ما عناصر التطرّف التي تنطوي عليها الهويّات الجماعيّة؟

ليست كتلةً صلبةً من الحقائق والتصوّرات والمضامين المكتملة الجاهزة

ما عناصر التطرّف التي تنطوي عليها الهويّات الجماعيّة؟
TT

ما عناصر التطرّف التي تنطوي عليها الهويّات الجماعيّة؟

ما عناصر التطرّف التي تنطوي عليها الهويّات الجماعيّة؟

هل الهويّة الجماعيّة متطرّفةٌ بحدّ ذاتها؟ إذا كان الأمر صحيحاً، بَطَلت كلُّ إمكانات الانتماء الجماعيّ. المنهجيّة الأنسبُ تقتضي أن نستخرج من الهويّة العناصرَ التي تنطوي على قابليّات التطرّف. ولكن هل نستطيع أن نتفحّص العناصر التأسيسيّة في الهويّة الذاتيّة تفحّصاً نقديّاً سلميّاً من غير أن نجرّ علينا وعيدَ الآخرين وحُكمَهم الإقصائيّ؟ لا بدّ أوّلاً من التذكير الوجيز بالعناصر الأساسيّة التي تتكوّن منها الهويّة الجماعيّة: العرق؛ الأرض وموقعها وبيئتها ومناخها؛ اللغة ومبانيها ومقولاتها ومعانيها؛ التصوّرات الثقافيّة المرتبطة بالاختبارات الوجدانيّة الدِّينيّة والفكريّة والأدبيّة والفنّيّة؛ التاريخ الذي يحتضن اختبارات الوجدان الجماعيّ المعتني بتدبّر المعيّات الإنسانيّة المتواجهة.

ذكرتُ العناصر التكوينيّة هذه وفق ترتيبها المنطقيّ؛ إذ إنّ الجماعات الإنسانيّة أدركت ذاتَها أوّلاً في رباطٍ أصليٍّ، جعلها تعتقد أنّ لها عرقاً خاصّاً يفصلها عن الأعراق الأخرى. غير أنّ الأبحاث الأنتروبولوجيّة أظهرت أنّ العرق مفهومٌ ملتبسٌ لا يُعبّر عن حقيقةٍ تاريخيّةٍ موثوقةٍ، لا سيّما حين اتّضح للجميع أنّ اقتران الجماعات بالأوضاع الجغرافيّة، والأحوال المناخيّة السائدة في الأرض المستوطَنة، جعل التطوّر البيولوجيّ ينحو منحى التمايز والتفرّد. لو نشأ اليابانيّون في الصحراء العربيّة، لاكتحلت عيونهم بضياء السماء المرصّعة بنجوم الليل الساكن. وعليه، يمكن القول إنّ العرق مقترنٌ بطبيعة الأرض والبيئة والمناخ، وما ينجم عن هذا كلّه من آثار التغيير البيولوجيّ الحاسم.

من الطبيعيّ إذن أن تحتلّ الأرض المرتبة الثانية؛ إذ إنّ الجماعات الإنسانيّة غالباً ما تنحت هويّاتها بالاستناد إلى اختبارات الانتماء الجغرافيّ الأصليّ. أعتقد أنّ الجغرافيا عنصرٌ حاسمٌ في تعيين الهويّة الجماعيّة؛ إذ يشعر الإنسانُ بأنّ احتضان الأرض أشبهُ برحم الأمّ، منه تنبثق الكائناتُ انبثاقاً عفويّاً. بيد أنّ الأرض ليست ملكَ الناس الذين يستوطنونها، بل الحضنُ الرؤوف الذي يجمع ولا يُفرّق. إذا شاءت مصادفاتُ الدهر أن تحلّ هذه الجماعة أو تلك في هذه الأرض أو تلك، فهذا لا يعني أنّ الأرض أصبحت خاضعةً لمشيئة القوم المستوطِنين. كلّنا ضيوفٌ على الأرض، ولا أحد منّا في مقام المالِك المطلق.

