العبور والاغتراب في الشعرية العربية الراهنة

الناقد المغربي محمد آيت العميم في أنساقهما الرمزية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

العبور والاغتراب في الشعرية العربية الراهنة

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

صدر، أخيراً، عن دار «أكورا» بطنجة، بدعم من وزارة الثقافة المغربية، كتاب جديد للناقد والمترجم المغربي محمد آيت العميم، تحت عنوان «الأنساق الرمزية للعبور والاغتراب في الشعرية العربية الراهنة».

يأتي الكتاب منسجماً مع انشغالات آيت العميم التي ترجمها في أبحاثه المنجزة على مستوى الجامعة المغربية، أو في كتاباته المنشورة في كتب ومجلات وصحف مغربية وعربية، تناول فيها التحولات التي عرفها الشعر العربي منذ نشأته إلى اليوم، راصداً التطورات والإبدالات التي شملت الشكل والمحتوى.

وضمن هذه الصيرورة، كان طبيعياً أن يتوقف الكاتب عند التحولات الجذرية التي عرفتها القصيدة العربية، والتي أفضت إلى تجاور وتجاوز مجموعة من الأشكال بينها «قصيدة النثر».

يقول آيت العميم في مقدمة الكتاب: «عرف الشعر العربي منذ نشأته إلى اليوم مجموعة من التطورات والتحولات والإبدالات شملت الشكل والمحتوى، وهذا يدل دلالة واضحة على الفاعلية والنشاط والحركية في الفعل الشعري، وأن الشعر العربي الذي هو وديعة الوجدان، والجنس الأدبي القادر على قياس نبض الأمة وحياتها، ما زال لديه مخزون لا ينضب، وإمكانات هائلة لاكتشاف الحاضر واستثمار الماضي واستشراف المستقبل».

تناول آيت العميم منجز شعراء ينتمون إلى هذه التجربة الشعرية الجديدة، اهتدى فيها بنصوص من حساسيات مختلفة، محاولاً بذلك «إبراز التنوع داخل الوحدة، ووحدة الموضوع داخل كثرة النصوص لأجيال متباعدة في الزمن والجغرافيا، والوقوف على بصمة كل شاعر على حدة، من خلال هواجسه الخاصة، وهمومه الذاتية ووجهات نظره حول الوجود والعالم من حوله».

يقول في هذا الصدد: «بدا لي من خلال مصاحبة هذه التجارب الشعرية أن سؤال العبور والاغتراب كان سؤالاً مهيمناً في تجربة قصيدة النثر العربية؛ إذ العبور ارتبط بشعراء عرفوا حقيقة هجرة الأوطان لأسباب مختلفة، وعاشوا في المنافي، وفي أرض الاغتراب. حتى الذين لم يعبروا الجغرافيا عرفوا عبوراً آخر باتجاه الأعماق ودواخل ذواتهم، وعاشوا قلقاً وجودياً وغربة داخل الذات. بهذا المعنى يتحول العبور إلى رمزية كبرى سواء كان عبوراً للأمكنة، أم عبوراً ومجازاً باتجاه الأغوار والمياه العميقة للذات. وقد كانت مخرجاتُ هذا العبور الإحساسَ القويَّ بوطأة الاغتراب».

