ما عناصر التطرّف التي تنطوي عليها الهويّات الجماعيّة؟

ليست كتلةً صلبةً من الحقائق والتصوّرات والمضامين المكتملة الجاهزة

ما عناصر التطرّف التي تنطوي عليها الهويّات الجماعيّة؟
TT

ما عناصر التطرّف التي تنطوي عليها الهويّات الجماعيّة؟

ما عناصر التطرّف التي تنطوي عليها الهويّات الجماعيّة؟

هل الهويّة الجماعيّة متطرّفةٌ بحدّ ذاتها؟ إذا كان الأمر صحيحاً، بَطَلت كلُّ إمكانات الانتماء الجماعيّ. المنهجيّة الأنسبُ تقتضي أن نستخرج من الهويّة العناصرَ التي تنطوي على قابليّات التطرّف. ولكن هل نستطيع أن نتفحّص العناصر التأسيسيّة في الهويّة الذاتيّة تفحّصاً نقديّاً سلميّاً من غير أن نجرّ علينا وعيدَ الآخرين وحُكمَهم الإقصائيّ؟ لا بدّ أوّلاً من التذكير الوجيز بالعناصر الأساسيّة التي تتكوّن منها الهويّة الجماعيّة: العرق؛ الأرض وموقعها وبيئتها ومناخها؛ اللغة ومبانيها ومقولاتها ومعانيها؛ التصوّرات الثقافيّة المرتبطة بالاختبارات الوجدانيّة الدِّينيّة والفكريّة والأدبيّة والفنّيّة؛ التاريخ الذي يحتضن اختبارات الوجدان الجماعيّ المعتني بتدبّر المعيّات الإنسانيّة المتواجهة.

ذكرتُ العناصر التكوينيّة هذه وفق ترتيبها المنطقيّ؛ إذ إنّ الجماعات الإنسانيّة أدركت ذاتَها أوّلاً في رباطٍ أصليٍّ، جعلها تعتقد أنّ لها عرقاً خاصّاً يفصلها عن الأعراق الأخرى. غير أنّ الأبحاث الأنتروبولوجيّة أظهرت أنّ العرق مفهومٌ ملتبسٌ لا يُعبّر عن حقيقةٍ تاريخيّةٍ موثوقةٍ، لا سيّما حين اتّضح للجميع أنّ اقتران الجماعات بالأوضاع الجغرافيّة، والأحوال المناخيّة السائدة في الأرض المستوطَنة، جعل التطوّر البيولوجيّ ينحو منحى التمايز والتفرّد. لو نشأ اليابانيّون في الصحراء العربيّة، لاكتحلت عيونهم بضياء السماء المرصّعة بنجوم الليل الساكن. وعليه، يمكن القول إنّ العرق مقترنٌ بطبيعة الأرض والبيئة والمناخ، وما ينجم عن هذا كلّه من آثار التغيير البيولوجيّ الحاسم.

من الطبيعيّ إذن أن تحتلّ الأرض المرتبة الثانية؛ إذ إنّ الجماعات الإنسانيّة غالباً ما تنحت هويّاتها بالاستناد إلى اختبارات الانتماء الجغرافيّ الأصليّ. أعتقد أنّ الجغرافيا عنصرٌ حاسمٌ في تعيين الهويّة الجماعيّة؛ إذ يشعر الإنسانُ بأنّ احتضان الأرض أشبهُ برحم الأمّ، منه تنبثق الكائناتُ انبثاقاً عفويّاً. بيد أنّ الأرض ليست ملكَ الناس الذين يستوطنونها، بل الحضنُ الرؤوف الذي يجمع ولا يُفرّق. إذا شاءت مصادفاتُ الدهر أن تحلّ هذه الجماعة أو تلك في هذه الأرض أو تلك، فهذا لا يعني أنّ الأرض أصبحت خاضعةً لمشيئة القوم المستوطِنين. كلّنا ضيوفٌ على الأرض، ولا أحد منّا في مقام المالِك المطلق.