من الضروريّ أن يتذكّر الناسُ هذه الحقيقة؛ إذ إنّ مصير الأرض مقترنٌ بالوهم التملّكيّ الذي أفضى إلى المنازعات والاقتتال. أمّا الوجه المشرق في ذلك، فالقولُ بارتباط اللغة الوثيق بما يختبره الإنسانُ من علاقة حميمةٍ بالإيحاءات المنبعثة من جماليّة الأرض المسكونة. يجمع علماء اللسانيّات على أنّ خصائص اللغة تقترن جزئيّاً باختبارات الانتماء إلى الأرض. ومن ثمّ، تتجلّى اللغة حاملةً اختبارات الوجدان الفرديّ والجماعيّ في سكنى الأرض. من صميم هذه الاختبارات تنعقد التصوّراتُ الوجدانيّةُ الجماعيّةُ، يُعبّر عنها الناسُ تعبيراً ثقافيّاً، يتناول جميع حقول الإفصاح، سواءٌ في الجماليّة الأدبيّة، وفي الصوغ المفهوميّ الفكريّ، وفي الرمزيّة الفنّيّة، وفي الروحيّة الدِّينيّة.

أمّا العنصر التأسيسيّ الأخير، فينعقد في مسار التاريخ الذي يختزن اختبارات المعايشة المتطلّبة بين الذات والآخر، سواءٌ على مستوى الفرد، ومستوى الجماعة، ومستوى القوم. لا عجب، والحال هذه، من أن ينطوي التاريخ على عناصر الاختبار الإيجابيّ والسلبيّ، وقد طبعت الوعيَ الإنسانيَّ وفرضت عليه نمطاً معيّناً من التفكير والتعبير والمسلك. لذلك أعتقد أنّ خصائص الهويّة الجماعيّة لا تكتمل إلّا حين نُمسك بجميع هذه العناصر، فنستجلي أثرها في مسار نشوء الوعي الذاتيّ الفرديّ والجماعيّ نشوءاً مُقترناً بما اختزنه التاريخ من اختباراتٍ حاسمةٍ.

من الممكن الآن أن نبحث في العناصر التأسيسيّة هذه عن قابليّات التطرّف الكامنة في الهويّة الجماعيّة. لا أعتقد أنّ العناصر الخمسة هذه تحمل في حدّ ذاتها خطرَ التطرّف، بل الخطر يأتي من بناء الوعي الجماعيّ الذي يتصوّر العرقَ مدعاةً للافتخار والاستكبار، والأرضَ تسويغاً للتملّك الأنانيّ، واللغةَ سبيلاً إلى الهيمنة على وقائع الحياة، والثقافةَ مبرّراً للتفوّق النوعيّ، والتاريخَ بُرهاناً على عظمة الذات الجماعيّة. ولكن من أين يأتي الانحرافُ الخطيرُ هذا في التصوّر الجماعيّ؟ من الواضح أنّ الأصل في ذلك كلّه وعيُ الناس، الذي نحتته التأويلاتُ التضليليّةُ المتراكمةُ في حياة الجماعة. أمّا هذه التأويلات فتقترن في قدرٍ ضئيلٍ منها بتراكمات التاريخ، وفي قدرٍ عظيمٍ بمصالح الأنظومة المقتدرة الحاكمة، سواءٌ في حقل السياسة والاقتصاد والآيديولوجيا الدِّينيّة والقوميّة، وكذلك الفكريّة والعلميّة والإعلاميّة.

من المستحيل أن توحي لنا أرضُنا بالتطرّف. ومن الخلف أن تنطوي لغتُنا على عبارات العنف والإقصاء والدينونة. ومن السخف أن يُسخّر الناسُ الثقافةَ أو الفنَّ أو الدِّين لمناصرة تواطؤاتهم المنفعيّة. العلّة الأصليّة كامنةٌ في تأويل العناصر التأسيسيّة التي منها تنبثق هويّة الجماعات الإنسانيّة، وفق ما تَرسمه لها مصادفاتُ الزمان. لذلك من الضروريّ أن يعتصم الجميع بتواضع الكائنات الهشّة التي تستضيفها الأرضُ استضافةً مجّانيّةً مُطلقةً. ليس لأيّ إنسانٍ من حقٍّ كيانيٍّ شرعيٍّ أصليٍّ، يُخوّله الاستحواذَ على الأرض والبيئة والسماء والفضاء والكون. أمّا هويّاتنا الجماعيّة فثمرةُ تفاعلاتنا التاريخيّة الممهورة بانطباعاتنا البشريّة البنيويّة.

