«منتدى أصيلة» يناقش علاقة الرواية العربية بالخطاب البصري

ركز على عمليات إنتاج العلاقة بين الأدب والفنون

«منتدى أصيلة» يناقش علاقة الرواية العربية بالخطاب البصري
TT

«منتدى أصيلة» يناقش علاقة الرواية العربية بالخطاب البصري

«منتدى أصيلة» يناقش علاقة الرواية العربية بالخطاب البصري

ما الذي نقصده تحديداً بالعلاقة بين الأدب والسينما، أو بين الأدب والفنون البصرية؟ ثم كيف تفتح ماهية وطبيعة هذه العلاقة مجال التأويل في الأدب وعلاقته بالفنون؟ سؤالان، من بين أسئلة عديدة تخللت مداخلات ومناقشات ندوة «الرواية العربية والخط البصري»، ضمن فعاليات منتدى أصيلة الـ44، أظهرت أن العلاقة بين الأدب والفنون تتجاوز النصوص لتنفتح على خطابات الجمال وماهية الإبداع ووظائفه.

وانطلقت الندوة، التي نسق فعالياتها الباحث والناقد المغربي شرف الدين ماجدولين، من أرضية ركزت على تواتر عشرات النصوص الروائية العربية المعاصرة، في العقود الأخيرة، التي يخترقها الخطاب البصري؛ إذ لا يبدو سعي الرواية العربية المعاصرة إلى إسكان الصورة في بؤر وقائع جغرافية وتاريخية وثقافية مغايرة لسياقاتها الأصلية، إلا من حيث هو تراسل مع نزوع تأويلي عام، ما فتئ يفتح مجازات الأعمال الفنية على احتمالات تتعالى على الوقائع التاريخية المتضاربة والكثيفة، ومن ثم تحويل حقيقتها الحسية إلى سمة مجردة.

وقال ماجدولين، في أولى جلسات الندوة، إن الرواية هي فن الوعي البصري، الذي من المفترض أن نسائل أبعاده العديدة.

وأضاف أنه يكاد يزعم أنه لا يوجد نص روائي لم يكن مشغولاً بتفصيل بصري، قبل الحديث عن الامتدادات التي تجعل أي نص روائي يطمح إلى أن يكون له ما بعد إنجازه اللفظي، وما بعد إنجازه المفرداتي؛ أي ذلك الامتداد داخل الفيلم وداخل المسلسل الدرامي، وأحياناً داخل فضاء المسرح.

ورأى أن الأمر يتعلق، هنا، «بانشغال أصيل وسؤال مشروع، والاستمتاع إلى امتداداته وكيف نؤوله كنقاد وكباحثين».

وقدم الشاعر والروائي المغربي محمد الأشعري، في مداخلته التي حملت عنوان «الرواية والأثر»، تأملاً في الوشائج التي انتسجت بين الكتابة عموماً، والرواية على وجه الخصوص، وبين تجربة الفنون التشكيلية في المغرب، التي قال عنها إنها حديثة جداً، لكنها مخلخِلة. وتساءل عن الكيفية التي كان الشعراء والروائيون والقصاصون يكتبون نصوصهم قبل انفجار التجربة التشكيلية في الحقل الثقافي، كما تساءل عن اللغة والبناء والرؤية في أي لغة، وإن كانت تتفاعل وتتأثر، تغتني وتتحول بحسب تطورات النظام البصري المحيط بها.

وركز الأشعري حديثه على التجربة المغربية، ليطرح تساؤلات قد توحي بأن انفجار التجربة التشكيلية قد حدث في أرض خلاء، لم تكن تتوفر على نظام بصري مركب ومتعدد التعبيرات. والحال، مضيفاً، أن هذا النظام البصري كان موجوداً بطرق أخرى وأشكال وحوامل مختلفة، وكان حاضراً في المدن والقرى عبر المعمار والزخرف والنسيج والطرز والحلي والوشم والكاليغرافيا، وكانت له وشائج قوية مع اللغة، من الناحية الشكلية ومن الناحية الروحية أيضاً.