من الضروريّ أن يتذكّر الناسُ هذه الحقيقة؛ إذ إنّ مصير الأرض مقترنٌ بالوهم التملّكيّ الذي أفضى إلى المنازعات والاقتتال. أمّا الوجه المشرق في ذلك، فالقولُ بارتباط اللغة الوثيق بما يختبره الإنسانُ من علاقة حميمةٍ بالإيحاءات المنبعثة من جماليّة الأرض المسكونة. يجمع علماء اللسانيّات على أنّ خصائص اللغة تقترن جزئيّاً باختبارات الانتماء إلى الأرض. ومن ثمّ، تتجلّى اللغة حاملةً اختبارات الوجدان الفرديّ والجماعيّ في سكنى الأرض. من صميم هذه الاختبارات تنعقد التصوّراتُ الوجدانيّةُ الجماعيّةُ، يُعبّر عنها الناسُ تعبيراً ثقافيّاً، يتناول جميع حقول الإفصاح، سواءٌ في الجماليّة الأدبيّة، وفي الصوغ المفهوميّ الفكريّ، وفي الرمزيّة الفنّيّة، وفي الروحيّة الدِّينيّة.

أمّا العنصر التأسيسيّ الأخير، فينعقد في مسار التاريخ الذي يختزن اختبارات المعايشة المتطلّبة بين الذات والآخر، سواءٌ على مستوى الفرد، ومستوى الجماعة، ومستوى القوم. لا عجب، والحال هذه، من أن ينطوي التاريخ على عناصر الاختبار الإيجابيّ والسلبيّ، وقد طبعت الوعيَ الإنسانيَّ وفرضت عليه نمطاً معيّناً من التفكير والتعبير والمسلك. لذلك أعتقد أنّ خصائص الهويّة الجماعيّة لا تكتمل إلّا حين نُمسك بجميع هذه العناصر، فنستجلي أثرها في مسار نشوء الوعي الذاتيّ الفرديّ والجماعيّ نشوءاً مُقترناً بما اختزنه التاريخ من اختباراتٍ حاسمةٍ.

من الممكن الآن أن نبحث في العناصر التأسيسيّة هذه عن قابليّات التطرّف الكامنة في الهويّة الجماعيّة. لا أعتقد أنّ العناصر الخمسة هذه تحمل في حدّ ذاتها خطرَ التطرّف، بل الخطر يأتي من بناء الوعي الجماعيّ الذي يتصوّر العرقَ مدعاةً للافتخار والاستكبار، والأرضَ تسويغاً للتملّك الأنانيّ، واللغةَ سبيلاً إلى الهيمنة على وقائع الحياة، والثقافةَ مبرّراً للتفوّق النوعيّ، والتاريخَ بُرهاناً على عظمة الذات الجماعيّة. ولكن من أين يأتي الانحرافُ الخطيرُ هذا في التصوّر الجماعيّ؟ من الواضح أنّ الأصل في ذلك كلّه وعيُ الناس، الذي نحتته التأويلاتُ التضليليّةُ المتراكمةُ في حياة الجماعة. أمّا هذه التأويلات فتقترن في قدرٍ ضئيلٍ منها بتراكمات التاريخ، وفي قدرٍ عظيمٍ بمصالح الأنظومة المقتدرة الحاكمة، سواءٌ في حقل السياسة والاقتصاد والآيديولوجيا الدِّينيّة والقوميّة، وكذلك الفكريّة والعلميّة والإعلاميّة.

من المستحيل أن توحي لنا أرضُنا بالتطرّف. ومن الخلف أن تنطوي لغتُنا على عبارات العنف والإقصاء والدينونة. ومن السخف أن يُسخّر الناسُ الثقافةَ أو الفنَّ أو الدِّين لمناصرة تواطؤاتهم المنفعيّة. العلّة الأصليّة كامنةٌ في تأويل العناصر التأسيسيّة التي منها تنبثق هويّة الجماعات الإنسانيّة، وفق ما تَرسمه لها مصادفاتُ الزمان. لذلك من الضروريّ أن يعتصم الجميع بتواضع الكائنات الهشّة التي تستضيفها الأرضُ استضافةً مجّانيّةً مُطلقةً. ليس لأيّ إنسانٍ من حقٍّ كيانيٍّ شرعيٍّ أصليٍّ، يُخوّله الاستحواذَ على الأرض والبيئة والسماء والفضاء والكون. أمّا هويّاتنا الجماعيّة فثمرةُ تفاعلاتنا التاريخيّة الممهورة بانطباعاتنا البشريّة البنيويّة.

