المدينة الأسطورة التي صمدت في وجه الغزاة

دفعت غالياً طوال التاريخ ثمن موقعها الجغرافي المتميز

غزة ( غيتي)
غزة ( غيتي)
TT

المدينة الأسطورة التي صمدت في وجه الغزاة

غزة ( غيتي)
غزة ( غيتي)

قلّ أن شهدت مدينة من المدن ذلك القدر من المكابدات والنجاحات والتحولات المصيرية الذي شهدته غزة عبر عصورها المختلفة. فقد قُدّر للمدينة التي بُنيت قبل أربعة آلاف عام، وعدّها المؤرخون إحدى أقدم الحواضر المسكونة، أن تدفع غالياً ثمن موقعها الجغرافي المتميز الذي جعلها واسطة عقد القارات وملتقى الهجرات والقوافل، مستدرجاً إلى الظفر بها فاتحين كثراً من قدماء المصريين والبابليين واليونان والفرس والرومان، وصولاً إلى العرب والفتح الإسلامي. وقد ورد اسمها في سفر التكوين، كما تعددت أسماؤها بتعدد غزاتها فسميت إيوني ومينووا وقسطنديا وغاريس، كما سماها الفرس «غازا»، وتعني الكنز الملكي، وأطلق عليها اليونان اسماً مماثلاً ويعني الخزينة أو الثروة.

وقد ذكر ياقوت الحموي في معجمه، بأن اسم المدينة قد اشتق من فعل «غَزّ» الذي يحمل معنى «اختصّ»، بما يعني أن الذين بنوا غزة، قد اختصوها من بين المواقع الأخرى على المتوسط. وتعني غزة أيضاً المنعة والقوة. ومن بين أسمائها غزة هاشم؛ تيمناً بجد الرسول الأكرم، الذي كان يقصدها للتجارة في رحلات الصيف ثم دُفن فيها. ولأن لكلٍّ من اسمه نصيباً كما تقول العرب، فقد دأبت غزة ولو بكلفة باهظة، على مقاومة غزاتها الطامعين عبر الزمن، تماماً كما كان حالها مع الأوبئة والكوارث الطبيعية، في حين كان أهلها لشدة تمرسهم بالآلام وأهوال الحروب، يزدادون صلابة ومنعة وتشبثاً بأهداب الحياة.

لم يكن غريباً تبعاً لذلك، أن تحظى غزة منذ القدم باهتمام الشعراء، أو أن تكون مصدر إلهامهم ومحط أنظارهم ومثار حنينهم، كما كان حال الإمام الشافعي، الذي وُلد فيها وقضى في ربوعها ردحاً من الزمن، حتى إذا غادرها متنقلاً بين الأمصار، واستبد به الشوق إلى مرابعها، قال فيها:

وإني لمشتاقٌ إلى أرض غزةٍ وإن خانني بعد التفرّق كتماني

سقى الله أرضاً لو ظفرتُ بترْبها كحَلتُ به من شدة الشوق أجفاني

أما في الأزمنة الحالية، حيث بات الحديث عن جمال المدينة وألق بحرها وسواحلها نوعاً من الترف، فقد اختارت غزة أن تنتصر لنفسها ولهويتها القومية والإنسانية، وأن تدفع مرة أخرى الأعباء الباهظة لتقاطع الجغرافيا مع التاريخ على أرض مأهولة بالزلازل. ولأنها اختارت بشكل طوعي أن تقبل ما شاءته لها أقدارها من أدوار، فقد أطلقت إثر سقوط فلسطين، أولى صيحات التمرد والعصيان، وقدمت في سبيل الحرية أغزر قرابين الدم، وأكثر التضحيات جسامة وسخاء. كما استطاع هذا الشريط الساحلي الضيق الذي تشغله المدينة، والذي يعدّ أحد الأماكن الأكثر اكتظاظاً على الأرض، أن يلفت أنظار العالم بصمود أهله الأسطوري، ويصبح المجسد الأمثل لروح فلسطين العصية على الانكسار، وهو ما مكّنه في الوقت ذاته من أن يشحذ بالاستعارات والحدوس والصور الملحمية المعبرة مخيلات الشعراء، فكتب نزار قباني، وقد أذهلته صلابة أطفال غزة، ونضجهم المبكر على نار المواجهات الضارية مع العدو:

يا تلاميذ غزةٍ علّمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا

علّمونا بأن نكون رجالاً فلدينا الرجال صاروا عجيناً

علّمونا كيف الحجارة تغدو بين أيدي الأطفال ماساً ثميناً

معين بسيسو

كما استلهم سميح القاسم صمود غزة وتضحياتها السخية في الكثير من قصائده. وإذ بدا له بأن تاريخ المدينة الطويل يكاد يُكتب بالدم لا بالحبر، وقد تحول سلسلة من المجازر والفظاعات والمواجهات المتواصلة مع المحتلين، كتب يخاطبها في قصيدة له تحمل اسمها بالذات:

ما أنت؟ من؟ أمدينةٌ أم مذبحه؟

يتفقد الأغراب من حينٍ لحينْ

تفاح جرحكِ، هل سيثمر للغزاة الفاتحين؟

يتفقد الأغراب جرحكِ: «قد تموتْ

في الفجر غزة، قد تموتْ»

وتعود في الفجر الحزينْ

صيحات حبكِ والحياة

أقوى وأعلى، يا صباح الخير، أختَ المعجزاتْ

ولم يكن محمود درويش أقل احتفاءً بصلابة المدينة وجسارة مقاوميها من صديقه القاسم، حتى ولو كان لكل منهما أسلوبه ولغته وطريقته المختلفة في التعبير. وإذ حدث أن ركنت غزة إلى فترة من الراحة، بعد أن أثخنتها المواجهات المتلاحقة مع الغزاة، سرتْ بين سكانها شائعات مفادها بأن قبور الشهداء قد بدأت بالتحرك. وهو ما قرأه صاحب «محاولة رقم 7» بوصفه نوعاً من الشعور الجماعي بالذنب، وحثاً ملحاً على استئناف المواجهة، فكتب في قصيدته «الخروج من البحر المتوسط»:

أتيتُ أتيتُ، سيروا في شوارع ساعدي تصِلوا

وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلّبُ

كنت أهرب من أزقتها

وأكتب باسمها موتي على جميزةٍ...