واستعاد الأشعري قراءات للناقد والباحث المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي في تجربتي رائدي الفن التشكيلي المغربي: أحمد الشرقاوي والجيلالي الغرباوي، مع التوسع في تناول الأسئلة التي تناولت علاقة التشكيل بالأدب، والتجارب التي تناسلت بداية من سبعينات القرن الماضي في المغرب.

وقال الأشعري إن الأثر البصري في الرواية لا يمكن أن نقيسه بحضور العوالم التشكيلية عبر شخصيات الرواية أو محكياتها، إلا بعلاقة التفاعل المباشر بين النصوص والتجارب، بين الرواية والأعمال الفنية، بشكل يقود إلى الحديث عن كيمياء التلاقح بين الأثر البصري وبين الكتابة الأدبية. وقال إن ما يهمه في الأثر التشكيلي والرواية ليس المحكيات والشخصيات، بل كيف حصل الأثر التحديثي للنصوص الأدبية بواسطة التشكيل.

من جانبه، استعرض الروائي اللبناني رشيد الضعيف تجربته الشخصية على مستوى الكتابة، انطلاقاً من سؤال: كيف نحول سيناريو إلى رواية؟ وتجربته مع السينمائيين الذين يلحون عليه في كتابة السيناريو؛ لأنهم يرون فيما يكتب أشياء يمكن تصويرها وإخراجها سينمائياً.

وتحدث الضعيف عن رأيه في تحويل رواياته إلى سيناريو، وقال إنه حين عُرض عليه سيناريو، انطلاقاً من روايته «فسحة مستهدفة بين النعاس والنوم»، تساءل: «ما هذا؟»، «كيف هذا؟»، ثم استدرك بالقول إن «المخرج الجيد هو الذي يعرف كيف يصيب العصب الذي يجب أن يصاب»، ثم تحدث عن تجربة ثانية مع رواية «المستبد»، قبل أن يتحدث عن تجربة أخرى مختلفة، جمعته بالمخرجة اللبنانية الراحلة رندة الشهال، التي همت بكتابة سيناريو حول الحياة اليومية في بيروت. تجربة قال إنها لم تكتمل، ليقرر تحويل أفكاره وملاحظاته إلى رواية، تحت عنوان «تقنيات البؤس»، مشيراً إلى تجربة أخرى، تحدث عنها الضعيف، تتعلق بكتابته سيناريو عن انفجار مرفأ بيروت. وقال إن هذا السيناريو نزل كأنه وحي. وإذ إن إخراجه للسينما مكلف، فقد ارتأى أن ينقله إلى نص روائي صغير.

وقدمت الروائية المصرية المقيمة في كندا، وأستاذة الدراسات السينمائية بجامعة أوتاوا، مي التلمساني، تصورات من خلال الدراسات الأدبية والسينمائية وكتاباتها عن فكرة الاقتباس من الأدب إلى السينما، والتراتبية التي تفرضها العلاقة. وقالت إنها تهتم أكثر بعمليات إنتاج هذه العلاقة باعتبارها متكأ بين الأدب والسينما، مشددة على أن واو العطف، هنا، إشكالية خطيرة.

وذكرت التلمساني أن الأمر يتعلق بعلاقة تلاقح وحركة طوال الوقت، تقوم على التوافق والتحوير والتأويل والتناص، بما يتجاوز النقل المباشر أو التجربة أو بناء شخصيات أدبية عبر وسيط بصري؛ أي سعي إلى فهم عمليات التناص والتلاقح بين الأدب وبين الفنون من خلال الأدوات التي يستخدمها كل وسيط باعتبارها عمليات وصل وفصل في آن واحد تتقاطع فيها النصوص ضمن شبكة معقدة من الاحتمالات اللانهائية.