العرق مقترنٌ بطبيعة الأرض والبيئة والمناخ وما ينجم عن هذا كلّه من آثار التغيير البيولوجيّ الحاسم

هل من سبيلٍ إلى الانعتاق من تأويلات التطرّف العنفيّة الجاثمة على هويّاتنا الجماعيّة؟ رأسُ الحكمة الاعترافُ بأنّ الهويّة الجماعيّة ليست كتلةً صلبةً من الحقائق والتصوّرات والمضامين المكتملة الجاهزة، بل مسارٌ حيٌّ من التكوّن التاريخيّ المتدرّج. مشكلة الهويّة أنّنا لا نعاين أطوار نشوئها الزمنيّة المتعاقبة، بل نتلقّفها في حلّةٍ نظنّ أنّها الهيئة التاريخيّة النهائيّة التي استقرّت عليها. جرّاء المدى الزمنيّ الطويل الذي اختمرت فيه أطوارُ التحوّل والتبدّل والتقويم الذاتيّ، لا يستطيع المرءُ أن يعاين الحركة اللصيقة بالهويّة، بل يكتفي بإدراك الثبات الراسخ فيها. زدْ على ذلك أنّ اختبار الحركة في الهويّة يُقلق الوعي الإنسانيّ الفرديّ، ويجرّده من مُسلّماته ومُستمسكاته ويقينيّاته الاطمئنانيّة. ما من إنسانٍ يرغب في اختبار الاضطراب الكيانيّ حين يعاين التحوّلَ الذي أصاب هويّتَه في معترك الاختمار الثقافيّ المديد الزمن.

السبيلُ الآخر يقضي بأن نميّز ثلاثةً من التصوّرات التي نصوغها من أجل التعبير عن هويّاتنا صوغاً يَحكم وعيَنا التاريخيَّ: التصوّر الثقافيّ الأوّل، منبثقٌ من خصوصيّة الحضارة التي ننتمي إليها انتماءَ التأثّر بالعناصر الخمسة هذه: التصوّر الثقافيّ الثاني، منبعثٌ من التأويلات المتطرّفة التي يحرّضنا عليها أهلُ الاقتدار في السياسة والاقتصاد والآيديولوجيا؛ والتصوّر الثقافيّ الثالث، ناشئٌ من إخضاع حقائق الوجدان الجماعيّ لمحكمة التمييز التي تستند إليها شرعةُ حقوق الإنسان الكونيّة في سعيها الدؤوب إلى تهذيب الإنسان واستنقاذه من بهيميّته المتربّصة به. واجبُنا أن نعتصم بالتصوّر الأوّل مستضيئاً بالثالث، وأن ندين التصوّر الثاني. ذلك بأنّه من أقبح أشكال الحيوانيّة المفترسة هذه، أن تتحوّل الهويّات الجماعيّة إلى مُعتركات الإفناء العبثيّ.


مقالات ذات صلة

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية
TT

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة، مع أن مؤلفه الروائي حسن كريم عاتي أصرَّ على تجنيسه على غلاف الكتاب بالرواية.

فالكتاب يفتقد المقومات المعروفة للبنية الروائية ومنها الراوي والمروي له، والمتن الروائي بما فيها من حدث وشخصيات وأزمنة وحوارات ومخلوقات من لحم ودم، وقد يدفع هذا القارئ إلى القول بأن هذا الكتاب عبارة عن مدونة تاريخية عن مدينة بغداد، منذ تأسيسها على يد الخليفة أبي جعفر المنصور عام 144 هجرية وحتى اليوم، بلغة تدمج بين التاريخ ولغة السرد الروائي الحديث.

ولكني، مع كل ذلك، وبرغم كل هذه التحفظات أرى أن هذا النص هو حقاً رواية، لكنها رواية من نوع خاص واستثنائي، وربما يُستحضر مفهوم الرواية هنا من الموروث العربي والإسلامي، حيث كان هذا المفهوم ينصرف إلى نقل وتدوين الوقائع والأحداث التاريخية، أو تناقل الأحاديث النبوية مع الاحتفاظ بسندها ورواتها بما يتفق و«علم الجرح» أو «علم الرجال» في الموروث العربي.

هذه الرواية تتخذ من المكان بطلاً، والمكان هنا مدينة بغداد منذ ولادتها وصباها وبلوغها سن الرشد، وسيرورتها نحو الشيخوخة وصولاً إلى الحاضر. لذا يمكن النظر إلى الرواية هذه بوصفها سيرة أو ترجمة يدونها روائي معاصر لمدينة بغداد، بعد أن أشبعها المؤرخون المتقدمون منهم والمتأخرون دراسةً وتدويناً ووصفاً.