يرى آيت العميم أن الشاعر العراقي سركون بولص، الذي ينتمي إلى جيل الستينات، «مذ خرج من العراق وهو يعبر الأمكنة إلى أن استقر بأميركا، وكانت تجربته الشعرية الفريدة والقوية محاولة عميقة لتشريح هذا الموضوع عبر كتابة مجددة على مستوى التركيب والتصوير والمعجم والبناء الشعري»، بينما عرف الشاعر العماني سيف الرحبي حياة الترحال والسفر، وكتب شعره من وحي هذه التجارب، و«كان العبور بالنسبة إليه نوعاً من المجاز؛ حيث أضحى العبور المكاني سمة دالة على عبور أكبر هو العبور الميتافيزيقي؛ إذ الإنسان في جوهره وهويته كائن عابر ومسافر أبدي». أما الشاعر الفلسطيني - الأردني، أمجد ناصر، الذي يعد من الأصوات المجددة في قصيدة النثر، فقد «فكك رمزية العبور في أكثر من ديوان، وشرح مفهوم الاغتراب، وكانت ملاذاته في تجاوز هذه الورطة الوجودية هي السكن في الذاكرة واللغة والتاريخ الحضاري». ومن جهتها، قاربت الشاعرة الإماراتية، نجوم الغانم، التي جمعت بين الشعر والفن التشكيلي والسينما، موضوع العبور والاغتراب عبر «توظيفات مجازية كبرى لدلالات الليل التي أفسحت لها المجال كي تغوص في أعماق الذات، بغية فهم اغتراب الكائن في الوجود». بينما حاول الشاعر المغربي محمود عبد الغني، الذي عبر أكثر من جنس أدبي، ما بين الشعر والرواية والترجمة والكتابات الرحلية والذاتية، أن يعبر عن هذا الموضوع بدءاً من مجموعته الشعرية الأولى «حجرة وراء الأرض» إلى «العشب الذي يخفي كل شيء»، من خلال «الهبوط إلى مجاهيل الذات بغية فهم تحولاتها واستيعاب ما تهجس به في غربتها الداخلية». بينما التمس الشاعر المغربي طه عدنان، الذي جرب الغربة وعبر إلى الضفة الأخرى من المتوسط، الملاذ والحضن الدافئ «لتجاوز وطأة الاغتراب المكاني في العالم الافتراضي»، بينما «صادفت هجرته ظهور الإنترنت، فكان من الشعراء الأوائل الذين اتخذوا من هذه الثورة الرقمية موضوعاً شعرياً محاولاً تفكيكه وإبراز كيف تغيرت الحياة بعده». لا ينشغل آيت العميم كثيراً، في دراسته، بالسجالات بين المعارضين والمساندين لهذا الإبدال الشعري، مشيراً، في مقدمته، إلى أن «تحول الشعر نحو النثر، مستفيداً من طاقاته وإمكاناته، هو محاولة جديدة لإسباغ نوع من المصالحة بين الأنواع الأدبية». ويتوقف آيت العميم عند مبررات «اختيار شكل جديد بغية تجريب نمط آخر من القول الشعري حاول الانعتاق من ثقل الإكراهات التي كانت تكبل مغامرة الكتابة، وأيضاً الابتعاد عن الطرق المألوفة التي اعتراها التكرار والاجترار على مستوى البناء المعماري للقصيدة وعلى مستوى الصورة الشعرية بكل مكوناتها»، بعد أن «أصبح الشاعر المعاصر يميل إلى التخفف من أعباء النمطية والقول المطروق، رافعاً تحدياً جديداً للمغامرة الشعرية يسعى إلى الإمساك بتموجات الروح، وبناء تصورات جديدة حول الذات والعالم والأشياء»؛ مع تشديده على أن «ما يميز قصيدة النثر عن بقية الأجناس القريبة منها تلك الكثافةُ وذلك الإيجازُ واللاغرضية».

ينطلق آيت العميم من النصوص الإبداعية، مشدداً على أن خيار الارتهان إلى النصوص الشعرية يدخل في إطار الإنصات إلى التجارب في فرادتها، بغية الإمساك بالخيوط الناظمة لكل تجربة على حدة، في أفق بناء موضوعة شعرية بصمت هذه التجارب، وتتعلق بموضوع «العبور والاغتراب»، حيث حرص على «تشريح» نصوص الشعراء المعنيين ببحثه، وتتبع «تجليات» موضوع «العبور» و«الاغتراب» عبر «الصورة الشعرية» و«الترميزات اللغوية والمعجمية»، و«استخلاص الشبكة الدلالية وبناء معناها ووظائفها في النصوص».