وأضافت أن العلاقة كلمة ومفهوم مبهم، في حين أن التقاطع لا الصراع والتراتبية هو ما يسمح لنا بفهم الحوارية بين النصوص والخطابات المختلفة وتأويلها ضمن سياقاتها الثقافية والنوعية.

ورأت التلمساني أن العلاقة بين الأدب والفنون البصرية والسينمائية يمكن أن تتأسس على ثلاثة ملامح رئيسية: أولها، أن العلاقة بين الأدب والفنون ليست ثنائية الأطراف، بل شبكة من الخطوط ترتبط بين عناصر متعددة تتجاوز النصوص ذاتها، وتنفتح على خطابات الجمال وماهية الإبداع ووظائفه. وثانيها، أن العلاقة بين الأدب والفنون هي عملية تركيب وحضور دائم وتحاور بين نصوص متجاورة سابقة وتالية على عملية التناص. وثالثها، أن العلاقة بين الأدب والفنون هي علاقة تعدد تحيل لضرورة التفكير في تاريخ النظر، لا تنفصل فيه الكتابة عن الفنون ونطل منه على العالم فتتسع رقعته إلى ما لا نهاية.

وقدم الروائي والأكاديمي بجامعة روان الفرنسية، اليمني حبيب عبد الرب سروري، قراءة ركز فيها على المشهد البصري الميتافيزيقي في الرواية، انطلاقاً من عبارة للكاتب الفرنسي مارسيل بروست، قال فيها إن «الفن هو الحياة الحقيقية». قبل أن يتوسع في تقديم الكيفية التي تفهم بها هذه العبارة، مشيراً إلى أن المشهد البصري مهم في الرواية، حينما يرتبط البصر بالبصيرة.

أما الجلسة الثانية للندوة، فجاءت، في أغلبها، عبارة عن قراءات لمشاركين في رواياتهم. يتعلق الأمر بالروائي التونسي شكري المبخوت الذي قرأ مقاطع من روايته «السيد العميد في قلعته»، في حين قرأت الروائية الفلسطينية ليانة بدر من روايتها «بوصلة من أجل عباد الشمس»، والروائي المغربي محمد الهرادي من روايته «معزوفة الأرانب»، والروائي المصري إيمان يحيى من روايته «الزوجة المكسيكية».

أما الروائية والصحافية العراقية إنعام كجه جي، فقدمت ورقة خصصتها لتجارب أظهرت فضل زوجات الفنانين العرب الأجنبيات على الفن التشكيلي العربي. وعادت بالحضور إلى العراق، بداية مع منتصف القرن الماضي، للحديث عن تجربة أحد كبار النحاتين والرسامين جواد سليم، صاحب «نصب الحرية»، الذي يشكل علامة فارقة لبغداد، وذلك من خلال السيرة الروائية لزوجته الرسامة البريطانية لورنا. وفي إطار هذه العلاقة تحدثت كجه جي عن روايتها «النبيذة».


مقالات ذات صلة

روائع متحف نابولي في «مرايا» العُلا

يوميات الشرق قاعة «مرايا» تستضيف مجموعة تحف فنية مأخوذة من عدة مواقع أثرية إيطالية (واس)

روائع متحف نابولي في «مرايا» العُلا

تحتضن قاعة «مرايا» في العلا (شمال غرب السعودية) معرض «روائع متحف نابولي الوطني للآثار» الذي يقدم مجموعة تحف فنية مأخوذة من عدة مواقع أثرية إيطالية.

«الشرق الأوسط» (العلا)
ثقافة وفنون الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ (أ.ف.ب)

الكورية الجنوبية هان كانغ تحصد جائزة «نوبل» في الأدب

مُنحت جائزة «نوبل» في الأدب لسنة 2024، الخميس، للكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ البالغة 53 عاماً، التي أصبحت الأولى من بلدها تنال هذه المكافأة المرموقة.