ولا يعمد المؤلف، في البنية الزمنية للرواية إلى التسلسل التاريخي الرسمي أو الكرونولوجي للأحداث، بل إلى منطق حجر النرد وأوجهه الستة، مستهلاً روايته بـ6 تساؤلات، بعدد أوجه حجر النرد، ويتساءل في الفقرة السادسة عما إذا كان ما سيرويه يمثل الحقيقة:

«تساؤلات ستة، تمثل وجوه حجر النرد الصقيل الأبيض، عادة الموشومة فوقه علامات ترقيم التساؤلات بأسود فاحم»، (ص7). لذا يعمد المؤلف بين آونة وأخرى إلى تقليب أوجه النرد باستمرار: «فلنحاول مرةً أخرى تقليب وجه آخر من وجوه حجر النرد» (ص10).

كما تتحول وجوه حجر النرد هذه إلى تمفضلات للبنية السردية للرواية على الوجه التالي: كوكب الهوى (يك)، أساور العروس (دو)، هل أتاك حديث المغل (سي)، هناك من يستذكر الملك (جهار)، أم يأكل الأبناء ثديها (بنج)، الدكتاقراطية (شيش). لكن الباب الثالث الموسوم بـ«باب المراد» يتحرر نسبياً من سلطة النرد.

والرواية لا تعتمد على التاريخ الرسمي، في سرد تشكل مدينة بغداد ونموها عبر التاريخ، بل إلى ما هو مهمش وعرضي ومسكوت عنه من تاريخها، كما نجد تناصات كثيرة مستقاة من كتب تاريخية عن بغداد؛ منها «تاريخ بغداد» لابن الخطيب، و«الروض المعطار في خير الأمصار» للصنهاجي، ومن رسائل سلطانية مختلفة، تضع الخطوط العريضة لكيفية قيادة السلطان أو الخليفة أو الوالي لشؤون الرعية، بما يصح أن نسميه بكتاب «الأمير العربي» الذي سبق كتاب «الأمير» للمفكر الإيطالي ميكافيلي.

ويلعب المؤلف لعبة نرد أخرى يكشف فيها عن التمايز الطبقي الحاد بين النخبة والعامة: «وبتقليب وجهٍ آخر من وجوه النرد، تبدو الصورة أقرب إلى الكمال، ولن تكتمل، فإن التوجيه يظهر لنا التمايز الطبقي الحاد بين النخبة والعامة»، (ص11). ويشير إلى أن «هذا النسق من هيمنة السلطة على (الرعية) أو (العامة) هو القانون المتوارث في سياسة السلاطين لتحقيق اجتماع الرعية وسلامة بقائهم يزفه سلطان في فم سلطان»، (ص12).

ويبحث الروائي في الأسباب التي جعلت الخليفة أبا جعفر المنصور يختار مدينة بغداد عاصمةً بديلة له عن الهاشمية التي اتخذ منها أسلافه عاصمة عند تأسيس الدولة العباسية. فقد كان الخوف يتسرب إلى نفسه من ولاءات الأنصار والمدن البعيدة والقريبة. فالشام محكومة الانتماء للدولة المنهارة، والكوفة منتمية إلى دولة سبقتها، انهارت أيضاً؛ ولذا - وبعد استقصاءات طويلة - قرر ترك مدينة الهاشمية التي اتخذها أسلافه عاصمة لهم، والبحث عن مكان بعيد عن الولاءات المعروفة، فكان أن وقع اختياره على مدينة بغداد لتكون عاصمة المملكة. «ذلك ما كان يفكر به الخليفة، ولو قال له اليعقوبي، ما كان له بعد بنائها... لما خطر ببال الخليفة أن تكون كما قال جزيرة بين دجلة والفرات، دجلة شرقيها، والفرات غربيها، مشرعة الدنيا... فهي واسطة العقد، في مدن الزمان، على ما أجمع عليه قول (الحساب) وتضمنته كتب الأوائل من الحكماء»، (ص23). «وبذا كان اختيار الخليفة لعاصمته الجديدة، فترك الهاشمية وبدأ ببناء مدينة بغداد سنة 145»، (ص28).