في علاقة «العبور» بـ«الاغتراب»، يشدد آيت العميم على أنه قد بدا له من خلال مصاحبة هذه التجارب الشعرية، أن سؤال العبور والاغتراب «كان سؤالاً مهيمناً في تجربة قصيدة النثر العربية»، من منطلق أن هذا العبور «ارتبط بشعراء عرفوا حقيقة هجرة الأوطان لأسباب مختلفة، وعاشوا في المنافي، وفي أرض الاغتراب»، مع تشديده على أنه «حتى الذين لم يعبروا الجغرافيا، عرفوا عبوراً آخر باتجاه الأعماق ودواخل ذواتهم، وعاشوا قلقاً وجودياً وغربة داخل الذات». وبهذا المعنى، يضيف آيت العميم: «يتحول العبور إلى رمزية كبرى سواء كان عبوراً للأمكنة، أم عبوراً ومجازاً باتجاه الأغوار والمياه العميقة للذات»، في وقت كانت فيه مخرجاتُ هذا العبور «الإحساسَ القويَّ بوطأة الاغتراب».

تتوزع الدراسة بين مقدمة وخاتمة وفصلين، تناول في مباحث الأول عناوين «سركون بولص: الوصول إلى مدينة أين؟ أو العبور إلى اللامكان»، و«سيف الرحبي: رأس المسافر يلوح وسط الإعصار»، و«أمجد ناصر: العابر يصل إلى مدينة الغرباء»؛ وفي مباحث الثاني عناوين «نجوم الغانم: عبور الليل في عزلة الكائن»، و«محمود عبد الغني: الإقامة في الباطن واكتشاف متاهاته»، و«طه عدنان: الاغتراب ودفء الإقامة في العالم الافتراضي». يؤكد آيت العميم في خاتمة دراسته انتصاره للمعاينة النصية، وإنصاته إلى ما حجبته نصوص الشعراء والشواعر، لاعتقاده أن «النصوص هي التي توجه أفق البحث بعيداً عن الوصفات الجاهزة التي لا تبرح مكانها، ولا تقدم جديداً يدهش القارئ لهذه النصوص»، قبل أن يستعرض خلاصاته من حيث الشكل والمضمون للتجارب التي قام بتحليلها.



القدس عاصمة الروح ومدينة الخيال الشعري

القدس عاصمة الروح ومدينة الخيال الشعري
TT

القدس عاصمة الروح ومدينة الخيال الشعري

القدس عاصمة الروح ومدينة الخيال الشعري

لم تكن القدس عبر تاريخها الطويل مجرد مدينة عادية مساوية لمساحتها على الأرض أو لسكانها من البشر، بل كانت على الدوام تفيض عن الوجود الواقعي للمدن والحواضر، لتتشكل من عناصر أخرى غنية بالرموز والإحالات الدلالية المختلفة. فهنا يتقاطع الجسد والروح، الملموس والمجرد، المرئي واللامرئي. كما يكفي أن نتلفظ باسمها حتى تأخذنا حروفه الثلاثة إلى مقام الحيرة، حيث للمقدس نشوته ورهبته في آن، وحيث يتشكل خط التماس الأمثل بين السماء والأرض، وحيث تتحول ترجيعات الصوت وأصداؤه إلى خليط متفاوت المقادير من هديل الحمام وصليل السيوف.

فهذه المدينة التي بُنيت على تل صخري قبل خمسة آلاف عام كانت على مر الزمن مكاناً لاختلاط الهويات والتنوع الإثني والثقافي الذي انعكس على اسمها نفسه، فسميت يبوس على اسم العرب اليبوسيين الذين سكنوها قبل خمسة آلاف عام، وسميت أريئيل وتعني مدينة العدل، وسماها العبريون الذين سكنوها بعد العرب اليبوسيين والكنعانيين بقرون عدة أورشليم وتعني مدينة السلام. كما عرفها الفراعنة القدماء باسم روشاليموم، والأشوريون باسم أورشاليمو، وصولاً إلى الفتح الإسلامي حيث أُطلقت عليها تسمية القدس أو بيت المقدس.