«الشرق الأوسط» (استوكهولم)
يوميات الشرق جانب من تصوير فيلم «طريق الوادي» الذي تجوَّل في 10 مواقع تصوير بالسعودية (الشرق الأوسط)

صالات السينما الصينية تتأهب لاستقبال عروض الأفلام السعودية

تتأهب صالات السينما في الصين لعرض مجموعة متنوعة من الأفلام السعودية منها فيلم «طريق الوادي» و«مطارد النجوم» ضمن فعالية «ليالي الفيلم السعودي».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان خلال مباحثاته مع تشانغ هوا في مقر وزارة الثقافة السعودية بالعاصمة الرياض الاثنين (واس)

مباحثات سعودية – صينية تعزز التعاون والتبادل الثقافي

بحث الأمير بدر بن عبد الله، وزير الثقافة السعودي، مع تشانغ هوا السفير فوق العادة والمفوض الجديد للصين لدى السعودية، الاثنين، سبل تعزيز التعاون والتبادل الثقافي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق المذكرة تضمنت تعزيز العمل المشترك بين البلدين في مختلف المجالات الثقافية (واس)

تفاهم سعودي - كويتي لتعزيز التعاون الثقافي

أبرم وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، ونظيره الكويتي عبد الرحمن المطيري، مذكرة تفاهمٍ لتعزيز التعاون الثقافي بين البلدين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل
TT

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

شارع الحمراء رصيفاً للنزوح وأسمالاً لبريق آفل

قلّ أن حظي شارعٌ من شوارع المدن الحديثة، بالمكانة التي حظي بها شارع الحمراء في العاصمة اللبنانية. لا بل إن اسم ذلك الشارع، يكاد يكون موازياً لاسم بيروت نفسها، واختزالاً لصورها المتقلبة في مرايا التفتح أو الذبول، الازدهار أو الانحلال. صحيح أن الرقعة الضيقة للمدينة المحشورة بين فكي الجبال والبحر، لم تسمح للشارع بأن ينافس على مستويي الطول والاتساع، كلاً من الشانزليزيه في باريس، أو الشارع الخامس في نيويورك، أو أكسفورد في لندن، ولكن الصحيح أيضاً أن شارع الحمراء الذي يمتد من محلة الصنائع شرقاً، لينتهي في الغرب عند تقاطع السادات، وبطول ألف وخمسمائة متر، قد اكتسب سمعته ومكانته من عوامل مختلفة حولته في النصف الثاني من القرن العشرين إلى واحد من أشهر الشوارع في بلاد العرب، وأكثرها صلةً بروح العصر وصور الاجتماع المديني.

وإذا كان اسم الحمراء بحد ذاته هو أحد العناصر المهمة التي منحت الشارع جاذبيته وسحره الفريدين، فإن سبب التسمية لم يكن واحداً عند أولئك الذين تصدوا بالدراسة المعمقة لتاريخ المدينة العريق والحافل بالأحداث. فإذ يذكر عبد اللطيف فاخوري أن سبب التسمية يعود إلى بني الحمرا الذين قدموا تحت ضغط القبائل القيسية من العراق إلى سهل البقاع اللبناني، قبل أن يهبطوا لاحقاً إلى بيروت، ليقطنوا ضاحيتها الغربية المسماة برأس بيروت، يرجح سمير قصير أن تكون تسمية الحمرا مرتبطة بذلك الفيض اللافت من «أنوار النيون التي أضاءت قبل عقود عدة لافتات المقاهي وقاعات السينما والمشارب والمقاهي، بالإضافة إلى المظاهر الأوروبية التي تسم الأمكنة والنساء».

وإذ يشير قصير إلى احتمال أن تكون التسمية مرتبطة بكثبان الرمل الحمراء التي زرعها الفلاحون بالصبار في أزمنة سابقة، يؤكد في الوقت نفسه على الذاكرة العربية الجمعية التي أعادتها التسمية إلى أطياف قصر الحمراء في غرناطة، حيث التماثل وارد بين الشارع البيروتي والأندلس الحافلة بصور الملذات والمتع ونضارة العيش.