العرق مقترنٌ بطبيعة الأرض والبيئة والمناخ وما ينجم عن هذا كلّه من آثار التغيير البيولوجيّ الحاسم

هل من سبيلٍ إلى الانعتاق من تأويلات التطرّف العنفيّة الجاثمة على هويّاتنا الجماعيّة؟ رأسُ الحكمة الاعترافُ بأنّ الهويّة الجماعيّة ليست كتلةً صلبةً من الحقائق والتصوّرات والمضامين المكتملة الجاهزة، بل مسارٌ حيٌّ من التكوّن التاريخيّ المتدرّج. مشكلة الهويّة أنّنا لا نعاين أطوار نشوئها الزمنيّة المتعاقبة، بل نتلقّفها في حلّةٍ نظنّ أنّها الهيئة التاريخيّة النهائيّة التي استقرّت عليها. جرّاء المدى الزمنيّ الطويل الذي اختمرت فيه أطوارُ التحوّل والتبدّل والتقويم الذاتيّ، لا يستطيع المرءُ أن يعاين الحركة اللصيقة بالهويّة، بل يكتفي بإدراك الثبات الراسخ فيها. زدْ على ذلك أنّ اختبار الحركة في الهويّة يُقلق الوعي الإنسانيّ الفرديّ، ويجرّده من مُسلّماته ومُستمسكاته ويقينيّاته الاطمئنانيّة. ما من إنسانٍ يرغب في اختبار الاضطراب الكيانيّ حين يعاين التحوّلَ الذي أصاب هويّتَه في معترك الاختمار الثقافيّ المديد الزمن.

السبيلُ الآخر يقضي بأن نميّز ثلاثةً من التصوّرات التي نصوغها من أجل التعبير عن هويّاتنا صوغاً يَحكم وعيَنا التاريخيَّ: التصوّر الثقافيّ الأوّل، منبثقٌ من خصوصيّة الحضارة التي ننتمي إليها انتماءَ التأثّر بالعناصر الخمسة هذه: التصوّر الثقافيّ الثاني، منبعثٌ من التأويلات المتطرّفة التي يحرّضنا عليها أهلُ الاقتدار في السياسة والاقتصاد والآيديولوجيا؛ والتصوّر الثقافيّ الثالث، ناشئٌ من إخضاع حقائق الوجدان الجماعيّ لمحكمة التمييز التي تستند إليها شرعةُ حقوق الإنسان الكونيّة في سعيها الدؤوب إلى تهذيب الإنسان واستنقاذه من بهيميّته المتربّصة به. واجبُنا أن نعتصم بالتصوّر الأوّل مستضيئاً بالثالث، وأن ندين التصوّر الثاني. ذلك بأنّه من أقبح أشكال الحيوانيّة المفترسة هذه، أن تتحوّل الهويّات الجماعيّة إلى مُعتركات الإفناء العبثيّ.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

«القفزة»... رواية سويسرية عن التوازن الهش والضعف

«القفزة»... رواية سويسرية عن التوازن الهش والضعف
TT

«القفزة»... رواية سويسرية عن التوازن الهش والضعف

«القفزة»... رواية سويسرية عن التوازن الهش والضعف

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «القفزة» للكاتبة السويسرية سيمونه لابرت، ترجمة سمير جريس، التي تتناول لحظات الدفع والهشاشة في حياة النساء من خلال سيدة يستبد بها اليأس وتصبح حياتها على حافة النهاية.

يروي العمل كيف أنه في صباح يوم ثلاثاء عادي في بلدة صغيرة، يفاجأ الجميع بفتاة تدعى «مانو» تقف على سطح مبنى سكني لا يعرف أحد كيف وصلت إلى هناك وما تنوي الإقدام عليه. تصرخ وهي غاضبة للغاية وتقذف بأشياء على المتفرجين الذين تجمعوا في الشارع ليصوّروا المشهد بهواتفهم المحمولة، كما تجمع الصحافيون الذين يبحثون عن أخبار، أما رجال الإطفاء فيحاولون مساعدتها. تشتبه الشرطة في أن «مانو» تنوي الانتحار، أما المدينة فتحبس أنفاسها طوال يوم وليلة حيث لن يعود بعدها شيء كما كان بالنسبة إلى كل من تتقاطع حياته مع تلك الفتاة.