ولعل من باب المفارقات المحضة أن أورشليم التي يحمل اسمها معنى السلام لم يتح لها أن تنعم بسلامها المنشود إلا لفترات قصيرة من الزمن، إذ ظلت عبر تاريخها الطويل محط أنظار الغزاة والفاتحين، واحتشد عند أبوابها الآلهة والأنبياء، فيما كان أتباعهم من البشر يتوسلون تعاليمهم الحاثة على الوئام والحب بأكثر أنواع العنف والتباغض دمويةً وفتكاً. هكذا دفعت المدينة غالياً ثمن رمزيتها الفريدة، وتعرضت للهدم ثماني عشرة مرة، وهي التي دمرها نبوخذ نصر واتخذها داود عاصمةً لملكه، وبنى فيها سليمان هيكله المحفوف بالشكوك، وضمها الإسكندر إلى إمبراطوريته المترامية، وأخضعها بومباي لحكم الرومان، ودخلها السيد المسيح محاطاً بالأطفال وأغصان الزيتون، ومن ثم حاملاً صليبه الثقيل على طريق الجلجلة، قبل أن تصبح جزءاً من الإمبراطورية الإسلامية زمن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، وتتم استعادتها غير مرة من عهدة الصليبيين.

وإذ يتكرر ذكر المدينة في العهد القديم لأكثر من 550 مرة، فإن أنبياء التوراة كانوا يدأبون في زمن ازدهارها على الإشادة بما أعطيته من مجد سماوي وأرضي، حتى إذا سقطت في يد غزاتها الفاتحين رأوا في ذلك طريقة الرب في الانتقام من شعبه الموغل في المعصية وارتكاب الفحشاء. هكذا يخاطب إشعياء سكان المدينة بالقول: «من أجل أن بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق وغامزات بعيونهن، يكون عِوَض الطيب عفونة وعوض الجدائل قَرعة. رجالكِ يسقطون بالسيف وأبطالك في الحرب، فتئنّ أبوابك وتنوح وهي فارغة تجلس إلى الأرض».

وحيث رأى إرميا أن الجحافل القادمة من الشمال لسحق المدينة وإخضاع أهلها للسبي والتنكيل ما هي إلا الجزاء العادل على ما اقترفه أهلها من آثام، يعلن باسم الإله الغاضب «طوّفوا في شوارع أورشليم وانظروا وفتشوا في ساحاتها، هل يوجد عاملٌ بالعدل فأصفح عنها؟ هأنذا أجلب عليكم أمة من بعدُ، يا بيت إسرائيل، أمة قوية منذ القِدم، جعبتهم كقبر مفتوح، كلهم جبابرة فيأكلون حصادك وخبزك».

وإذا كانت الفترة التي بسط العرب سيطرتهم على القدس هي الأطول في تاريخها، فاللافت أن الشعر العربي القديم قد حصر تفاعله معها في الإطار المجازي والاستعاري، مركّزاً على كونها ملتقى الديانات الثلاث ومدينة الإسراء والمعراج، دون أن نعثر على قصائد كاملة اتخذت من المدينة موضوعاً لها.

على أن أي نظرة متفحصة إلى النصوص التي كتبها الشعراء حول القدس لا بد أن تقودنا إلى الاستنتاج بأن هذه النصوص لا تندرج في سوية واحدة، بل ثمة فروق شاسعة بين أولئك الذين حرصوا على سبر أغوار المدينة والكشف عن كنوزها المخبوءة في الأعماق، وبين أرتال النظامين الذين اكتفوا بالاتكاء على المعجم السهل والمستهلك لامتداح أماكنها ومعالمها وسطوحها الظاهرة. وقد يكون «ديوان القدس» الذي جمع فيه الكاتب الفلسطيني أوس يعقوب عدداً غير قليل من القصائد والمقطوعات التي تمحورت حول المدينة هو التجسيد الأمثل لتفاوت مستويات النصوص المكتوبة عنها، سواء من حيث اللغة والأسلوب وأدوات التعبير، أو من حيث الرؤية والمعنى والعمق الدلالي، دون أن يقلل ذلك من قيمة الجهود الواضحة التي بذلها يعقوب لتظهير صوَر القدس وتجلياتها في الشعر العربي.

وإذا كانت وجوه المدينة المنعكسة في مرايا الشعراء أكثر من أن تحصى، فإن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أن غالبية هذه الوجوه قد توزعت بين التأكيد على جوهرها السماوي والنوراني، والتأكيد الموازي على بُعدها الأرضي والوطني، باعتبارها عاصمة فلسطين التي تم اغتصابها ومصادرتها بالقوة الغاشمة، وصولاً إلى رثائها والتحسر على فقدانها والحث على استعادتها من براثن الاحتلال. وهو ما تُظهره قصائد ومقطوعات متفاوتة الأساليب والمقاربات، لكلٍّ من إبراهيم اليازجي وخليل مطران وعمر أبو ريشة ونزار قباني ومظفر النواب وعبد الرحمن الأبنودي ومحمود درويش وغيرهم.