وحيث لم تفت المؤرخين الإشارة الى الدور المفصلي الذي لعبه تأسيس جامعة بيروت الأميركية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، في نمو المنطقة الواقعة بين شارعي بلس والحمراء، فإن مراكز الثقل البيروتية الكبرى ظلت حتى منتصف القرن الفائت موزعة بين وسط المدينة والمنطقة المعروفة بالزيتونة وبعض المتفرعات الأخرى. لا بل إن الكاتب والأكاديمي اللبناني جبرائيل جبور يتحدث عن أحوال المحلة التي كان يطلق عليها قبل قرن من الزمن اسم «مزرعة الحمرا»، إذ كان الشارع المعروف باسم جان دارك يرسم بأبنيته القليلة الحدود الغربية للعاصمة اللبنانية.

والواقع أن الصعود المتسارع لدور الشارع كان يتغذى من عوامل عدة، بينها تعاظم دور العاصمة نفسها التي تمكنت بفضل موقعها الجغرافي المميز، وبما تمتلكه من مساحات الحرية والتنوع، إضافة إلى إفادتها من فائض الثروة العربية النفطية، من أن تتحول إلى نقطة التقاء نادرة بين الشرق والغرب، وأن تصبح قِبلة العرب ومصرفهم ومطبعتهم وفندقهم ومركز ترفيههم وموئل المعارضين منهم. ولم يكن مستغرباً أن يصبح شارع الحمراء منذ حقبة الاستقلال المنصة الأهم لرياح الحداثة الوافدة، وهو الذي استطاع أن يوائم بنجاح باهر بين أقانيم الاقتصاد والسياحة والثقافة والاحتفاء بالحياة. وفي حين استطاعت واجهات محلاته الأنيقة واللماعة أن تبهر أنظار زائريه بآخر ابتكارات دور الأزياء في أوروبا والعالم، انتشرت بين ظهرانيه العديد من دور السينما والمسرح وصروح الفكر والفن ومقرات الأندية الثقافية. دون أن نغفل الدور الرائد لجريدة «النهار»، التي تمكنت بما اجتذبته من قامات صحافية وفكرية أن تشكل العمود السياسي الفقري للكيان اللبناني، بقدر ما تمكن ملحقها الثقافي من أن يرفد حركة التجديد الشعرية والأدبية، ببعض أفضل أسمائها ونتاجاتها.

ولا نستطيع أن نغفل في الوقت ذاته الدور المحوري الذي لعبته مجلة «شعر»، وندوتها الحوارية الأسبوعية، في إطلاق الثورة الثانية للحداثة، بعد أن تكفلت «الآداب» بالثورة الأولى. كما لا نستطيع أن نغفل «الندوة اللبنانية» التي أرادها ميشال أسمر أن تكون منصة مفتوحة وجريئة لحوار الثقافات، ولا مسرح البيكاديللي، الذي استضاف صوت فيروز ومسرح الرحبانيين الغنائي، فضلاً عن داليدا وميكيس تيودوراكيس وشارل أزنافور، وغيرهم من فناني العالم ومبدعيه. أما مقاهي الرصيف التي انتشرت على جانبي الشارع، والتي اتسعت دائرة روادها لتشمل خليطاً من النخب المثقفة، بشقيها المقيم والوافد، فقد بدت التجسيد الأمثل لصورة المدينة الشرفة، مقابل أنواع أخرى من المدن، مغلقة على نفسها وشبيهة بالقلاع.