وعند تقليب حجر النرد على الوجه «دو» يبتدئ فصل «أساور العروس» بدخول الخليفة المؤسس أبي جعفر المنصور، على بغلة بيضاء مرتدياً قلنسوة الحرب السوداء، وهو يشاهد العرض العسكري، يحف به، وخلفه رجال دولته (ص29)، وتدور رحى الحياة بحلوها ومرها، ويتوالى خلفاء بني العباس إلى أن يدخل عليهم الأعاجم ويجتزون رأس آخر خلفائهم ويرفعونه على باب المدينة المقابل للجسر. (ص39).

ويكشف النرد في حركته الجديدة على الوجه «سي» حكاية دخول المغول، أو المغل، بغداد، واحتلالهم مدن الخلافة من الموصل إلى أسوار بغداد، ونشرهم الرعب بين الناس: «فقد وصلتنا قوافل الهاربين من الموصل إلى أبواب دار السلام»، (ص41).

وفي محاولة لمواجهة هذا الغزو المغولي، جمع الخليفة أمام أبواب المدينة جيشاً بـ800 فارس، هي كل القوة التي استطاع جمعها، لكن جيش المغول كان كبيراً ووحشياً؛ لذا فسرعان ما سقطت بغداد عندما حاصرت جيوش المغول أسوار بغداد وأمطرتها بقذائف النفط والحجارة، ووضع المغول الخليفة داخل كيس جلدي وقُتل رفساً، وهكذا انتهت الدولة العباسية واستبيحت بغداد من قبل المغول أيما استباحة. وفي نقلة جديدة لحركة حجر النرد «جهار» ينتقل المؤلف زمنياً، وهو يؤرخ لبغداد، إلى العصر الحديث عندما عين الإنجليز الملك فيصل الأول ملكاً على سوريا، ثم نقل إلى العراق. وكان العراق قد تخلص للتو من ربقة 4 قرون من الاحتلال العثماني الذي حكم زوراً وبهتاناً تحت اسم الخلافة الإسلامية، ليسقط تحت حكم كولونيالي جديد باسم الانتداب البريطاني على العراق، والذي قوبل بثورة شعبية عارمة، هي ثورة العشرين في الثلاثين من يونيو (حزيران) 1920، التي أجبرت الإنجليز على مراجعة خططهم والتخفيف من وطأة الاحتلال بسلسلة من الإجراءات الشكلية، منها تأسيس مجلس النواب، ومجلس الوزراء، وبناء جيش وطني تحت مظلة الدولة العراقية الجديدة.

وفي نقلة جديدة لحجر النرد «بنج» ينتقل المؤلف إلى الثلاثينات من القرن العشرين، وقد فزعت بغداد لمقتل ملكها الشاب غازي بحادث سيارة، يتهم فيه الناس الإنجليز بتدبيره؛ لذا امتلأت الشوارع بالمحتجين والمتظاهرين المنددين بالسيطرة البريطانية، وبالثأر لدم الملك الشاب. ويستمر نضال الشعب العراقي ضد المعاهدات الاستعمارية في وثبة كانون 1948، وانتفاضة 1952، واختتمت بثورة 14 تموز عام 1958 التي قادها الزعيم عبد الكريم قاسم، بإعلان النظام الجمهوري ونهاية الحكم الملكي في العراق. لكن السرد سرعان ما يقودنا إلى صورة الزعيم على شاشة التلفاز مسجى على الأرض بعد انقلاب الثامن من شباط عام 1963 الذي قاده عبد السلام عارف بدعم من البعثيين الذين مارسوا أبشع أنواع التقتيل والاضطهاد بحق العراقيين. ونجد نقلة أخرى سريعة لحكم أحمد حسن البكر، وإرغامه من قبل صدام حسين على التنازل، في مجزرة «قاعة الخلد» المشهورة.

وفي حركة جديدة لحجر النرد «شيش» يدون الروائي سلسلة جرائم البعث وقائده الديكتاتور صدام حسين، ومنها اجتياحه الإجرامي للشقيقة الكويت، وقبل ذلك حربه الدموية مع الجارة إيران، مما جرّ البلاد إلى المزيد من الويلات منها حرب الخليج لطرد جيش صدام من الكويت التي كان ضحيتها الجيش العراقي. ويستمر مسلسل العنف والانهيار حتى دخول قوات المارينز الأميركية لاحتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين عام 2003. وكان إسقاط تمثال الديكتاتور في ساحة الفردوس كناية عن هذا السقوط وانتهاء حكم دولة البعث وهيمنته الكولونيالية الأمريكية.