يتسم النص بالتشويق والإيقاع المتصاعد من خلال قصة جذابة وعبر حبكة مُحكَمة ترسم ملامح أحداث تنبض بالحياة عن امرأة مميزة وعن الأقدار التي نمر بها متحيزين أو غافلين، فضلاً عن التوازن الهش في حياتنا على هامش هذا العصر.

ولدت سيمونه لابرت في 1985 في أراو بسويسرا، درست الأدب بالمعهد السويسري وظهرت باكورة رواياتها 2014 بعنوان «ظلال» وتوجت بجائزة «فارتهولتس» بوصفها أفضل «كاتبة جديدة».

وتعد «القفزة»، الصادرة 2019، روايتها الثانية وقد رُشّحت لجائزة «الكتاب السويسري» واختيرت عام 2020 «أفضل عمل أحبه القراء السويسريون» والعنوان مفردة ألمانية تحمل أيضاً، بالإضافة إلى القفز، معاني الشرخ الذي يصيب الزجاج أو الجدران، ويحيل العنوان هنا إلى قفزة الشخصية الرئيسية وما أحدثته من شروخ وتصدّعات في حياة الشخصيات الأخرى في الرواية.

ويُعد سمير جريس أحد المترجمين الأكفاء، فقد ترجم عن الألمانية مباشرة نحو 40 عملاً من الأعمال الأدبية المعاصرة منها «عازفة البيانو» لإلفريده يلينك، نوبل 2004، و«صداقة» لتوماس برنهارد و«العاصمة» لروبرت ميناسه و«دون جوان» لبيتر هاندكه، نوبل 2019، و«شتيلر» لماكس فريش، كما ألف كتاباً عن الكاتب الألماني جونتر جراس، الفائز بنوبل 1999، بعنوان «جونتر جراس ومواجهة ماضٍ لا يمضي».

صدرت له عن دار «الكرمة» بالقاهرة عدة ترجمات، منها رواية «الوعد» للكاتب السويسري فريدرش دورنمات، والقصة الطويلة «تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين» لهانس فالادا، ونوفيلا «حلم» لأرتور شنتسلر ورواية «ملحمة أنيت» لأنِّه فيبر ورواية «سدهارتا» لهرمان هسه.

حصل جريس على جائزة «الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية» للترجمة، 2022، وجائزة «الشيخ حمد» للترجمة والتفاهم الدولي، 2018، وجائزة «معهد جوته للترجمة الأدبية»، 2014.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«قبل أن تقفز شعرت تحت قدميها ببرودة المعدن في حافة السطح، إنها لا تقفز في الحقيقة، إنها تأخذ خطوة في الفراغ، تضع قدماً في الهواء وتترك نفسها تهوي. تريد أن ترى كل شيء في طريقها إلى أسفل، أن ترى وتسمع وتشم كل شيء وتشعر بكل شيء لأنها لن تسقط هكذا إلا مرة واحدة وتريد أن يستحق الأمر. والآن تسقط، تسقط بسرعة، يفيض الأدرنالين بالحرارة في عروقها كأن أعضاءها تحمرّ خجلاً لكنها لا تخجل من نفسها. إنها تسقط بوجهها إلى أسفل ويدور كل شيء أثناء سقوطها، كل شيء يتسع داخلها، مسامها تتسع وخلاياها وشرايينها وأوعيتها الدموية. كل شيء يتفتح، يصرخ، ينفتح على مصراعَيه قبل أن يتقلص مرة أخرى.

جسدها كله الآن ليس سوى قبضة تلاكم تجاه الأسفل نازعة معها ما يحيط بها، ليست الواجهات سوى خطوط في الحدقتين الجافتين، يقطع الهواء شبكتي عينيها، يشرِّح مجال البصر. شيء ما يبهر البصر ويحرق العين والفم، المدينة تدور حول نفسها، الأرض تدور في اتجاهها. لا صوت الآن سوى الهواء الذي تدور فيه، الهواء الحاد الذي تسقط فيه، والذي يصفع ملابسها فتضرب عظامها. الهواء يضغط على قفصها الصدري، كل شيء يدنو بشدة الآن، الأسفلت، النوافذ، الرؤوس خضراء زرقاء بيضاء ثم زرقاء ثانية وكل الشعر في الفم الجاف. ينحشر قلبها الكبير في القصبة الهوائية وهي تدور الآن خلال السقوط، تدور على ظهرها شاءت أم أبت».