وقد تكون قصيدة عبد الغني النابلسي (1641 - 1730) «سلام على الإخوان في حضرة القدس» واحداً من أفضل النصوص القديمة التي استلهمت روح المدينة وطابعها الإيحائي، وهي التي يقول فيها:

سترتُ الهوى إلا عن القوم فارتقى

فؤادي إلى غيبٍ عن العقل والحسِّ

سريتُ به ليلاً إلى رفرف المنى

وبي زُجَّ في النور الذي جلَّ عن لبْسِ

سماء التجلّي بالبراق صعدْتها

وقد غبتُ عن جسمي الكثيف وعن نفسي

سأهدم ما تبني العقولُ لأهلها

من الفكر في أرض الخيالات والحدسِ

ولم يكن بالأمر المستغرب أن تمتلك القدس في العصر الحديث حضورها المضاعف والاستثنائي بالنسبة للشعراء العرب، سواء في الفترة التي تبعت وعد بلفور وتركيز الحركة الصهيونية على حق الدولة الموعودة في اتخاذها عاصمة لها، أو بعد قيام دولة إسرائيل وإطباقها على المدينة بكاملها في فترة لاحقة. وإذ غلبت الشعارات والدعاوى الآيديولوجية على الكثير من النصوص المتعلقة بالقدس، فإن القليل من الشعراء عرفوا كيف يوائمون بمهارة بين الحماس العاطفي وشعرية التأويل والصور الموحية. ففي قصيدته «القدس والساعة» يكتب راشد حسين متأثراً بمناخات غارسيا لوركا:

«كانت الساعة في القدس قتيلاً وجريحاً ودقيقة

كانت الساعة طفلاً سرق النابالم رجليهِ

ولما ظلَّ يمشي سرقوا حتى طريقَه

كانت الساعة أن تَنبت للأشجار والأحجار

والماء أظافرْ

كانت الساعة عاقرْ»

وعلى طريقته في المزج بين الواقعية الحسية والاحتدام العصبي والعاطفي حاول سميح القاسم في قصيدته «موعظة لجمعة الخلاص» استنطاق الجانب الأبهى من تاريخ القدس، وإسقاط الماضي على الحاضر، متقمصاً شخصية محررها الأشهر صلاح الدين الأيوبي ومخاطباً ريكاردوس قلب الأسد بالقول:

«أنا ملك القدس، نجل يَبوسَ، وريث سلالة كنعانَ وحدي

خليفةُ روح النبي القديم الجديد محمدْ

أنا ملك القدس لا أنت، ريتشاردْ

هي القدس روحٌ وهاجسُ سرٍّ وشعرٍ ومعنى

وجغرافيا تحتفي بالمجرةِ حلماً فلا تتوعدْ

بسيف الجنون المجردْ»

وإذا كان من المتعذر الاستشهاد بمختلف النصوص التي كتبها حول القدس شعراء من مختلف الأجيال والأساليب، بدءاً من خليل مطران وإبراهيم طوقان وعمر أبو ريشة ونزار قباني، وليس انتهاءً بمظفر النواب وعبد الرحمن الأبنودي ومحمود درويش، فإن الختام الأمثل لهذه المقالة هو التذكير برائعة الأخوين رحباني «زهرة المدائن» التي غنتها فيروز بصوت شبيه بالتسابيح، وحمله أكثر من ملاك نحو أجراس المدينة وقبابها وجمالها المنهوب. ومن منا لا يتذكر صرخة «شاعرة الصوت» الابتهالية وهي تهتف بالمدينة السليبة:

«لأجلكِ يا مدينة الصلاة أصلّي

لأجلك يا بهية المساكنْ

يا زهرة المدائنْ

عيوننا إليكِ ترحل كل يومْ

تدور في أروقة المعابدْ

تعانق الكنائس القديمة

وتمسح الحزن عن المساجدْ»