وفي الفصل الثالث والأخير من الرواية الموسوم بـ«باب المراد» يدون الروائي، بوصفه مؤرخاً، تفاصيل جديدة لم تستخدم في وجوه حجر النرد المعروفة، جانباً من معاناة الأسرة العراقية التي ثكلت بأبنائها، ومظاهر الفجيعة التي طالت الزوجة والأبناء حيث يصرخ طفلٌ اكتشف حقيقة موت أبيه: «هل يعني ذلك أني أصبحت من دون أب؟!» (ص105). ويعمد الروائي إلى توظيف المفارقة الساخرة أمام جثة القتيل، عندما تعلن الزوجة الثكلى، في لون من الكوميديا السوداء، أن هذه الجثة ليست لزوجها: «الجثة التي أتوا بها لم تكن حليقة العانة، وزوجي قبل ذهابه بـ3 أيام قد حلقها»، (ص106).

وينتقل الروائي من سرد المتن الرسمي إلى سرد الهامش وعالم المهمشين في لقطات متتابعة منها لقطة الفتيات وهن يحملن جرار الماء، ويتوقف أمام منظر مدينة من مدن الطين هي مدينة الشاكرية في جانب الكرخ، التي وجدت مثيلاً لها في الكثير من مناطق بغداد آنذاك: «فالشاكرية في كرخها بين العباسية من شمالها الشرقي، وحتى الكاورية في جنوبها الشرقي، ومن أم العظام في جنوبها حتى محطة غربي بغداد لسكك الحديد، مدينة طين»، (ص115). لكن الشاكرية لم تكن مدينة الطين الوحيدة، فقد تكاثرت مدن الطين في شرق العاصمة وغربها، مثل خلف السدة المسماة بـ«العاصمة» في الرصافة، والوشاش في الكرخ. ويكشف الروائي عن ثمرة هذه المعاناة التي تمثلت في الجذور الأولى لحركة الاحتجاج السياسي متمثلة في شخصية «دوسر» ابن الشاكرية الذي فقد عينه بسبب النضال من أجل الصرائف. (ص122).

تتخذ الرواية من لعبة النرد فضاء سردياً تتمثل من خلاله سيرة مدينة بغداد منذ ولادتها وصباها وبلوغها سن الرشد والمخاطر التي واجهتها حتى الحاضر.

وفي مظهر آخر للكوميديا السوداء يقدم لنا الروائي مشهداً لصاحب بغل (مجاري) فَقَدَ بغلَه وقيل له أن يبحث عنه في هذا الباب، إذ شوهد وهو يدخل هذه البناية، التي كانت مبنى لمجلس النواب (ص125). وعندما روى «دوسر» ابن الشاكرية هذه الحكاية نصحه أحدهم بأن يتجنب سرد هذه الحكاية لكيلا يقولوا عنه إنه من المعادين.

وفي الفصل الأخير «هامش سفر النرد» نكتشف أن المؤلف كان قد وضع عنواناً ثانوياً لمؤلفه هو «سفر بغداد»، وكان ينبغي أن يدرج ولا يحذف كما هو الحال. وبعد أن يستشهد بمقولة دالة للتوحيدي، يختتم الرواية بالقول، ملخصاً تاريخها، الذي يتوج الإنسان على قمة التاريخ والمكان: «فما حدث في بغداد حدث في غيرها من بلاد العرب والعجم، وفي دار السلام وفي دار الحرب، فهو يتصل بالإنسان أكثر من اتصاله بالمكان»، (ص127).

ومن هنا نكتشف أننا إزاء رواية من نوع خاص، قد تتجاوز التجنيس الرسمي لفن الرواية، كما أسلفت، لكنها تظل رواية فيها من الطرافة والجدة الشيء الكثير؛ لأنها تعتمد على التخييل والتاريخ معاً، وتتطلع إلى إجازتها مصنفاً معتمداً: «لإشاعتها بين الخاصة والعامة، ونسبتها إلينا، ونستغفر الله لك ولنا وللعامة». (ص128).

إنها حقاً تجربة كتابية جديدة وفريدة لم نشهد لها مثيلاً في التأليف الروائي، نجح فيها الروائي في بناء رواية تاريخية من مداد افتراضي تخييلي، وبطريقة ذكية ونادرة تستحق الإعجاب والثناء.