إن الوضوح جريمةُ

وغموض موتاكم هو الحق الحقيقةُ،

آه لا تتحرك الأحجار إلا حين لا يتحرك الأحياءُ

فالتفّوا على أسطورتي

وقد واظب درويش على مواكبة المدينة في محطات صمودها المختلفة، مستلهماً نضالاتها في الكثير من القصائد والمقطوعات. ولأن نثره كان موازياً لشعره في توهجه وثرائه واحتدامه العصبي، فقد كتب في أحد نصوصه النثرية «الزمن في غزة لا يدفع الناس إلى برودة التأمل، ولكنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة. الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنه يجعلهم رجالاً في أول لقاء مع العدو. ليس الزمن في غزة استرخاء، ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة».

ورغم كثرة الشعراء الذين واكبوا بقصائدهم ونصوصهم سيرة المدينة المتوسطية، التي لا تزال تتعرض لحصار خانق منذ عقد ونصف العقد من الزمن، فقد اتسمت قصائد معين بسيسو عنها بنكهة خاصة، متأتية من علاقته الوثيقة بالمكان الذي ولد فيه عام 1926، وعاش بين ظهرانيه فترة طفولته وصباه. وإذا كانت الإشارة إلى التجاهل والتعتيم شبه الكاملين اللذين لحقا بمعين، بعد وفاته بنوبة قلبية داهمته في لندن عام 1984، هي أقل موجبات الإنصاف، فإن ما يجدر قوله في هذا السياق، بأن صاحب «الأشجار تموت واقفة»، قد انتزع معظم كتاباته من مخيمات اللجوء ومنازل الصفيح والأماكن اللصيقة بقلبه وذاكرته ووجدانه. ففي زمن الإرهاصات الأولى للمقاومة، كتب معين قصيدته «إلى عيني غزة في منتصف ليل الاحتلال الإسرائيلي» التي يقول فيها:

يُفرد القلبُ جناحيه بعيداً ويطيرْ

لبساتينكِ يا غزّتيَ الخضراء في ليل الجحيمْ

ولجدرانكِ تغلي كالصدورْ

غزّتي أنا لم يصدأ دمي في الظلُماتْ

فدمي النيرانُ في قشّ الغزاةْ

وشراراتُ دمي في الريحِ

طارت كلماتْ

من بين أسمائها غزة هاشم؛ تيمناً بجد الرسول الأكرم، الذي كان يقصدها للتجارة في رحلات الصيف ثم دُفن فيها

ولأن بسيسو كان يعتقد، بتأثير من انتمائه الآيديولوجي، أن على الكتابة أن تدفع الحياة المتعثرة قليلاً إلى الأمام، فقد بدا الشعر بالنسبة له أداة من أدوات المواجهة مع الفقر والظلم والموت، وإعلاء للكرامة الإنسانية التي يستبيحها الطغاة والمستعمرون والغزاة على حد سواء. وإذا كان كلٌّ من الصمت والكلام يفضيان في غياب العدالة إلى موت محقق، ففي هذه الحال «قُلها ومت»، يعلن الشاعر في إحدى قصائده. كما يشير في أحد نصوصه بإصبع الاتهام، إلى أولئك الذين أرادوا لشعب فلسطين أن يدفع الكلفة الكاملة للمحارق التي ارتكبها النازيون بحق اليهود، فيهتف بوطنه الجريح «وطني، أحمِلكَ وأحمِل أوشفتزَ على ظهري».

وإذ يحرص صاحب «فلسطين في القلب» على المواءمة بين موجبات الالتزام وموجبات الجمال التعبيري في شعره، تحفل بعض نصوصه بصور لافتة في تميزها، كقوله مشيراً إلى ظمأ فلسطين المتجدد «كعطاشٍ كنا نتعثر بخرير الأنهار»، أو قوله في وصف الانتظارات المؤجلة لشعبه الذبيح، بأن خطى المستقبل كانت «تَصرّ كالمفتاح في سجن الدم المغلق». لكنه حين يبلغ الألم مداه، وتتشبه البيوت بأوراق الشجر في خريف غزة الكابوسي، ويصمّ العالم مسامعه عن أنين البشر المكلومين، لا يتوانى عن تحويل شعره إلى أهازيج وأغنيات ترددها من بعده الأجيال المتعاقبة، ويتخذ بعضها شكل الوصايا، كقوله في قصيدة «المعركة»:

أنا إن سقطتُ فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاحْ

واحملْ سلاحي لا يُخفكَ دمي يسيل على السلاحْ

وانظرْ إلى شفتيّ أُطبقتا على هوُج الرياحْ

وانظرْ إلى عينيّ أُغمضتا على نور الصباحْ

أنا لم أمتْ أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراحْ


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.