى الكتابة المغايرة، بوصفها مغايرة اغتنت بتجارب واسعة، تسعى للتحرر من عقدة الصوت الدرويشي، بوصف الحرية - هنا - قناعاً آخر للوعي القاسي، الذي لا يبحث عن الوجود المغاير فقط، بل عن الأفق المغاير واللغة التي يصنعها، لتقويل العالم بأشياء مختلفة، تتقشر فيها اللغة عن تاريخها الغنائي والاستعاري، ليبدو عريها مكشوفاً وفاضحاً، صانعاً لدهشة الافتراق، ومكشوفاً على ما هو مغاير في ثنائية التجاوز والمغايرة، وإعادة توصيف «الذات» الفلسطينية، ليس بوصفها التاريخي، بل بوصفها المثيولوجي الذي تستغرقه أساطير الغياب والعودة، وحتى أساطير سرّاق الحكمة، وأصحاب العبث السيزيفي.

لم نكد نتبع الحلم

حتى أفقنا،

وكي أستطيع التذكّر

إنّا مشينا وراء عتمة البئر

حتى وصلنا معاً

وافترقنا..

ولما شربنا من الماء سبعاً،

ولمّا ارتوينا وكدنا

شرقنا!


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق مسلسل «مئة عام من العزلة» يعيد إحياء تحفة غابرييل غارسيا ماركيز الأدبيّة (نتفلكس - أ.ب)

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»
TT

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته، وشجاعته، وطارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجالا للبحث والاهتمام.

يعيدنا وزير خارجية ليبيا السابق، في روايته الجديدة «القائد العاشق المقاتل»، الصادرة عن «دار الرواد للنشر والتوزيع» إلى فترة تاريخية، كان لا يزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة المعارك، وللشهامة قيمة أخلاقية. تحكي الرواية سيرة مقاتل ليست ككل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ بالمزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف المعرفة.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته المتوثبة والكاريزما التي تمتع بها، وحبه للثقافات، أصبح صديقاً للعرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس لمجالسهم. وحين أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسياً نشطاً، وسائحاً هائماً.

«القائد الشيطان»

تقول الرواية: «عشق أميديو السلاح كما عشق المرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد المقدام الذي تقترن بطولاته بغرام دائم، وعشق لا ينقطع. ويتنقل القارئ بين الأحداث السياسية وشراسة الأطماع الاستعمارية، وحكايات أميديو مع عشيقاته اللواتي شغلن الجزء الذي لم تملأه الحروب من يومياته.

«القائد الشيطان»، هذا هو لقبه، الذي استحقه عن جدارة. فبعد أن خاض أميديو الحرب الأهليّة الإسبانيّة إلى جانب قوات الملكيّين قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيين، وحارب المقاومة الليبية، عاش قصة حب حارقة مع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علاجه في مستشفى في طرابلس، من إصابة تعرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لريزا بـ«قوامها الممشوق ووجهها الأبيض الوضاء وعينيها الواسعتين وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تهديد النازيين لها ولعائلتها ولملتها، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القوانين العنصرية التي فرقت بينهما.

الحبيبة ريزا

ريزا هي كما غيرها من اليهود الذين «اضطروا إلى الهرب خارج العاصمة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأماكن إقامتهم». لكن مهمة الضابط المغامر الذي يمتطي صهوة جواده، ويتقدم الفرسان، ويهاجم كما لو أنه نسي الموت، لا تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريتريا، حيث يطور هناك أساليبه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حين يعيش قصة حب جديدة مع خديجة الإثيوبية، التي «بثت فيه عشقاً لم يعرفه أبداً». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الجمال الخمري التي تحفظ الشعر العربي، تتسلل إلى خيمته كل ليلة، تجالسه، تحادثه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة المحاربين. يصف الكاتب خديجة «الطويلة الرشيقة، بلباسها الملون، وعطرها الفواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نسي حبيبته الطرابلسية ريزا، التي صارت إلى المجهول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته الإيطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجه القديم منها، فقد طوتها عيون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها».

خديجة تشد أزره

على هذا النحو الآسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من اضطرابات، وتوترات وقلق، مع العقيد الذي يخوض غمار معاركه، مستعيناً على ذلك بنساء كنّ له الظهر والسند. غير أن خديجة هذه بقيت شيئاً آخر. و«لأول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى الأبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب».