أما العد العكسي لازدهار الشارع ودوره المهم على الصعد كافة، فقد بدأ مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، التي لم يستطع تجنب شظاياها ومفاعيلها المدمرة، ثم زاد من حدته تذرر الكيان نفسه، الذي نخره الفساد والتنابذ الطائفي من كل جانب، دون أن يتاح للشارع المتماهي مع روح بيروت، أن يستعيد وهجه السابق وماضيه الوردي. صحيح أن قوة الحياة التي تعتمل في أحشائه قد عصمته من السقوط بالضربة القاضية، إلا أنه كان يخسر دوره بالنقاط، ويفقد بين صدمة وأخرى ما تبقى له من رصيد.

وقد يكون زياد الرحباني بما يملكه من موهبة ورؤية ثاقبة الى المستقبل واحداً من الفنانين القلائل الذين حدسوا بالمآلات القاتمة لشارع الحمراء، كما للمدينة برمتها، حين ذهب في عمله المميز «شي فاشل» إلى القول بأن انفراط عقد المدينة يعني بالضرورة انهياراً لمسرحها، بما هو فن مديني بامتياز. ولم يمر بعد ذلك وقت طويل حتى أقفل مسرح البيكاديللي أبوابه، وأطفأت دور السينما أضواءها الواحدة تلو الأخرى، وأقفلت مقاهي الرصيف العريقة كـ«الهورس شو» و«الستراند» و«الألدورادو» و«المودكا» و«الويمبي»، ليبدأ بعدها عصر المقاهي المعولمة ومطاعم الوجبات السريعة ومؤسسات تبييض الأموال.

العد العكسي لازدهار الشارع ودوره المهم على الصعد كافة بدأ مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية

وفي ظل الانهيار المالي الأخير، حيث لم تعد المداخيل الشحيحة لمثقفي المدينة وكتابها الأحياء، تسمح لهم بدفع التكلفة الباهظة لفناجين قهوتهم التي دأبوا على احتسائها في مقاهي الشارع الرئيسي، راح هؤلاء يبحثون في متفرعات الحمراء الضيقة عن أماكن أقل كلفة وأكثر تواضعاً للقاءاتهم اليومية، وهو ما عثروا عليه بعد لأي في مقهى «الحمرا إكسبرس»، الذي تذكّر بساطته وطابعه الرومانسي بصوت فيروز وأغاني ماري هوبكنز الدافئة.

وإذا كانت الصورة النمطية التي رسمتها لشارع الحمراء، الذاكرة الجمعية لسكان الأرياف النائية والضواحي المهمشة، تبدو مزيجاً معقداً من «الحقد» الطبقي على الشارع، والوقوع المضاد في فخ جماله المغوي، فإن الحروب والأزمات المتعاقبة التي نزلت به، قد قلصت المسافة بينه وبين ضواحي المدينة وأحيائها الفقيرة الأخرى، متكفلة بتحويل الضغائن المترسبة في أذهان «أعدائه» السابقين إلى رغبة ملحة في ارتياده أو الإقامة بين ظهرانيه. والأرجح أن الذين قرروا بعشرات الآلاف اللجوء إلى شارع الحمراء، بفعل الدمار الكارثي الذي ألحقته بمناطقهم وأماكن سكناهم الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، لم يجدوا في الشارع المنهك من الإهمال والغارق في نفاياته وفوضاه، ما يطابق تصوراتهم عنه، بل وجدوا فيه نسخة معدلة قليلاً عن الشوارع البائسة التي غادروها مكرهين.

ولعل أكثر ما يستوقف الوافدين إلى الشارع في الآونة الأخيرة، هو عدم قدرتهم وسط زحام البشر والسيارات والدراجات النارية على التحرك من أماكنهم بوصة واحدة، إلا ببذل الكثير من العناء. أما اللون الأحمر الذي انتزع الشارع منه اسمه وبريقه الشهواني، فقد تراجع منسوبه إلى حد بعيد، لتحل محله الألوان الداكنة والسوداء لسكان الشارع الجدد، ولضيوفه الهائمين على وجوههم، بحثاً عن أمان مفقود ووطن متعذر التحقق.

اللون الأسود الذي رفعت منسوبه بشكل ملحوظ ثياب النازحين.