جاءته الأوامر من روما أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوساً منه. جهزت له خديجة فرساناً أشداء، وقالت له: «قاتل ولا تستسلم يا حبيبي، لقد خلقك الله لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة».

بين جبهات الحروب الشرسة، وجبهات الحب العاصفة، ينقلنا الكاتب، وهو يبدع في رسم علاقة أميديو مع عشيقاته، وتوصيف علاقته مع كل منهن، وكأن كل واحدة أنارت له جانباً مختلفاً من شخصيته، وأضافت لفضوله معارف جديدة، وفتحت أبواباً للضوء. فقد كان أميديو يتمتع بشخصية مغامرة وجذابة، مما جعله محبوباً بين النساء. يقول لخديجة وقد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على الاستمرار في محاربة البريطانيين. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلاثين نفراً، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب».

المرحلة اليمنية

ولما كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تمرده على الأوامر، والوضع المتأزم هناك، يمم وجهه صوب اليمن، وقد صار اسمه أحمد عبد الله الرضائي. وصل إلى ميناء الحديدة، بعد مغامرات كادت تودي به وبرفيق الرحلة. طلب اللجوء السياسي، شك اليمنيون في أمره، وأخضعوه شهراً للسجن والاستجواب. محادثاته المتناسلة مع سجانيه وصلت إلى قصر إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلاقة الوطيدة سريعة مع الإمام وسيكلفه تدريب كتائب جيشه وشرطته.

المرحلة اليمنية من حياة أميديو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة الاجتماعية، والأجواء السياسية في تلك المرحلة، في هذه المنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر المقوس وسط حزامه. جلسة مع خلان سيتعرف عليهم، يخزنون القات معاً، ويسهرون الليالي في مطارحات شعرية إلى أن يدركهم الصباح، ويخرجون ليروا مباني المدينة الشاهقة المزخرفة بألوان، تضيف الانشراح إلى الأرواح». وفي اليمن أيضاً سيلتقي بياتريس.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية

صفحة حب جديدة

بياتريس الحبيبة الجديدة. هذه المرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلة البزق وتهرّب الأسلحة، حين يلزم الأمر. امرأة جذابة يلفها الغموض «عندها عصارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مثقفة ودارسة متبحرة في عالم النفس، ولها القدرة على قراءة ما في فناجين الرؤوس».

لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح بالإمام، ويحلّ الجدري، وينفضّ الجمع، ولا يبقى لـ«القائد الشيطان» سوى الهرب.

بأسلوبه الرشيق والمشوق، يقصّ شلقم من خلال روايته، حكاية هذا القائد الإيطالي الذي تحول إلى أسطورة، وشبهه البعض بلورانس العرب، لتشابه بين سيرتيهما، مستفيداً من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفاً إليها حبكته ونكهته المستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مرات عدة في النص. وقد عاش أميديو من العمر قرناً كاملاً وسنة، تمكن خلالها من الانتقال إلى حياة دبلوماسية، لا تقل أهمية عن حياته العسكرية. عين سفيراً لدى عدد من الدول العربية بينها الأردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعين الرجل سفيراً لدى المغرب، ويكتب له أن يشهد حادثة انقلاب الصخيرات الشهيرة، التي نقرأ تفاصيلها في الرواية كما عاشها أميديو، وكأننا في قلب الحدث.

التاريخ يعيد نفسه

مفاصل تاريخية كثيرة، عن فترة مفصلية من عمر العرب، والتدخلات الأجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشياً، في ما يطغى حضورهم الاجتماعي في الرواية، كل ذلك مشدود إلى أوتار عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، تلهم القائد المقدام.

وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مع أميديو، وقد استقر به الحال أخيراً متقاعداً يستعيد ذكرياته ويتأمل مشواره بهدوء ودعة. وتشاء الظروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعداء الأمس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات والاعترافات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثاً، أو كأنهم كانوا جزءاً من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها.

الرواية تعيدني ثمانين سنة إلى الوراء، ولعالم غير الذي نعيشه اليوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها لا تزال هي نفسها، والمآلات تبدو متشابهة وتستحق المقارنة والعبرة والتأمل.